الثورة الجزائرية في عيدها السبعين: التضامن العربي لتحرير فلسطين
تحيي الجزائر الذكرى السبعين للثورة التحرير الجزائرية، على أمل أن نستخلص من محطاتها ورسالتها الخالدة ومشروعها الحضاري، دروسا وعبرا للتصحيح وتعديل واستشراف المستقبل. لقد حظيت الثورة التحريرية الجزائرية وتجربتها التاريخية باهتمام الكثير من الباحثين على اختلاف جنسياتهم وإيديولوجياتهم، للأهداف النبيلة التي كانت ترمي إليها، والمبادئ الفكرية والقيم الإنسانية التي تأسست عليها، وكذا مشروعها الحضاري المتمثل في إرساء قواعد الدولة الوطنية العصرية على الساحة الدولية في فترة ما بعد الاستقلال.
ولعل ما يجسد هذا البعد الفكري والإنساني لأدبيات ونصوص الثورة الجزائرية، هو تلك المعركة السياسية التي جرت بين القوات الوطنية والاستعمار، التي لم تكن فقط معركة قمع وسجون وإضرابات وانتخابات وقوانين مجحفة وتمرد صارم عليها، بل كانت أيضا معركة مفاهيم ومبادئ وقيم تتصارع فيها الأفكار بين الاستعمار وأطياف الحركة الوطنية، وما حملته من مشروع حضاري مفعم بالمبادئ والقيم الإنسانية النبيلة. ولاستخلاص هذه العبر والدروس من محطات الثورة الجزائرية ومشروعها الإنساني، اغتنمنا فرصة إحياء الذكرى السبعين للثورة الجزائرية، تحت عنوان الثورة الجزائرية في عيدها السبعين: كنموذج لتحرير فلسطين.
وللوقوف عند تلك المحطات وما حملته من رسائل وعبر، كان لزاما علينا العودة إلى أصولها وجذورها وإرهاصاتها، التي تعود إلى الانتفاضات والمقاومات الشعبية المتعاقبة، التي اندلعت منذ وطئت أقدام الفرنسيين الأراضي الجزائرية في جويلية 1830، كمقاومة أحمد باي والأمير عبد القادر الجزائري ولالة فاطمة نسومر والزعاطشة والشيخ المقراني والشيخ بوعمامة… وغيرها من المقاومات، بالإضافة إلى ذلك، نجد الدور البارز والقيادي للزوايا والطرق الصوفية ورجال الإصلاح في المحافظة على مبادئ المجتمع الجزائري وقيمه، والدفاع عن هويته وانتمائه الحضاري.
لقد اتبعت الحكومة الفرنسية خطة محكمة للتفرد بحكم الجزائر (1830-1880) وعزلها عن محيطها المغاربي، ففي المرحلة الأولى نهجت سياسة “فرّق تسد” بين الجزائريين والتونسيين والمغاربة، بقطع كل أواصر الدعم والتضامن مع الجزائر، وبعد القضاء على المقاومات والانتفاضات، انتقلت إلى المرحلة الثانية ابتداء من سنة 1881، لتأمين وجودها الأبدي بالجزائر، باحتلال كل من تونس والمغرب. والملاحظ، أن المقاومات والانتفاضات الجزائرية، كانت سببا وعاملا في تأخّير احتلال تونس إلى سنة 1881 والمغرب إلى سنة 1912 وتغيير صبغة نظام الاحتلال Occupation والاستعمار Colonisation بالحماية Protection.
لقد كانت الحرب بين الجزائريين والفرنسيين كرّا وفرّا، وانطلاقا من التقييم المعمّق لمرحلة الثورات الشعبية، دخلت المواجهة في المحطة الثانية، وهي مرحلة لملمة وتوحيد الصفوف وإعداد الإستراتيجية وخطة الطريق، لمواجهة مشروع الاحتلال الفرنسي، بنشر الوعي والمعرفة والتعليم والتثقيف، وتأسيس المدارس والجمعيات والصحف، وإرسال التلامذة والطلبة الجزائريين، إلى كل من مدارس الزوايا والطرق الصوفية الموجودة بالجزائر وتونس والمغرب، وإلى جامع “الزيتونة المعمور” الذي انتسب إليه أغلب الطلبة ابتداء من سنة 1876، وجامع “القرويين” بفاس، وجامع “الأزهر” بمصر والمشرق العربي.
انطلقت مرحلة المقاومة السياسية والثقافية بعد الحرب العالمية الأولى، برجوع الطلبة بالإجازات والشهائد متعدّدة الاختصاصات من كل فرنسا وتونس والمغرب ومصر واستقرارهم بالمدن الجزائرية، فتأسّست العديد من المدارس الخاصة والجمعيات والأحزاب والجرائد والنوادي، ونشط أئمة المساجد في العديد من المدن والقرى، متخذين من الجوامع والمساجد مركزا ومنطلقا لتعليم والتثقيف ونشر الوعي والمعرفة، وأدى كل من الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ محمد البشير الإبراهيمي وبعض شيوخ الزوايا والطرق الصوفية المتحرين من وصاية الإقامة العامة الفرنسة وزملائهم بعد تخرجهم من الزيتونة وحصولهم على شهائد، دورا محوريا بمؤازرة العلماء الجزائريين، ومثلت الإرهاصات الأولى للثورة الثقافية.
وهذا الحراك والنشاط الحزبي والجمعوي الجزائري تطور ليصبح مغاربيا، وقد ساهمت فيه الجالية المغاربية، وبالخصوص الطلبة الجزائريين والتونسيين والمغاربة الدارسين في فرنسا، بتشكيل حزب نجم شمال إفريقيا وجمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين سنة 1927، لينتقل الحراك المغاربي السياسي بعد الحرب العالمية الثانية إلى المشرق العربي (مصر والعراق وسوريا)، وتزداد عرى التنسيق بين الحركات الوطنية الجزائرية التونسية والمغربية.
واندلعت الثورة التونسية في 18 جانفي 1952، وطالبت بجلاء الفرنسيين، ودخلت الحركة الوطنية الجزائرية في مرحلة الإعداد للثورة، مستفيدة في ذلك من التجارب ودروس الانتفاضات والمقاومات والثورات السابقة، واتبعت إستراتيجية تمثلت في التخطيط لثورة شاملة في كامل التراب الجزائري، ونقلها إلى كل من التراب التونسي والمغربي أي مغربتها، وهنا تظهر عبقرية الثورة والقيادة الجزائرية، وقد تفطنت الحكومة الفرنسية لهذا المخطط، الذي قادها إلى انتهاج سياسة استباقية من خلال وضع خطة وإستراتيجية، تمثلت بالدخول في مفاوضات مع التونسيين والمغاربة، لعزل الثورة الجزائرية عن محيطها وفضائها المغاربي والتفرد بها، ومنحت تونس الاستقلال الذاتي في 3 جوان 1955، وأمام قوة الثورة الجزائرية وتوحد الثوار وانضمام عدد من التونسيين والمغاربة إليها،كلها عجلت بدخول الفرنسيين في مفاوضات جديدة، اعترفت بموجبها باستقلال كل من تونس والمغرب في مارس 1956.
هذه الخطوة الاستباقية لم تكن كافية، في ظل تواجد الجيوش الفرنسية، في كل من المغرب وتونس، وقد سلك سياسة العربدة والتنطع، وتمركز بالجزائر وعلى طول الحدود وعدم اعترافه بالاستقلال والتزامه بالاتفاقيات والمعاهدات المبرمة، وقد تيقنت الحكومتان التونسية والمغربية بأنه “لا معنى للاستقلال” دون الجزائر، ودخلت في مفاوضات جديدة مع الفرنسيين، اتفقت بموجبها على تشكيل كونفدرالية شمال إفريقيا أو اتحاد بين تونس والجزائر والمغرب، عقدت ندوة لإعلان هذا المشروع في أكتوبر 1956 بتونس، بمشاركة كل من الحكومة التونسية والمغربية والفرنسية وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، ولكن المشروع أجهض وأفشل من قبل الجيش الفرنسي والمعمرين، على إثر حادثة اختطاف قادة الثورة الجزائرية في الخامس 22 أكتوبر 1956.
في الحقيقة، يمثل تاريخ 22 أكتوبر 1956 اختطاف القادة الجزائريين، محطة هامة في تاريخ الثورة الجزائرية بمغربتها وشحنها بالبعد المغاربي، واتفقت تونس والمغرب على دعمها على كافة المستويات، وتسخير استقلالهما لخدمتها، طرفا في الحرب التحريرية.
وأمام تزايد نجاحات وانتصارات الثورة الجزائرية، وهزائم وارتباك وتهور الحكومة الفرنسية، التي قامت بجملة من الحماقات، من أبرزها قنبلة قرية ساقية سيدي يوسف بولاية الكاف في 8 فيفري 1958، واستثمرت الحكومة التونسية هذه الحادثة بتدويل القضية الجزائرية، مستندة في ذلك إلى أن الحرب في الجزائر أصبحت تهدد السلم العالمي والمنطقة المغاربية. وتسارعت الأحداث ودخلت كل من أمريكا وبريطانيا على خط المساعي الحميدة، كوسيط للتقريب بين الوجهات وحلحلة القضية الجزائرية، في هذه الظروف انعقد مؤتمر طنجة بالمغرب في أفريل 1958، وقد ساهمت كل هذه العوامل في ميلاد الحكومة الجزائرية المؤقتة في سبتمبر 1958، واتخذت من تونس مقرا لها، وأخذت القضية الجزائرية منعطفا آخر عبر المزاوجة بين السياسي والعسكري والإعلامي، وراهنت على كسب الرأي العام الدولي والغربي عن طريق الإعلام، ليتم طرح مسألة حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره في أعلى المنابر الدولية، وتُجبر فرنسا على الدخول في مفاوضات، أعقبها الاعتراف باستقلال الجزائر في مارس 1962.
لقد غيرت ملحمة الثورة الجزائرية، بحق، الخريطة الجيو- سياسية بالمنطقة العربية والإفريقية، باسترجاع الجزائر سيادتها، وتثبيت الاستقلال التونسي والمغربي، وهزم الإمبراطورية الاستيطانية الفرنسية في كامل إفريقيا، ونالت العديد من الدول الإفريقية استقلالها تباعا، وأصبحت الثورة الجزائرية أنموذجا يحتذي به في الكفاح ضد كل أشكال الظلم والغطرسة واستعباد الشعوب، ودليل ذلك تنامي حركات التحرر في العالم بأسره ومشروع وحلم الثورة الجزائرية تحقيق الوحدة المغاربية. وبعد الاستقلال، انطلقت مرحلة البناء وتشييد الدولة الوطنية، التي لم تكن سهلة، أبدا بسبب العراقيل والصعوبات والألغام والقنابل الموقوتة التي زرعها الاستعمار الفرنسي وتركها قابلة للانفجار، ومن بينها الملاحق السرية لاتفاقيات الاستقلال ومسألة الحدود والجهل والفقر، ما أثر على مشروع وحدة المغرب العربي الكبير، الذي ناضلت من أجله الحركات التحريرية والوطنية والحزبية المغاربية، ودعت إلى تجسيده على أرض الواقع بعد طرد الفرنسيين، وبالرغم من المصالحة التاريخية الأولى في قمتي زرالدة ومراكش وتأسيس اتحاد المغرب العربي في فيفري 1989، بقى الاتحاد المغاربي يدور في حلقة مفرغة، بسب المشاكل الحدودية والاختلاف بين الأنظمة السياسية. وباعتبار الدولة الجزائرية وصية ومؤتمنة على رسالة الثورة الجزائرية ومبادئها وتجسيدها على أرض الواقع، ساهمت في كل الحروب العربية الإسرائيلية من أجل تحرير فلسطين 1967 و1973، ودعمت وساندت القضية والنضال الفلسطيني معنويا وماديا ودبلوماسيا، ووجهت الدعوة إلى المنظمات الفلسطينية لزيارة الجزائر سنة 2022، والمشاركة في اجتماع حوار المصالحة وترميم البيت الفلسطيني من الداخل، واحتضنت الجزائر الدورة الـ31 للقمة العربية من 1 إلى 2 نوفمبر 2022 وفي عيد الثورة الثامن والستين، وطرحت فيها تفعيل المبادرة العربية للسلام لحل الصراع الفلسطيني مع الكيان الصهيوني في إطار الأقلمة، ورفضت التطبيع مع إسرائيل، وقد سبق أن تقدمت وطرحت مشروعا لإصلاح البيت العربي، المتمثل في اعتماد مبدأ التصويت وتدوير منصب الأمانة العامة، وضخ وبث دماء جديدة في مؤسسة الجامعة العربية، ووضع خريطة طريق للمصالحة بين الإخوة والأشقاء الليبيين واليمنيين والسوريين، لوضع حد لسفك الدماء والدخول في مرحلة بناء الدولة الجديدة، يعيش فيها الأمن والسلام والاستقرار والرفاهية والتعايش والتوافق، وألغت الاحتفالات بعيد الثورة التاسع والستين في الداخل والخارج نوفمبر 2023، تضامنا مع الشعب الفلسطيني في حربه التحريرية، وتبقى رسالة الثورة الجزائرية في بعدها العربي والمغاربي ودماء الشهداء الطاهرة حية، تنير الدرب والسبيل للأجيال القادمة في الوطن العربي والمغرب الكبير. واليوم المقاومة الفلسطينية في حاجة إلى الاقتداء بالثورة الجزائرية واستلهام دروسها وعبرها واستثمار دعم الجزائري للقضية الفلسطينية، وقد ثبتت استقلال الدول واسترجعت استقلال الجزائر ووهبت الاستقلال للعديد من الدول الإفريقية.
المجد والعزة والخلود لشهداء الجزائر والوطن العربي والمغرب وتونس وفلسطين. عاشت الأخوة العربية والمغاربية..