-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العلاقات الجزائرية الفرنسية بين الخبث والسذاجة

العلاقات الجزائرية الفرنسية بين الخبث والسذاجة

ملف العلاقات بين البلدين معقد وشائك، وتتميز العلاقات بحساسية شديدة، لكن التطورات التي تعرفها اليوم تفرض عليّ، كمجرد كاتب وطني، أن أتوقف لحظات عندها، لتوضيح مفهوم الجزائر لطبيعة العلاقات المستقبلية مع المستعمر السابق كما أراه، والتي أجرؤ على القول أنه كان أحيانا سذاجة سياسية.

كان الخط الذي سارت عليه الجزائر نقيضا مطلقا للخط الذي سار عليه الكيان الصهيوني، والذي كان يركز على استثارة الشوفينية الوطنية بزرع الكراهية تجاه الأعداء، وبرز هذا بوضوح في التعامل مع ألمانيا الذي أصبحت أسيرة الابتزاز اليهودي.

لكن الجزائر ارتأت أن يكون خطابها السياسي الذي يجند الطاقات الوطنية بعيدا كل البعد عن هذا الأسلوب، وكمثال، نرى أن الأفلام السينيمائية الجزائرية التي تناولت الحركة الوطنية كانت تفرق دائما بين فرنسا الاستعمارية وفرنسا الثقافة والمشاعر الإنسانية، ورأينا في أفلامنا صورة لجندي فرنسي يتصرف بنبل وإنسانية مع أسيره الجزائري (الأفيون والعصا لأحمد راشدي).

وكان وراء هذا الموقف تقدير الجزائر لفرنسيين دعموا الثورة الجزائرية، وفي مقدمتهم “جان بول سارتر”، الذي كتب “عارُنا في الجزائر”، ومن بينهم مجموعة حملة الحقائب الذي كانوا ينقلون تبرعات المهاجرين الجزائريين بعيدا عن أعين الشرطة الفرنسية، وعلى رأسهم “فرانسيس جونسون”، بدون أن ننسى أن هناك من فقد حياته لتعاطفه مع الثورة الجزائرية مثل “موريس أودان”.

وكان هناك اعتبار أساسي، وهو أن زرع كراهية الخصم في النفوس يحوّل البشر إلى حيوانات شرسة تفقد كل مشاعر الإنسانية، وهو ما شاهدناه مؤخرا في تعامل الجنود الصهاينة الوحشي مع عظماء غزة.

وهنا يبدو الفرق بين عظمة الشرق، إسلامييه ومسيحييه، ونذالة الشمال، متدينيه ولائكييه ومثلييه، فقد احترم الوطنيون دائما أسراهم بينما أعدم “نابليون” في “يافا” آلافا من المسلمين والمسيحيين على حد سواء.

ونظرة سريعة للسينيما الأوربية والفرنسية بوجه خاص، تبين كيف يُقدّم الألماني غالبا كجلف متغطرس وحشي أبله، لا يقيم وزنا لأي اعتبار إنساني.

هنا تأتي قضية بالغة الأهمية، وهي قضية منظمة الفرانكفونية، أي التكتل الذي أرادت به فرنسا تقليد فكرة “الكومونولث” البريطانية.

فقد تم تأسيس المنظمة العالمية الفرنكوفونية يوم 20 مارس 1970 بنيامي عاصمة النيجر في مؤتمر تأسيسي حضرته 21 دولة ناطقة بالفرنسية، تحت اسم “وكالة التعاون الثقافي والتقني (ACCT) أي (Agence de la coopération culturelle et technique)، وكانت المفاجأة أن الجزائر، وهي ثاني دولة تستعمل الفرنسية، لم تكن من بين المشاركين، وظلت إلى يومنا هذا ترفض المشاركة، باستثناء حضور رمزي للرئيس عبد العزيز بو تفليقة في اجتماع احتضنته “بيروت”، وكان هذا من أسباب نفور الكثيرين يومها من الرئيس الجزائري.

وبدا لكثيرين أن الموقف الجزائري يمثل نوعا من التناقض، لأن الجزائر المستقلة أعطت للغة الفرنسية خلال سنوات قليلة ما لم تعطه لها فرنسا خلال عقود طويلة من استعمارها الاستيطاني للجزائر، وغاب عنهم أن ذلك كان يعكس إرادة جزائرية في القيام بدور ثقافي عالمي يشبه دور لبنان، مضمونه تعريف الوطن العربي بالثقافة الفرنسية، وتعريف المجتمع الفرنسي بالثقافة العربية.

لكن الجانب الفرنسي كا دائما سيئ النية، وهو ما كنت تناولته عند استعراضي لتجربة “السنة الجزائرية في فرنسا” عام 2003، والتي أرادت منها فرنسا أن تسلط الأضواء على الجزائر، كما تراها وما تريد لها أن تكون، وليس على الجزائر الوطنية العربية المسلمة الأمازيغية الإفريقية كما نريدها.

 ومن هنا واجهت الأمر يومها بكل صرامة.

كنت آنذاك ( 2000- 2001) وزيرا للثقافة والاتصال، ولم أكن تلقيتُ أي تعليمات عليا بشأن هذا الأمر، ثم وقع بين يدي تقرير عنها موجه إلى السيد “هيوبير فيدرين” (Hubert VEDRINE) وزير الخارجية الفرنسي، أعده السيد “هرفي بورج” “Hervé BOURGES ” ممثل الطرف الفرنسي في اللجنة المُكلفة بتنظيم التظاهرة، فأرسلته فورا إلى رئاسة الحكومة، ولست أدري لماذا تملكني الشعور فيما بعد أن رئيس الحكومة لم يطلع عليه، ولا أعرف إن كان رُفع لرئيس الجمهورية أم لا، ، إذ لم يفاتحني أحدٌ في أمره على الإطلاق.

وتناول التقرير أهمية إقامة السنة، مركزا كما جاء في التقرير، على ضرورة “تفادي الحساسيات” من الجانبين !!، والتركيز على المستقبل وعدم البقاء في أسْر الماضي !!!، ثم أشار إلى أهمية هذا اللقاء بالنسبة للسكان (population) من أصل جزائري، المستعدين للاندماج (prête à s’intégrer) ! ويشير بعد ذلك إلى الوضعية الخاصة التي تعيشها الجزائر بعد خروجها من مرحلة “العنف الإسلامي”، وهو ما يستوجب الحذر في التعامل معه (هكذا).

ويقول التقرير بوضوح إنه، بالنسبة لفرنسا، فإن الهدف هو “إدماج” المكون الجزائري:

Pour la France, cette année doit être vécu sous le signe de l’intégration de la composante algérienne de sa mémoire, de sa culture, de son identité

أما بالنسبة للجزائر فهو يقول بأن الهدف هو “الاستعادة”:

Pour l’Algérie, elle doit être vécue comme la réappropriation d’une composante historiquement et culturellement francophone de son identité

وكشف ذلك عنصرا بالغ الأهمية، وهو أن فرنسا تعتمد في تثمينها وتقييمها للجزائر المستقلة على عدد من بقايا الجزائر الفرنسية، قال عنهم “الجنرال دوغول” وهو يُطمئن اليمين الفرنسي، من أنه ترك في الجزائر من هم “أكثر فرنسية من الفرنسيين أنفسهم”.

آنذاك بدا أن ما قاله الرئيس الفرنسي كان مجرد محاولة لتبرير الهروب من الرمال المتحركة في الجزائر بعد أن فشل رهانه على القوة العسكرية، لكن الأيام الأخيرة، التي عرفت ما أطلق عليه أزمة “بو علام صنصال”، أثبتت أنني لم أكن أبالغ عندما حذرت في سلسلة مقالات لي في الثمانينيات من “الطلقاء” الذين اخترقوا الإدارة الجزائرية، بعد أن ساد منطق “عفا الله عمّا سلف.

كانت الجزائر المستقلة تأمل في تحقيق مصالحة جزائرية فرنسية على غرار مصالحة “فرنسا – دوغول” مع “ألمانيا – أديناور” ، ولم ندرك في الوقت المناسب أن أصحاب القرار هناك يريدونها كمصالحة “فرنسا – بيتان” مع “ألمانيا – هتلر”، أي مصالحة الاستسلام.

وأثبتت التطورات أن أصحاب القرار في باريس يعتمدون في تصورهم للعلاقات مع الجزائر على ما يتلقونه من عناصر أطلق عليها في الجزائر “حزب فرنسا”، ويشار لهم شعبيا بتعبير “الفرانكوش”، وهم الذين قلت عنهم في مقال نشرته مجلة الجيش في ديسمبر 1966: “هم الصغار الذين عاشوا على هامش الإدارة الحكومية قبل الاستقلال.. حملة ملفات أو فيران مكاتب.. ثقافتهم محدودة وإدراكهم الوطني.. محدود.. ولكن الوطن الأم !! (فرنسا بالطبع) منحهم فرصة الاحتكاك بالجهاز الإداري، فكانت لهم بذلك بعض خبرة (..) وكان هناك الذين وضعوا لبن الوطن الأم !! ولم يفطموا بعد.. منحتهم فرنسا الفرصة، لسبب أو لآخر، لكي يعيشوا حضارتها ويتسلقوا ثقافتها.. هؤلاء تقطعت أنفاسهم فلم يجرؤوا على الصعود أكثر.. على اكتشاف أنفسهم.. على استغلال ما تعلموه للبحث عما يجب أن

يتعلموه.. منهم الذين كانوا على شئ من شفافية النفس وعمق البصيرة.. فانصاعوا لأوامر التاريخ وحتميته، ومنهم من تملكه الخوف فانضم روحيا إلى من تربطه بهم أوامر اللسان.

وفي الفوضى التي أحدثها الفراغ الإداري بعد رحيل الأوروبيين أمسكت هذه المجموعات بأجهزة الدولة.. الجهاز الذي يربط القاعدة بالقيادة”.

وأروي هنا حدثين، لمجرد إعطاء صورة عن تعامل الجانب الفرنسي مع المجموع الجزائري.

فخلال زيارة الرئيس الفرنسي “جيسكارد ديستان” الفاشلة للجزائر منتصف السبعينيات فوجئنا، عدد من المسؤولين الجزائريين من بينهم العبد الضعيف، ونحن ندخل إلى قاعة العشاء الذي نظمه الجانب الفرنسي ردّا على العشاء الرئاسي الجزائري أن البروتوكول الفرنسي منح المواقع الشرفية في الموائد لعدد من “الفرانكوش” من الجزائريين المتزوجين بفرنسيات أو أصدقاء الديبلوماسيين الفرنسيين.

ولم نترك الأمر يومها يمرّ بهدوء.

ويرتبط بهذا أمر آخر، وأعتذر عن اضطراري لذكره، لأنه يتعلق بي شخصيا.

فمنذ استرجاع الاستقلال شغلت مناصب هامة بدءا بإدارة الخدمات الطبية في البحرية الجزائرية ثم مستشارا للرئيس هواري بو مدين وبعده للرئيس رابح بيطاط خلال الفترة الانتقالية ثم مستشارا للرئيس الشاذلي بن جديد وعضوا في الوفد الرسمي خلال زيارة فرنسا، ثم أصبحت في عهد الرئيس اليمين زروال عضوا في مجل الأمة، وترأست لجة الشؤون الخارجية مع مرور سريع في وزارة الثقافة والاتصال مسؤولا أول عنها، وهذا كله بجانب نشاطي العام ككاتب أصدر ما يزيد على عشرين كتابا بجانب مئات المقالات في الصحف الجزائرية والدولية والعديد من الأحاديث المتلفزة عبر القنوات المحلية والخارجية.

لكنني، وخلال أكثر من نصف قرن، لم أتلق سوى دعوتين يتيمتين لحضور احتفالات السفارة الفرنسية في الجزائر، ولعلها دعوات تمت بخطأ ما من مسؤول بروتوكولي صغير.

وأعترف بأن ذلك التجاهل كان يسعدني، لأنني أحب أن أردد مقولة الرئيس بو مدين :لست مدينا لفرنسا بأي شيئ، حتى بكوب من عصير البرتقال.

والمهم أننا لا نخجل من الاعتراف بأخطائنا، وهذا هو الفرق مع آخرين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!