لماذا قسنطينة عاصمة للثقافة العربية فقط؟
سأعالج في هذه المقالة نقطتين اثنتين فقط، تاركا جانبا الحديث (لأنه حديث ذو شجون ومؤلم) عن من سيمثل بلادنا تمثيلا يليق بسمعة الجزائر، وعما ستقدمه وزارة الثقافة الجزائرية في هذه التظاهرة الثقافية من مساهمات قادرة فعلا على المنافسة والإضافات النوعية في مجالات الفكر المتطور، والفن التشكيلي، والآداب الراقية، والمعمار المتميز، وصناعة الكتاب، والسينما، والموسيقى، والإبداع في المعمار وغيرها من أشكال التعبير الحضاري، إن النقطة الأولى تخص عنوان “قسنطينة عاصمة للثقافة العربية” الذي تم اختياره من طرف وزارة الثقافة الجزائرية للتظاهرة الثقافية التي تشهدها مدينة قسنطينة هذه الأيام بطريقة غير ناجحة كعنوان تمثيلي مختزل وذي بعد واحد يتناقض طبعا مع واقع بلداننا التي تشارك فيها. أما النقطة الثانية فتتصل بالسجال الفضفاض الدائر حول هوية مدينة قسنطينة بين كتاب وفنانين جزائريين كانوا ومايزالون مصابين بنزعة النكوص إلى الماضي والذي على أساسه نراهم يثبَتون هويتها في بعد واحد مغلق وعازل للأبعاد الأخرى التي بدونها تصبح هذه الهوية عرجاء تسير على ساق واحدة.
بخصوص النقطة الأولى، فإننا نعرف أن الجغرافيا الممتدة من المحيط إلى الخليج تعج بالقوميات مثل العربية، والكردية، والتركمانية، والسريانية، والأرمنية، والأشورية، والكلدانية، والآرامية، والشركسية، وبالاثنيات الكثيرة ذات الخصوصية الثقافية الواضحة، منها على سبيل المثال فقط: الاثنية الأمازيغية في فضاء منطقة شمال إفريقيا التي يقدر تعداد أفرادها بــ22 مليون نسمة على الأقل.
إنه لا يعقل أبدا طمس أو إلغاء فسيفساء هذه القوميات والإثنيات في تظاهرة ثقافية يفترض أنها تمثل الجميع، وأنها عرس حضاري شامل يطمح مواطنونا ومواطناتنا أن يعانقوا، طوال أيام هذه التظاهرة، ثمرات وإبداعات مختلف مضامين وأشكال وخصوصيات التنوع الثقافي والفني لهذه القوميات والاثنيات التي تشكل نسيج مجتمعاتنا من المحيط إلى الخليج. من هنا، فإنه كان من المفروض – ومن الطبيعي، وعملا بالحصافة السياسية، وبالعدالة المؤسسة على أخلاقيات احترام حقوق الأقليات – إطلاق عنوان بديل على هذه التظاهرة مثل : “قسنطينة عاصمة للثقافات الإثنية، والعربية” أو تسمية أخرى تحقق شرط التمثيل للجميع، وتكون مطمئنة للحساسيات، وغير محركة للإحساس القديم ـ الجديد بالغبن والتهميش في ظل هيمنة وسيطرة مكون ثقافي واحد. في هذا السياق، فإنه ينبغي على المسؤولين عن الشأن الثقافي تجنب شتى مظاهر إقصاء “تنوع” الثقافات والهويات القائم في حياة الناس وفي التاريخ والجغرافيا معا.
لا شك أن التغييب للتمثيل الثقافي العادل بكل أشكاله هو ظاهرة تعرقل ازدهار تنوع الخصوصيات الثقافية والحضارية، وتحول دونها ودون أخذ مكانتها الطبيعية بسلاسة ضمن البنية الكلية المتنوعة والمركبة ضمن نسيج حياتنا الثقافية والفنية. إن هذا النمط من التغييب عن قصد أو بدون وعي إلى جانب عوامل سلبية واقتصادية وسياسية واجتماعية غير عادلة في بلداننا هي التي تغذي التطرف باسم الثقافة والهوية، وتعطي المبرر للجماعات أن تتحصن بداخل “النوستالجيا” إلى الهويات القديمة، وأن تكرر على نحو نمطي تنشيط عمليات النكوص إليها بشكل مغلق ولاغ لغيرها. على هذا الأساس أجد نفسي في حالة من الدهشة والاستغراب جراء السجال الفضفاض حول هوية قسنطينة وما تولد عن ذلك من إثارة لغبار أسئلة من نوع: هل هي أمازيغية أم عربية؟ لماذا هذا الإصرار على تثبيت هذا الكاتب لهوية هذه المدينة الجميلة والعريقة في إطار السجل الرمز العربي فقط، وذاك الكاتب الآخر في إطار السجل الرمزي الأمازيغي فقط وفريق آخر يختزلها هويتها في ثالوث أمازيغي / عربي / إسلامي مبعدا تأثيرات ومكونات الحضارات الأخرى التي عرفتها على مدى 2500 سنة؟ لماذا تقسَم هذه المدينة إلى ثنائية الأمازيغ / العرب المتوازية والمتضادة في الوقت الذي يقول لنا التاريخ بفصاحة تامة إنها كانت عبر التاريخ ملتقى لكثير من الأعراق والثقافات والحضارات؟ يقول أحد الشعراء المعاصرين: إنَ كلَ من له تاريخ يتأثر، ومدينة قسنطينة لها تاريخ أيضا وهويتها المفتوحة على التنوع لا تشبه أحدا سوى تاريخها بكل تجلياته التاريخية، والمعمارية، والثقافية، وأسلوب الحياة.