-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الثورة الجزائرية في الشعر العربي

عثمان سعدي
  • 8578
  • 0
الثورة الجزائرية في الشعر العربي

في سبعينيات القرن الماضي عملت سفيرا في العراق وسوريا، فجمعت الشعر الذي نُظم في الثورة الجزائرية، نشرت عشرات الإعلانات ووصلتني قصائد لا من المدن الكبرى فقط وإنما من 20 مدينة وقرية في كل قطر. في العراق نُشر لي ما جمعته في كتاب عنوانه ”الثورة الجزائرية في الشعر العراقي” ضم 255 قصيدة، نظمها 107 شاعر وشاعرة من 19 مدينة وقرية عراقية، منهم شعراء كبار مثل محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة، الكتاب في ألف صفحة، طُبع في جزأين ثلاث طبعات بالعراق والجزائر

عندما انتقلت إلى سوريا جمعت 199 قصيدة نظمها أربعة وستون شاعرا وشاعرة من 20 مدينة وقرية، منهم شعراء كبار مثل سليمان العيسى ونزار قباني ومحمد الحريري، طُبع لي كتاب عنوانه ”الثورة الجزائرية في الشعر السوري” في ألف صفحة وفي جزأين

وفي زيارة سريعة للسودان سنة 2009 جمعت 14 قصيدة قيلت في ثورتنا نظمها عشرة شعراء من السودان، منهم الشاعر السوداني الكبير الهادي آدم الذي غنّت له أم كلثوم قصيدة ”أغدا ألقاك”، لي كتاب تحت الطبع عنوانه ”الثورة الجزائرية في الشعر السوداني”. المجموع الذي جمعته في هذه الأقطار الثلاثة 468 قصيدة غناها 181 شاعرا وشاعرة. وإلى القارئ الكريم نماذج مختصرة من هذا الشعر بمناسبة الذكرى التاسعة والخمسين لثورة نوفمبر – تشرين الثاني.

فبدر شاكر السياب يعتبر الثورة الجزائرية حدثا أخرج العرب من القبور الميتة ورفع ضوء الحياة بدنيا العرب، ويرمز للثورة بسيزيف الذي حكمت عليه الآلهة بأن يَصعد بصخرة على ظهره إلى قمة الجبل فتتدحرج منحدرة إلى السفح فيعيدها لقمّته وهكذا، لكنه في الجزائر تخلّص سيزيف أي العربي من عبء الصخرة على جبال الأطلس، في وهران، ثم يتأوه الشاعر لأن وهران هنا بالعراق أي بغداد لا تثور على نظام حلف بغداد العميل :

بشراك يا أجداث حان النشور

بشراك.. في (وهران) أصداء صور

سيزيف ألقى عنه عبء الدهور

واستقبل الشمس على الأطلس

آه لوهرانَ التي لا تثورْ

ويبلغ الشاعرَ نبأُ استقلال الجزائر وهو على فراش المرض الذي أنهى حياته، فينظم قصيدة عنوانها ”ربيع الجزائر”، يصف في مقطع من مقاطعها انتظار زوجة المجاهد عودته، لكنه لا يعود فقد كتبت له الشهادة، وهو يعبّر بذلك عن هذا الانتظار الذي عمّ الجزائر كلها صباح الاستقلال :

وكم دارةٍ في أقاصي الدّروب القصيّة

مفتّحةَ الأبواب، تقرعه الريح في آخر الليل قرْعا

فتخرج أمُّ الصغار

ومصباحها في يد أرعش الوجد منها،

يرود الدجى، ما أنار

سوى الدرب قفرِ المدى، وهي تصغي وترهف سمعا

وما تحمل الريح إلا نباح الكلاب البعيدْ،

فتخفت مصباحها من جديدْ

ومحمد مهدي الجواهري في عينيّته ذات المائة بيت يعتبر ثورة الجزائر مُنى الأمة العربية التي تقف صفا واحدا في دعمها :

جزائر ما أنتِ مجذومـةٌ ولا أنتِ بالوِتر لم يشفع

ولكن مُنى أمة والصميم وذَوْب حشاشتها أجمـع

ويعتبر الجواهري فرنسا التي تزعم أنها تنشر القيم بالعالم فاجرةً تعلّق صورة المسيح على سريرها، لأنها هدمت سجن البستيل رمز العبودية بفرنسا، لكنها بنت بساتيل في الجزائر :

لكِ الويل فاجرةً علّقـتْ صليبَ المسيح على المِخدعِ

تهدّم بستيلَ في موضــعٍ وتبني بساتيــلَ في موضعِ

وفي قصيدة أخرى أنشدها عن قرصنة فرنسا باختطافها طائرة القادة الجزائريين الخمسة، يقول إن فرنسا تصورت أنها تنهي الثورة بخطف قادتها، ولا تعلم أن الأرحام التي أنجبت هؤلاء الخمسة لن تُصاب بالعقم فتلد غيرهم، ويشبّه هؤلاء بالباب لكن المصنع الذي يصنع الأبواب بقي قائما وهو الشعب الجزائري، فالأمة العربية في أرض الجزائر تبرهن للّه أنها خُلقت كي تبدع، ويسمي الجزائر بجزر المغرب :

أمةٌ سوف تُري خالقهـا أنها قد خُلـقت كي تُبدعا

جزرُ المغرب يا أسطورةً تُلبس الأهوالَ لونا ممتعـا

الأذى تدفع عنه بالرّدى طاب أسلوبا لها مبتدَعــا

خمسةٌ إن بطونا حملـتْ ثِقْلَهم ما عُقمتْ أن تضعـا

جهِل الصّنعةَ نِكْسٌ أحمقٌ سرِق الباب وعاف المصنعا

ويقرّر الفدائي صدّوق أطال اللّه عمره اغتيال الخائن علي شكّال وهو بجانب رئيس الجمهورية الفرنسي روني كوتييه في ملعب لكرة القدم بباريس، فينظم الشاعر العراقي هاشم الطعان قصيدة من أجمل ما نظم يخاطب فيها صدوق قائلا :

وتحلّقوا في موكب من حوله

فكأنهم زفّوه (قُرْبانا) إليكْ

لتذوبَ أُبّهة الحجرْ

في لَمحةٍ من مقلتيكْ

ما حدّقوا في ناظِريْكْ

بل شدّهم شيءٌ تألق في يديْكْ

فكأنهم شهِدوا الخليقة من جديدْ

حتى إذا عصف الحديدْ

دارت على الجبهاتِ صفَعاتُ الكآبهْ

وانهار عُبّادُ الحجرْ

لمّا أذبتَ لهم ضبابهْ

ويكاد لا يكون بطل من أبطال الثورة إلا وذكر في الشعر العربي، يستشهد البطل العقيد عميروش فيحييه الشاعر العراقي كاظم جواد بقصيدة عنوانها ”عميروش ذئب الجبل”، كما كانت تلقّبه الصحافة الفرنسية، يقول فيها :

مات وفي عينيه شيءٌ من لهيب المعركهْ

مات ووهران سماءٌ لم تزل مُحْلَوْلكه

مات على السفح وحيدا يحضن البريقْ

في مقلتيه يُسكب الحريقْ

عَميروشْ

عميروش

هل تسمع الجيوشْ؟

تهبط في معاقل الأوراسِ والتلولْ

لتزرع السهولْ

بديلَ كل جُزمة وقنبلهْ

شُجيْرةً وسُنبلهْ

يختم الشاعر قصيدته بأن هدف الثورة القضاء على وسائل القتل وزرع الجزائر بالخير والنّماء

الشاعرة العراقية صبريّة الحَسّو، قابلتُها في بغداد فروت لي ما يلي: ”في عيد من الأعياد كنتُ مع زوجي وأطفالي نتمتع بنِعَم العيد، وفجأة انهمرت عيناي بالدموع، فصاح أطفالي لماذا تبكين يا ماما؟ فقلت لهم: تذكرت الآن كيف يقضي أطفال الجزائر العيد، ثم توجهتُ إلى المكتب وسحبت ورقة وقلما وحررت قصيدة عنوانها ”هدية إلى أطفال الجزائر”، وهي قصيدة جميلة لا يمكن إلا أن تصدر عن امرأة وأمّ. تقول فيها :

وهناك لا تنسَيْ صِغارًا

مثل طفلك يظمأونْ

للحبّ والدفءِ الحنونْ

ليدٍ ندِيّه

ليد يقطّعه الحنينْ

شوقا فيعتصر البقيّه

شوقا فيهمس في خُفوتٍ

لو ضم طفلته إليه

كما يضم البندقيهْ

هي ذي هديّه

قُبلٌ نقيّه

من كل أمّ في العراقْ

تعيش في ألم الجزائرْ

قبل نقية

قبل لأطفال الجزائرْ

لنلاحظ كيف تصور الشاعرة المجاهد في الجبال وهو يتذكر في هذا العيد طفلته الصغيرة فيقبّل البندقية بين يديه متخيلا أنها طفلته البعيدة عنه

ونختم هذا المقال بقصيدة الشاعر السوري الكبير محمد الحريري ”حانة فرنسية فجّرها مجاهد جزائري”، والحانة هي نادي الجيش الفرنسي بالكورنيش بالجزائر العاصمة، حيث يصف فيها بدقة كيف كان الضباط الفرنسيون يجرعون كؤوس الخمر حتى تنسيهم الويلات التي يلاقونها كل يوم على يد الثوار الجزائريين، ثم يقع الانفجار، نورد من مقاطعها الستة ثلاثة مقاطع :

وتدور الكأس والرأس يدورْ

وتنادى واحد بين الحضورْ

من هم الثوار حتى يملأوا منا القبورْ

آه لو جاءونا لنلقاهم هنا

آه لو.. ثم تنادَوْا

أيها الساقي اسقنا

قطرة من أمْننا

لستَ تدري ما بنا

* * *

لحظةً وانتثر المقهى وطارا

إنها قنبلة جاشت دمارا

بثها زَنْدٌ خفيف الأُنملهْ

قد تهاوى من ربى مشتعله

فوق حشد دنِسٍ كي يغسلهْ

* * *

أيّ مشهدْ

جثث بالأرض تعقدْ

قدم فوق فمٍ

وعيون سقطت عنها الجفونْ

وأصابعْ

نُظمت فوق الجباهْ

مثلما يُنظم رائعْ

الخلاصة: العرب هم من دعم ثورة أول نوفمبر، اعتبروها أعظم حدث عربي مسح آثار هزيمة الجيوش العربية بفلسطين سنة 1948، والشعراء العرب هم من تغنى بأمجادها وذكر كل حوادثها، واعتز بأبطالها وشهدائها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!