الجزائر الرقمية.. كبسة زر التكنولوجيا تنسف بيروقراطية الأوراق

تمضي الجزائر بخطى طموحة نحو رسم معالم مستقبلها الرقمي، واضعة الذكاء الاصطناعي في صميم إستراتيجيتها الوطنية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي حيث أضحت التكنولوجيا الرقمية، بما تحمله من فرص غير محدودة، أحد المحركات الأساسية لإعادة تشكيل أنماط الحياة، وأدوات الإنتاج، وآفاق التنمية المستدامة في الجزائر. وبين رهانات التحول وإرادة البناء، تتبلور رؤية وطنية شاملة تضع التحول الرقمي كرافعة مركزية لبناء اقتصاد معرفي يواكب التغيرات العميقة في المشهد الدولي.
خلال السنوات الأخيرة حققت الجزائر تقدمًا ملحوظًا في مسار التحول الرقمي، بإطلاق الحكومة العديد من المبادرات الطموحة على رأسها الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي تحت شعار” من أجل جزائر رقمية 2030″، الذي ساهم في تحسين جودة الخدمات العمومية وتسهيل الولوج إليها عبر المنصات الإلكترونية، ورغم التحديات القائمة في البنية التحتية الرقمية، إلا أن الإنجازات المحققة تعكس إرادة سياسية قوية للانتقال إلى مرحلة التحول الرقمي الشامل.
التحول الرقمي بكونه عملية إعادة هندسة شاملة للعمليات والخدمات من خلال توظيف الأدوات التكنولوجية الحديثة تعزيزا للكفاءة والشفافية، فتقرير البنك الدولي لعام 2023 حول التحول الرقمي في الاقتصاديات النامية، أكد مساهمة رقمنة الخدمات الحكومية في تحسين الأداء المؤسساتي وزيادة الشفافية وتوسيع نطاق الخدمات لفائدة المواطنين بكفاءة أعلى، حيث شكلت رؤية والتزامات وبرنامج رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون خطوة مفصلية لترسيخ هذا التوجه بهدف رقمنة مختلف الخدمات الحكومية، بداية من تسجيل الشركات وتحديث الوثائق الإدارية، وصولا إلى آليات تقديم الشكاوى والمعاملات عبر الأنظمة الإلكترونية، ومؤخراً الشباك الموحد الذي سيكون القاضي الأكبر على البيروقراطية.
إرادة جزائرية سياسية صلبة للولوج إلى عصر الرقمنة بخطوات مدروسة تؤكد جدية بلادنا الجزائر في اللحاق بالدول الرائدة تكنولوجيا. وما استحداث المحافظة السامية للرقمنة ووضعها لدى رئاسة الجمهورية، ومكلفة بتنفيذ ومتابعة الإستراتيجية الوطنية للرقمنة إلاّ أكبر دليل على أنّ الإرادة السياسية مؤكدة الوجود وعلى أبرزها:
ملامح الثورة الرقمية بدأت في قطاع التربية تبدو واضحة المعالم، بشروع مؤسسات تعليمية استخدام الأدوات الرقمية ضمن البرامج الدراسية، لتحسين جودة التعليم ومواكبة متطلبات العصر.
ترى الدكتورة سلمى العيفاوي، أستاذة الذكاء الاصطناعي بجامعة الجزائر، أن “الذكاء الاصطناعي يحمل قدرة هائلة على إحداث تحول نوعي في التعليم من خلال تخصيص المناهج وفق خصوصية كل طالب، وهو ما سيمكّن الجزائر من تخريج جيل يمتلك مهارات المستقبل”.
من تكوين جيل في قطاع التربية يتقن تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى إدماج وسائله في منظومة الرعاية الصحية، خاصة في مجال التشخيص المبكر للأمراض وتطوير خطط علاج دقيقة وفعالة، ويؤكد الطبيب يوسف تمالوسي، المتخصص في الطب الرقمي، أن “توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي سيحدث ثورة في تحسين الرعاية الصحية، خصوصاً في المناطق النائية، حيث يمكن سد العديد من الفجوات الطبية من خلال أنظمة تشخيص ذكية توفر الخدمة بجودة عالية وتكلفة أقل”.
في قطاع التعليم العالي، الانطلاقة كانت اعتماد منصات التعليم الإلكتروني وتكنولوجيا التحليل الذكي لتقديم محتوى تعليمي متكيف مع قدرات واحتياجات الطلبة حيث شهدت الجامعات الجزائرية قفزة نوعية في مجال التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي ويوضح الدكتور رياض بغدادي، أستاذ الذكاء الاصطناعي بجامعة سيدي عبد الله للعلوم والتكنولوجيا ، أن “الثورة التعليمية التي يشهدها قطاع التعليم العالي بفضل الذكاء الاصطناعي ستمكن الطلبة من امتلاك أدوات معرفية متقدمة تواكب المتغيرات العلمية العالمية”.
بين البيداغوجيا والإدارة صنعت الرقمنة فارقا في تحسين كفاءة التسيير بعد تطوير أنظمة متكاملة شملت إدارة التسجيلات، الموارد البشرية، والمالية، ما منح الأكاديميين والإداريين وقتا أكبر للبحث العلمي والتعليم النوعي.
في لغة الأرقام فقد استثمرت المؤسسات المصرفية الجزائرية في تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات وتطوير حلول مالية مخصصة تستجيب لاحتياجات العملاء وتدعم شفافية العمليات المصرفية ويشير المحلل المالي أبوبكر سلامي إلى أن “الذكاء الاصطناعي يشكل أداة إستراتيجية في تحديث الخدمات المصرفية وتطوير حلول متقدمة ترفع كفاءة النظام المالي وتستجيب للتحولات المستقبلية”.
أما المؤسسات الناشئة فكانت الداعم الأول والمحرك الأساسي للابتكار التكنولوجي حيث شرعت العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة في تطوير تطبيقات محلية في مجال الذكاء الاصطناعي، لتكون فاعلا أساسيا في إثراء النسيج الاقتصادي الرقمي، حيث يؤكد المهندس محمد جداري، صاحب شركة ناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، أن “ريادة الأعمال التكنولوجية تمثل القلب النابض للابتكار الوطني، ومع توفر الدعم الحكومي والتمويل المناسب يمكن لهذه المؤسسات الناشئة أن تقود موجة التحول الرقمي وتخلق فرصًا اقتصادية واعدة”.
وكون الحكومة رائدة إستراتيجية رقمنة القطاعات بات التحول التكنولوجي أحد أعمدة إصلاح القطاع العمومي بالجزائر، إستراتيجية من أجل تقليص البيروقراطية، وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد الإداري وهو ما يطور القطاع العمومي.
مشاريع كبرى تم إنجازها مثل الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي تحت شعار “من أجل جزائر رقمية 2030″ بمواجهة عدة تحديات أبرزها نقص البنية التحتية، وغياب الثقافة الرقمية لدى بعض الموظفين والمواطنين التي مازالت تشكل عائق يستدعي المزيد من الجهود لتجاوزها.
الآفاق والرهانات.. بين طموح الرّيادة ومقتضيات التحدي
تمضي الجزائر لتخط طريقها في أفق التحول الرقمي المتسارع أمام مجموعة من الآفاق الواعدة والرهانات المصيرية لتفرض مكانتها في خارطة الاقتصاد الرقمي الدولي ببناء بيئة رقمية متكاملة تستدعي إصلاحات هيكلية في التشريعات والقوانين لمواكبة الثورة الرقمية وما تطرحه من تحديات أخلاقية ،لاسيما فيما يتعلق بحماية المعطيات الشخصية وحقوق المستخدمين كما أن تعزيز قدرات الأمن السيبراني يظل أولوية قصوى لمجابهة التهديدات مع تنامي الاعتماد على التكنولوجيا.
تنسيق الجهود لترسيخ السيادة الرقمية الوطنية يستدعي تعزيز شراكات حقيقية مع المؤسسات الأكاديمية العالمية، واستثمارًا أكبر، حتى تكون الجزائر رقماً بارزاً في عصرنا هذا..عصر لا يعترف إلاّ بكبسات التكنولوجيا.