-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائريون ضحايا الاستعمار الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى

بقلم: مصطفى زغلاش
  • 649
  • 0
الجزائريون ضحايا الاستعمار الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى

في الوقت الذي تأخذ فيه مسألة الذاكرة اكتساب أهمية متزايدة، في العلاقات السياسية الجزائرية الفرنسية، تميل بعض النقاشات حول هذا الموضوع إلى نسيان المعاناة التي عاشها الجزائريون والتضحيات التي قدموها، بدون إرادتهم، للاستعمار الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى.

هؤلاء “الأهالي” (الأندجان) الذين كانوا يدركون أنهم مجبرون، بطرق مختلفة، على التضحية بأنفسهم من أجل بلد ليس بلدهم، تمردوا على ظلم التجنيد الإجباري الذي أرسلهم إلى مجزرة الجبهة في أوروبا.

كان للمقاومة المناهضة للاستعمار أشكال ومصائر مختلفة حسب الظروف والأماكن والقوى الموجودة على ساحة المعركة، لكنها لم تختف بالكامل حتى استقلال الجزائر عام 1962.

في نفس يوم إعلان الحرب في أوروبا، تم إعلان حالة الحصار في الجزائر، التي كانت مستعمرة فرنسية، بسبب الاضطرابات التي اندلعت مند زمان بسبب رفض الجزائريين التجنيد الإجباري والعمل كضحايا حرب للجيش الفرنسي.

وفي هذا الإطار، اندلعت وانتشرت تمردات مسلحة حقيقية عندما فرضت السلطات الاستعمارية التجنيد الإجباري والمصادرة على الأهالي الذين كانوا في أغلب الأحيان من أفقر القرويين لدرجة أن الجزائر أصبحت كلها في حالة اضطراب.

يتحدث المؤرخ أحمد عكاش عن “الشباب الذين أعلن عن تمرده والذي فر إلى الجبال”. ومن جانبه يشير المؤرخ أوغستين برنارد(Augustin Bernard)  إلى أنه “… منذ الأشهر الأولى من عام 1914، ظهرت المقاومة الأولى من قبل المجندين…”، ويذكر بأن “تمرد الرافضين للتجنيد الإجباري والفارين من عدة قرى بالجزائر قد أدى إلى إرسال قوات الجيش للقيام بقمع دموي” لتقابل المقاومة الشعبية بالقمع الاستعماري.

وتمرد العديد من المناطق على السلطة الفرنسية كما هو الحال في منطقة الأوراس لاسيما في منطقة باتنة، حيث اندلعت حسب عكاش “تمردات حقيقية تميزت بصدامات دامية”. ويذكر المؤرخ كلود مارتن(Claude Martin) أنه في نوفمبر 1916، “حاصر الأهالي المتمردون برج ماك ماهون في بلدة عين التوتة المختلطة وقتلوا نائب محافظ باتنة ومتصرفا”.

وفي منطقة القبائل، يشير تقرير رسمي إلى “ظهور جماعات مكوّنة من الفارين من الجيش الفرنسي” وفي مناطق “لا كال (القالة) ولدوغ (جبل إيدوغ) وسوق أهراس، تنشط مجموعات جريئة ومسلحة تسليحًا جيدًا في سلسلة غابية وجبلية أكثر ملاءمة لنصب الكمائن وغنية بالخلوات التي يتعذر الوصول إليها”… انتفضت مناطق أخرى في وسط وغرب البلاد مثل بني شقران في أكتوبر 1914.

لم يستثن الجنوب من موجة المقاومة هذه وفي عام 1915، “قامت جماعة السنوسية بتمرد عامً في الصحراء… استولى المتمردون على حامية جانات بأكملها” وفورت شارليت وفور بولينياك. وفي 1 ديسمبر 1916، قتلت السنوسية الأب دوفوكو (père Foucauld)، جاسوس الجيش الفرنسي المتنكر في زي ناسك، في ملجئه في تمنراست.

كما يشهد المؤرخ عكاش أن “هناك بلا شك أمثلة قليلة في تاريخ البشرية، لمثل هذه المقاومة الشرسة والمعارضة العنيفة للسيطرة الأجنبية سرعان ما بدا أن الحريق قد انطفأ في مكان ما حتى اندلع مرة أخرى في مكان آخر، أحيانا بشكل أكثر عنفًا. وكلما سقط مقاتل واحد حتى قام آخر مكانه”.

وبالإضافة إلى القمع الدموي، استغلت الإدارة الاستعمارية بؤس الجزائريين الذين جردوا من أراضيهم ومواشيهم، ودمرت منازلهم ودفعتهم إلى التسول في المدن والقرى، لإجبارهم على البحث عن سبل العيش من خلال الالتحاق بالجيش الفرنسي، مقابل “دفع راتب ثابت لهم”.

كما عبر الجزائريون ولأسباب تاريخية واضحة، عن تعاطفهم بشكل أساسي مع القوة الإسلامية المشاركة في الحرب، أي الإمبراطورية العثمانية في أعقاب الدعوة إلى الجهاد التي أطلقها شيخ الإسلام في اسطنبول في نوفمبر 1914 بناءً على طلب السلطان – الخليفة محمد الخامس (Mehmet V).

إن النفوذ العثماني والألماني في الجزائر كان شديداً لدرجة أن المتمردين غنوا في قرى الأوراس فضائل “الحاج قيوم” في إشارة إلى القيصر غيوم الثاني، الإمبراطور الألماني. كما أنشأ الأمير علي، أحد أبناء الأمير عبد القادر، في برلين “اللجنة الإسلامية لاستقلال الجزائر” لتنظيم المقاومة الجزائرية.

ومن الواضح أن ميل الجزائريين إلى ألمانيا لم يكن لإرضاء السلطات الاستعمارية الفرنسية التي وصفتها بأنها تأثير دعائي. حول هذا الموضوع، كتب أ. برنار أن “الألمان حاولوا بكل الوسائل والوعود والتهديدات، والتأثير على الأسرى المسلمين المتجمعين في معسكر زوسين بالقرب من برلين وإرسالهم لخدمة تركيا…”.

استنكرت فرنسا المستعمرة التأثير الألماني على الجزائريين، لكنها لم تتردد في استغلال هشاشة ظروفهم الاجتماعية لإرسالهم وبالقوة للقتال ضد ألمانيا نفسها، كما كتب محمد تازروت “في عام 1914، حشدنا (الجزائريين) بالقوة… ضد الإمبراطورية الألمانية من خلال فتح آفاق الحصول وبشكل استثنائي رتبة “الضابط الصغير”.

كانت هزيمة دول التحالف الثلاثيTriple Alliance ، ذات صدى في الجزائر، حيث اعتبرت هزيمة الإمبراطورية العثمانية هزيمة حليف مسلم تم اقتسامه بين الفائزين من الوفاق الثلاثيTriple Entente، ولاسيما بريطانيا العظمى وفرنسا (معاهدة سافرTraité de Sèvres 10 أغسطس 1920).

ومع ذلك، وعلى الرغم من أن ميزان القوى المتواجدة كان مواتياً لها لم تتغلب فرنسا على المقاومة الشعبية، لكنها استطاعت وبصعوبة حشد أكثر من 170 ألف جزائري بالقوة والخداع. ويذكر أن الخدمة العسكرية الإجبارية في الجزائر تأسست بموجب مرسومي 31 يناير و3 فبراير 1912.

إن عدد الذين قاتلوا بجانب فرنسا وحلفائها كبير ويقدر بنحو 172.750 شخص من بينهم 82.751 تم تجنيدهم في إطار الخدمة العسكرية الإجبارية و87.519 جنديا عاملا و2.479 احتياطيا.

كان رئيس مجلس الوزراء، جورج كليمنصو (George Clemenceau)، يطالب دائمًا بالمزيد من الجنود من الجزائر قائلا “لا تطلبوا مني جنودًا، لكن احرصوا على إرسال أكبر عدد ممكن منهم”، إذ كان على الجزائر المستعمرة أن تخدم غرضً المستعمر الفرنسي.

ويقدر عدد الجزائريين الذين سقطوا في ساحة المعركة أو كانوا في عداد المفقودين بـ25.711، أو ما يقرب من 15٪ من القوات التي تم حشدها للجبهة، زيادة على ذلك، أصيب 72.035 من بينهم 8779 معطوب مدى الحياة.

كما يضاف إلى هذه الأعداد العسكرية عدد الجزائريين الذين أجبروا على العمل في ظروف صعبة في الحقول والمناجم والمصانع الفرنسية، كانوا أكثر من 78.000 عامل محلي جندتهم الإدارة الاستعمارية وحوالي 132.000 يعمل في القطاعين الزراعي الصناعي، ولا سميا قطاع التسلح.

لقد أثرت مشاركتهم في الحرب بشكل كبير على نتيجتها النهائية، لصالح فرنسا.

تأتي هذه الملاحظة من السلطات الفرنسية والمؤرخين أنفسهم، مثل النائب هنري دي ليون دي فوشين  (Henri des Lyons de Feuchin) الذي كتب، في عام 1924، أن “الدور الذي لعبه الأهالي الجزائريون خلال الحرب العظمى كان كبيرًا. وكانت مساهمتهم حاسمة بشكل خاص في النتيجة النهائية لمعركة لا مارن (la Marne) في سبتمبر 1914”.

قدم هذه “المساهمة” رجال “لم يسبق لهم أن رأوا أوروبا ولم يتلقوا تدريبات عسكرية بعد”.

كما تعالت في نفس الموضوع أصوات فرنسية أخرى مشبعة “بـالاكتفاء الذاتي الحضاري”، ولكن بعبارات أخرى.

كتب الحاكم العام للجزائر في ذلك الوقت (1911-1918)، شارل لوتود (Charles Lutaud) “منذ الأيام الأولى للقتال، سلمنا الساكن الأصلي نفسه بصراحة وبدون تحفظ… كان هذا التمسك بقضيتنا طوعيا من طرف الأصليين.”

ومن جهته، يفسر أوغستين برنار “اندماج” الجزائريين في الحرب بنوع من الانضمام “للعمل الحضاري لفرنسا”!.

كما يضيف كلود مارتن وبأسلوب أكثر بساطة، أن “العدد الكافي من المتطوعين من الأهالي يمكن تفسيره من خلال “ذوقهم” لـ”البارود” وفقرهم”.

قلّلت بعض المصادر الاستعمارية من أهمية مشاركة “سكان شمال إفريقيا الأصليين” وتقلصها إلى “حوالي 80 ألف جندي… تم إرسالهم للجيش للمساهمة في الدفاع عن فرنسا أو المغرب، أو تونس أو الجزائر نفسها…”.

منذ السنوات الأولى للاحتلال، شرعت السلطات الاستعمارية في عملية مصادرة أملاك الفلاحين الجزائريين باللجوء إلى ثلاث وسائل رئيسية: تغيير الوضع القانوني للممتلكات الجماعية سابقًا والتي تم تقسيمها إلى أراضٍ فردية صغيرة، شراءها بتكلفة منخفضة من قبل المستوطنين، بسبب انهيار الأهالي الأصليين تحت الديون وبالأخص المصادرة بالقوة لأملاك القرى التي انتفض سكانها ضد قرار إرسال الشباب إلى الجبهة.

استهدفت عملية نزع ملكية العائلات الجزائرية بشكل أساسي شمال البلاد الخصب. يشير بن يمين استورا (B. Stora) إلى ما كتبه المؤرخ شارل ربير أجرونCharles Robert Ageron) ليوضح بأنه “تم تسليم 870 ألف هكتار للمستوطنين بين عامي 1871 و1919”.

كانت العواقب وخيمة على حياة الجزائريين، حيث تؤدي التعبئة إلى ندرة القوى العاملة الشابة والأقوى وذات الأكثر إنتاجية لدى لأسر وحتى المستوطنين الذين اشتكوا من صعوبة الحصول على العمالة الرخيصة والشابة. وفي الوقت الذي كان الإنتاج الزراعي آخذ في الانخفاض، ازدادت الضرائب ارتفاعا. إن مصادرة المواد الغذائية يفاقم فقر الفلاحين ويولد المجاعة، كما كان الحال خلال المجاعة الكبرى عام 1917 التي حصدت الآلاف من الأرواح وازداد فيها الجوع والمرض من دون رعاية صحية وهذا في الوقت الذي تم فيه إرسال معظم إنتاج الفلاحين الجزائريين الزراعي إلى فرنسا، من دون أي اعتبار لمصير الأهالي.

أما ثروة الجزائر المعدنية لقد كانت موجهة في المقام الأول إلى صناعة الحرب الفرنسية.

ومع ذلك، فإن الحرب التي أحدثت تقاربا بين الشبان الفرنسيين من فرنسا وأولئك من المستعمرة والجنود الجزائريين، خلقت نوعًا من التضامن بينهم على جبهة القتال وأثارت الأمل لدى الجزائريين أن تتحسن أوضاعهم مع نهاية الحرب كما اعتقد الكثير من هؤلاء “أهالي الجمهورية” أن فرنسا ستكون ممنونة لهم في النهاية وأن لهم الحق في المطالبة بحقوقهم.

“لقد أرادوا أن يعاملوا كفرنسيين بالكامل”، لكن الإدارة الاستعمارية التي كانت تحت تأثير المستعمرين الأقوياء حطمت هذا الأمل تمامًا عندما جددت الغرفة البرلمانية الفرنسية في أغسطس 1920 القانون السيء السمعة للسكان الأصليين والمعروف بقانون الأندجان (Code de l’indigénat) والذي تم تجميده عام 1914. الأمر الذي دفع وبدون شك، أحد قادة للحركة الوطنية التاريخيين، مصالي الحاج للكتابة في مذكراته بأن “الحرب العالمية لم تكن أبدا حربا من أجل الحق والحضارة”.

وإذا لم يحصل الأهالي (بصفتهم رعايا وليس مواطنين) إلا بشكل استثنائي فقط على الجنسية الفرنسية “المحددة” (بسبب ديانتهم الإسلامية) من قانون 4 فبراير 1919، فذلك لأن، حسب أذهان الإدارة الاستعمارية، “نسبة الأميين الهائلة لديهم، وفقرهم أيضًا، جعلت من المستحيل عليهم المشاركة في الإدارة وحتى أكثر من ذلك في الحياة العامة”.

مع نهاية الحرب، اختار عدد من الجزائريين الاستقرار في فرنسا لتجنب البطالة المتفشية في الجزائر واستغلالهم المفرط من قبل المستوطنين، وهذا في حال حصولهم على عمل ولو غير دائم. على أي حال، يوضح شارل ربير أجيرون أنه “في عام 1918، كان أكثر من ثلث السكان الذكور المسلمين الأصليين الذين تتراوح أعمارهم بين 20 إلى 40 عامًا في فرنسا إما بصفة عسكرية، أو كعمال متطوعين أو مطلوبين”.

يخلص كلود مارتن إلى أن “الهجرة من شمال إفريقيا تعود للحرب العالمية الأولى”، ويذكر أنه قبل الحرب العظمى “لم يكن هناك أكثر من شخص 15.000 من شمال إفريقيا في فرنسا”.

شجع تقارب الجزائريين بالدوائر السياسية الفرنسية اليسارية والنقابات العمالية في فرنسا القارية تأسيس حركة وطنية جزائرية ملتزمة ومسيّسة للغاية. وليس من قبيل المصادفة أن يولد في فرنسا عام 1926، أي في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أول حزب وطني جزائري “نجم شمال إفريقيا”، الذي رفع لأول مرة وبوضوح شعار استقلال البلد.

ومع ذلك وبعد مرور 100 عام عن الحرب العظمى، لا تزال فرنسا الرسمية اليوم تخشى ماضيها الذي تتذكره ولا تتحمله بالكامل والدليل عن هذا تصريح الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، خلال الاحتفال الرسمي بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى والذي أقيم بتاريخ 11 نوفمبر 2014 بأنه “يريد أن يحيي الجنود الأفارقة الذين شاركوا في حرب التي من الممكن ألا تكون حربهم”.

“من يمكن ألا تكون حربهم” “أوالتي لم تكون حربهم”؟ يمكن اللعب أحيانا بأسلوب الخطاب السياسي، ولكن… من غير المجدي محاولة المراوغة بالذاكرة…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!