التيار السلفي الجزائري.. أربعة عقود من التكفير والتفسيق والتبديع
منذ ما يزيد عن أربعة عقود مضت، ومنذ عودة الجامعيين الذين التحقوا بجامعات المشرق العربي الدينية الحنبلية المتشددة، وتخرَّجوا منها سنة 1400هـ 1980م، وجاؤوا يحملون معهم (موسوعة الفتاوى الكبرى لابن تيمية الحراني الحنبلي) والتيار السلفي يعيث في الأمة الجزائرية تفتينا وتفتيتا وتفكيكا وتبديعا وتفسيقا وتكفيرا وتسفيها ونقدا وجلدا للماضي وللحاضر.. وتمزيقا لوحدة الأمة وضربا لأخوّتها ووشائجها الروحية والدينية والوجدانية، وذلك عبر خطاباتهم وفتاويهم وآرائهم المتشددة والمتعصّبة والغريبة والشاذة، والبعيدة عن روح الإسلام، وعن منهج القرآن، وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومنذ ذلك الوقت وهم يشككون هذه الأمة -عبر خطاباتهم- في علمائها وفقهائها وأئمتها ودعاتها ومثقفيها ونخبها الجزائرية الأصيلة، وفي ماضيها الديني والجهادي والحضاري المجيد.. معتقدين أنها أمة سهلة السقوط، وأنها أمة طيعة هينة الانقياد، وأنها أمة ضعيفة الحجة والمقاومة أمام الخطاب الذي يخلب الألباب، والذي ظاهره الكتاب والسنة واقتفاء عمل السلف الصالح من الأمة، وباطنه خدمة الأجهزة الأمنية المعادية، لتفكيك عرى الأمة والدولة الجزائرية، التي باتت مفضوحة من واقع الاحتراب الجدلي عبر منابر الفكر والدين.. وغيره، لأنه خرج من تلك الدائرة المعرفية والدينية، وانداح في خانة الخيانة العظمى لدين ولتاريخ ولماضي ولحاضر ولمستقبل الأمة الجزائرية.
ولمحاسن الأقدار، فقد تصدى لتلك الهجمة المتشددة الرجالُ الأطهار من البقية الباقية من أهل العلم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وغيرهم من العلماء، وفي سبيل ذلك فقد خصصت صحف تلك المرحلة (الشعب، النصر، الجمهورية) صفحة دينية أسبوعية للرد على تلك الشبهات التي كان يثيرها أولئك بخطاباتهم الموتورة، وقد خصصت جريدة النصر يومها صفحة دينية تحت عنوان (السنة والبدعة) للكاتب والأستاذ الدكتور الداعية الشيخ (حسن رمضان فحلة الحموي السوري 1940- حي 2019م) الأستاذ بمعهد تكوين الأئمة بسيدي عقبة ببسكرة، وكانت له صفحة أسبوعية يذود فيها عن حياض السنة، ويبين مفهوم السنة والبدعة، وتلاحقت الأقلام من بعده عبر صحف (العقيدة والنور والبيان والسلام والمساء..)، وتوافد العلماء للعمل في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة بعد تدشينها في عهد الرئيس الراحل (الشاذلي بن جديد. ت 2012م) شهر أكتوبر سنة 1984م، وظهر الشيخ (محمد الغزالي 1917-1996م) وفريقه من المشايخ الأزهريين ممن تصدوا لرعونة وسطحية الخطاب السلفي المتعصب، وقد لاقى الشيخ محمد الغزالي يومها العنت الكبير من أزلام ذلك التيار ولاسيما الطلبة المتعصبين الذين آل أمرُهم لاحقا، إما إلى العصيان والثورة في الجبال في العشرية الحمراء مع الجماعات المسلحة 1990-2004م، نظرا لأفكارهم المتطرفة، أو للارتماء في أحضان أجهزة الأمن والمخابرات العالمية التي جعلت منهم وقود الحرب الأفغانية سنوات 1989-1999م، أو كأعوان وخدمة للأجهزة الداخلية التي استغلّتهم لتعكير المشهد الديني الجزائري السليم، وشغْله بنفسه في المعارك الجانبية حتى لا يتسنى له مقارعة مفاسد وضلالات وكبائر وجرائم النظام الفاسد.
وقد تصدى لهم العلماء والفقهاء والدعاة والكتاب والمثقفون مستخدمين كافة الوسائل والوسائط لفضح حقيقتهم الكيدية التي موَّهوها بغطاء الكتاب والسنة واتباع السلف الصالح من الأمة. وفي سبيل ذلك فقد كتب الشيخ محمد الغزالي أكثر من عشرين كتابا للرد عليهم، وتبيّن خطلهم وسوء فهم وتجنيهم على الدين، كما كتب وألف الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ويوسف القرضاوي وطه جابر العلواني وعمر عبيد حسنة وأحمد الريسوني وعبد السلام ياسين… وغيرُهم الكثير في مشارق الأرض ومغاربها، يفندون بالأدلة مزاعمهم وباطلهم وتشددهم وتعصبهم وسوء فهمهم للدين، حتى غدا أمرهم مكشوفا ومفضوحا في ثنايا الكتب والمؤلفات، بالأدلة الشرعية والنقلية والعقلية أيضا، إذ ما ترك العلماء من دليل قرآني أو نبوي أو راشدي أو تابعي من القرون الخيرية الأولى ولا فهم سويّ لجيل العلماء المدققين والمحققين من سلف وخلف وعدول هذه الأمة، إلاّ وساقوه لعلهم يرعوون ويعودون نحو الرأي الجامع، لأن القاعدة تفيد (لا يُنكر المختلَف فيه، إنما يُنكر الاختلافُ في المتفق فيه)، ومع كل ذلك فقد ظلوا في غيِّهم سادرين، وفي عنادهم وتنطعهم ماضين، حتى غدا بهم الشطط إلى تكفير ما عداهم، وهو عينُ الإثم الذي وقع فيه غلاة الخوارج..
ولما طورد هذا الفكرُ الضال والمنحرف وهُزم علميا ودعويا وواقعيا في العالم، لم يجد له من أرض يتحرّك فيها ومعقل يتحصّن فيه سوى أرض الجزائر، التي أرادها الأعداء أن تكون مخبرا يجربون فيه نظرياتهم الهدامة، التي عمل مروجوها على تفكيك وحدة الأمة الجزائرية، وذلك بضرب مساجدها وأئمتها وروادها، فلا يجدون رخصة شاذة، أو رأيا غريبا، أو قولا مرجوحا، أو دليلا ضعيفا أو متروكا إلاّ واجتهدوا يقوُّونه ويعضدونه ليخالفوا وليشاقُّوا ما عليه مذهب الأمة الجزائرية، وذلك عبر جحافل وقوافل الشباب السلفي المندفع والأبله، والذي لا يفكر أبد في منافع عقله، والذي يدمن الاتِّباع والتقليد الأعمى، ذلك الشباب الذي فقد إنسانيته وآدميته وكرامته بالعبودية للأموات، وبفقده لميزته الحقيقية عن بقية المخلوقات وهي العقل، ذلك الشباب الحالم بالخلافة وبهارون الرشيد وببغداد وبحي الكرخ، وجؤار الإمام أحمد بن حنبل في وجه الخليفة المتوكل عن قصة خلق القرآن.. وغيرها من أحلام اليقظة المرضية.. ذلك الشباب الذي كان يصر على معاندة الأئمة والتشكيك في علمهم وقدرتهم على فهم الدين، ويندفع في إطلاق أبشع الأوصاف في حق أئمة الأمة وفقهائها وينعتهم بـ: الضالين والمبتدعين والفاسقين والمشركين.. وغيرها من النعوت الجاهزة.. وصارت جلسة الاستراحة، والنهي عن دعاء القنوت، وعدم رفع الأيدي في الدعاء، وترك صدق الله العظيم، ومسح الوجه بعد الدعاء، ولبس القميص، وإرخاء اللحية وتخضيبها، والإفطار قبل المغرب والسحور بعد صلاة الصبح… وغيرها من المسائل السنية الخلافية الدليل.. هي كل عدّتهم في عالم الاحتراب المسجدي.
إلى أن ظهرت فينا آخر خرجات مرجعيتهم الكبرى في الجزائر (فركوس)، الذي تربى وترعرع هو وأتباعه في محاضن ومنافع ومخططات أجهزة المخابرات، التي عكرت صفو المشهد الديني في الجزائر باللافتات الإشهارية بـ(السلفية الجهادية، السلفية الحركية، السلفية العلمية، السلفية التكفيرية، السلفية المعتدِلة..).. وهم صنوُ (السلفية السرورية، والجامية، والريمية، والهلالية، والمدخلية، والألبانية، والحلبية الأثرية..).. وهي كلها تسمياتٌ مخابراتية لا غير.
ذلك المرجع الذي عميت عيناه وانطمست بصيرته على محاسن وروائع هذه الأمة الجزائرية المسلمة الجريحة، وران على قلبه الضلال التجسيمي التشبيهي الراكد القدري، ومحا على خاطره التعصُّبُ القاتل، وقتل ضميرَه حسناتُ وروائعُ النظام الفاسد.. وحاد بعلمه وثاقب نظره السلفي عن كل ما كان يفعله جلاوزة العهد البوتفليقي في الأمة الجزائرية المقهورة من موبقات وآثام وجرائم.. وعوض أن يتوجه إلى النظام الفاسد ويقاومه ويقول كلمة حق في حق تلك الأمة المقهورة التي خرج من صلبها، ويحمل هويتها وبطاقة انتمائها ونسبها.. نجده يرتكب موبقته الكبرى -التي يجب أن يتوب إلى الله منها- ويتجه إلى هذه الأمة الجريحة والمثخنة بالنصال والدماء، والتي مازالت لم تنكأ جراحاتها، بخطابه السلفي الأبتر، والبعيد جدا عن صريح الشرع، والمجافي مجافاة كلية عن صحيح وظاهر الكتاب والسنة التي يدَّعي نسبتَه إليها، ليقول لها بكل طوباوية وتيه وانفصال عن مجريات حياتها وواقعها المرير، (طاعة السلطان واجبة)، والسلطان هنا –حسب فهمه القاصر للخلافة وللخليفة- هو الرئيس المخلوع شعبيا وجماهيريا بفعل الحَراك التكريمي العزيز، وليقول لها: (بحرمة الخروج على الحاكم ما لم يبد منه كفرٌ بواح)، ونسي –المفصول عن واقعه- أن كل مشاكل الأمة الجزائرية من تيه وضلال وضياع ومسخ وتشويه واستغراب وفرْنسة وخروج عن الملة، وفقر وفاقة وجوع وحرمان واحتقار وإذلال وعبودية وقهر وانسداد أفق وضياع أمل.. وغيرها، إنما كانت بفضل فتوحات النظام الذي ما فتئ وأتباعُه يسبحون بحمده ويهللون، وأي جرم أعظم من هذه الموبقات التي أثخنها النظامُ الفاسد في الأمة الجزائرية طيلة ثلاثة عقود.. ونسي أن تعريف الخلافة عند من كتب في السياسة الشرعية (أبو يعلى الفرا الحنبلي، الماوردي الشافعي، السمرقندي الحنفي، ابن تيمية الحنبلي..) من أنها نيابة عن الأمة وحراسة للدنيا والدين. فأي نيابة كان يمثلها النظامُ الفاسد؟ وأي حراسة للدنيا والدين كان يمثلها ذاك النظام الاستبدادي؟
وفحوى خطابه الذي خلص إليه بعد طول فهم للدين، من أن هذه مجرد أمة ضالة مبتدعة لا علاقة لها بالدين الصحيح، فهي ليست من ملة الإسلام، غير هو وجماعته الضالة، التي شوّهت الإسلام، وقدمته على أنه دينٌ عنصري متعصب متشدد، منغلق على فُتات البله والمغفلين من معتوهي التيار السلفي المأجورين للدوائر الأجنبية الخارجية المتربصة بهذا الوطن العزيز.
والمهم هنا أن نتوجّه إلى أولي الأمر لنقول لهم: أما آن الأوان ليتراجع هؤلاء المارقون عن إمامة الأمة؟ وأما آن الأوان لتغلِقوا أفواههم العامرة بالضلالات؟ وأما آن الأوان لتعيدوا المنابر والمحاريب لأصحابها الحقيقيين؟ أما آن الأوان لتُطمئنوا هذه الأمة وتصلحوا لها أمرَ دينها الذي هو عصمة أمرها والذي عاثت به أيادي المفسدين السلفيين مدة أربعة عقود؟
ماذا تنتظرون؟ وقد أخرج زعيمهم (فركوس) وأتباعه –بجهلهم وصلفهم- الأمة الجزائرية من ملة الإسلام؟ إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.. اللهم اشهد أني بلغت.