سنغافورة.. كيف نجحت جزيرة صغيرة بلا موارد في تحقيق نهضة استثنائية؟

ليست سنغافورة مجرد قصة نجاح آسيوية، بل تجربة مفصلية في التاريخ الاقتصادي والسياسي الحديث، فقد نجحت جزيرة صغيرة، بلا موارد طبيعية، ولا سوق داخلية، ولا عمق جغرافي، في إعادة تعريف مفهوم الدولة الحديثة عبر مزيج متقن من الانضباط المؤسسي، والتعليم الموجه، والتصنيع القائم على الكفاءة، ففي زمن كانت فيه الدول تنهض اعتمادا على الثروات الطبيعية واتساع الجغرافيا، اختارت سنغافورة مسارا مختلفا كليا؛ وهو أن تبني ثروتها من خلال الإنسان لا من الأرض، وأن تعتمد على التنظيم والعقلانية بدل الموارد الخام، وأن تكون دولة تصدّر المعرفة والصناعة، لا تستهلك ما ينتجه الآخرون.
وقد بدأ هذا التحوّل حين تحوّل القرار السياسي إلى أداة للتخطيط بعيد المدى، وتمت إدارة الاقتصاد بوصفه منظومة منسجمة، لا مجرد سياسات متفرقة وردود أفعال، فسنغافورة التي أسسها السير توماس ستامفورد رافلز عام 1819 كميناء بريطاني، واستُجلب إليها سكانها الأوائل من الصين والهند وجنوب شرق آسيا كعمال أو عبيد، لم ترث من الجغرافيا سوى موقعها، فلا موارد تحت الأرض، ولا ماء نقي، ولا غذاء يكفي، وعند استقلالها عام 1965، كانت تعتمد على القاعدة العسكرية البريطانية لتمويل ما يقارب ثلاثة أرباع ناتجها الإجمالي.
الانفصال المرير…
يصف لي كوان يو، قائد نهضة سنغافورة ومؤلف كتاب “سنغافورة …من العالم الثالث إلى العالم الأول”، تلك اللحظة المفصلية عقب الانفصال عن ماليزيا بأنها “لحظة مريرة”، جعلته يبكي علنا، لا خوفا من الاستقلال، بل من هول التحدي أمام جزيرة لا تملك شيئا سوى الإنسان والموقع الجغرافي، ويؤكد قائلا “حياة البلدان تشبه حياة الإنسان، فيها الحلو والمر، الماضي والحاضر، والتخطيط للمستقبل”.
لكن سرّ سنغافورة لم يكن في مواردها، بل في نموذج إدارتها، فقد بنت نهضتها على رؤية اقتصادية طويلة الأمد تقودها دولة مركزية كفؤة، صارمة في التخطيط، مرنة في التنفيذ، تنفتح على العالم لجذب الاستثمارات، وتؤسس لبنية تحتية ذات مستوى عالمي، غير أن الركيزة الأهم في ذلك كانت الاستثمار في الإنسان.
فكيف تحققت هذه النهضة تحت نظام سياسي حكم البلاد بنظام حزبي يشبه الحزب الواحد، ويرفع شعار الجدارة والكفاءة؟ وكيف تحوّلت جزيرة معزولة إلى مركز لوجستي عالمي، ومحور إقليمي للتمويل والتكنولوجيا والتدريب؟ بل كيف قفز اقتصادها من موقع الدول المتخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة خلال أقل من نصف قرن؟
فريق استثنائي يقود جزيرة نحو الدولة
يروي سلطان عبد الرحمن الخليفي، في سياق حديثه عن وزير خارجية سنغافورة في بداياتها، سيناثامبي راجاراتنام، أن هذا الرجل المنحدر من أصول هندية، والذي تأثر بفكر “العصبية” عند ابن خلدون خلال دراسته في بريطانيا، كان يؤمن بأن “الدول والمؤسسات الناجحة لا تنهض إلا بقيادة حكيمة، يحيط بها وزراء نابهون، أمناء على الفكرة، يتقدمون نحو الهدف بتصميم جماعي لا فردي”.
ففي حين حفظت ذاكرة العالم لي كوان يو باعتباره مهندس النهضة السنغافورية، وقائد مسيرتها من جزيرة معدمة كان يُتوقع لها الفشل والانهيار، إلى واحدة من أكثر الدول تقدما واستقرارا، فإن الفضل لا يُنسب إليه وحده، فقد أحاط نفسه بفريق استثنائي من الكفاءات والنخب التي شاركته الحلم والعبء، ونجحوا معا في بناء كل شيء من لا شيء، في بلد لم يرث من الجغرافيا شيئا سوى موقعه.
هندسة بلد.. بلا دليل أو نموذج يُحتذى
يقول لي كوان يو في كتابه “قد تجد كتبا تعلمك كيف تبني بيتا، أو تصلح محركا، أو تؤلف كتابا… لكنني لم أجد كتابا يعلمك كيف تبني أمة من خليط متباين، أو كيف توفر سبل العيش لشعبها، خاصة عندما تفقد دورها السابق كميناء ومركز للتوزيع والتجارة.” ويضيف فـ “في عام 1965، كانت سنغافورة جزيرة بلا اعتراف دولي، بلا جيش، بلا نظام حوكمة متماسك، وتمزقها توترات عرقية بين الملاويين والصينيين والهنود، وصفتها الصحافة البريطانية حينها بأنها (ذاهبة إلى كارثة محققة في غضون ثلاث سنوات فقط)”.
اقتصاد الإنسان… لا اقتصاد الموارد
يقول لي كوان يو “سنغافورة، ذاك البلد الذي لم يكن الآسيويون يعرفون عنه أكثر من اسمه، والذي لا يستطيع أحد تحديد موقعه بسهولة على الخريطة، وسط عشرات الآلاف من الجزر المفتتة في أرخبيل الملايو… لكنّ الحجم ليس كل شيء، بل هو أحيانا لا شيء.”
ففي هذا الحيز الجغرافي المحدود، وُلدت واحدة من أبهى التجارب الاقتصادية والسياسية في القرن العشرين، تجربة أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الإنسان هو المحرك الحقيقي للتقدّم، لا الجغرافيا ولا الموارد، فهو من يزرع الازدهار أو يقتلع جذوره، من يورّث أبناءه الأمان أو يورّثهم المحن، وكما لخّصها لي كوان يو “في داخل هذا الحجم الصغير، تجربة تؤكد أن الإنسان، وليس أي شيء آخر، هو الذي يصنع التقدّم أو عكسه، ويبني الازدهار أو يهدمه، ويُريح نفسه وأجيالا من بنيه، أو يورثهم المشكلات والمحن”.
الاقتصاد كأكبر هم… لا طريق غير الابتكار
وفي استحضار للبدايات العصيبة، يعترف لي كوان يو بأن أكبر همومه بعد الاستقلال لم يكن الاعتراف الدولي ولا الأمن، بل الاقتصاد، فــ “كيف يمكن لشعبنا أن يكسب قوته؟ كان علينا أن نبتكر اقتصادا من نوع جديد، وأن نستخدم أساليب ونظما لم تُجرب من قبل في أي مكان في العالم، لأنه ببساطة لا يوجد بلد يشبه سنغافورة.”
ويضيف عبارة تختصر فلسفته في القيادة “أن تتولى قيادة بلد فريد من نوعه، يعني أن تسير وحيدا في الطريق، أن ترسم المسار وتصنع الاستثناء.”
لقد “واجهت سنغافورة ظروفا كانت ستقضي على أي مشروع دولة، فهي أرض من صنع البشر، وليست من عطايا الطبيعة، محطة تجارية أنشأها البريطانيون، لا تمتلك أرضا زراعية، ولا عمقا داخليا، ولا حتى ما يكفي من الماء الصالح للشرب”، ويضيف لي “ورثنا جزيرة بلا أرض داخلية… قلبا بلا جسد.”
ويختم وصفه للتحدي الاقتصادي بقوله “المشكلة الأساسية بعد الاعتراف بنا كدولة، وبناء جيش، وفرض القانون كانت الاقتصاد، وقد سببت لي أشد أنواع الصداع، كيف نُمكّن شعبنا من كسب لقمة العيش؟ كان علينا أن نبتكر اقتصادا جديدا، وأن نجرّب برامج غير مسبوقة في أي مكان في العالم”.
التعليم كرافعة لبناء الدولة الحديثة
رغم أن معظم الدول تستثمر في التعليم، فإن ما ميّز سنغافورة لم يكن مجرد وجود نظام تعليمي، بل رؤية استراتيجية متكاملة حول التعليم كأداة لبناء الدولة من الصفر، تركز على الجودة والفاعلية، فقد أدركت القيادة السنغافورية، منذ لحظة الانفصال عن كوالالمبور أن الموارد الطبيعية معدومة، وأن المورد الوحيد القابل للاستثمار هو الإنسان.
لذا خصصت سنغافورة منذ بداياتها المستقلة نسبة معتبرة من ميزانيتها للتعليم، تجاوزت في بعض السنوات 30 إلى 40 بالمائة من الإنفاق الحكومي، حيث لم تركز فقط على بناء المدارس وتجهيزها، بل في رفع جودة المعلمين وإصلاح المناهج، وربط التعليم مباشرة بحاجات الاقتصاد والصناعة، بغية تشكيل رأسمال بشري عالي الكفاءة يستطيع الدخول في الصناعات الدقيقة والتكنولوجيا المتقدمة والخدمات المالية.
ويكمن جوهر التجربة في جعل التعليم أداة فعالة للعدالة الاجتماعية والارتقاء الفردي، من خلال نظام ثنائي اللغة يُدرّس فيه الجميع بالإنجليزية كلغة مشتركة للسوق والعمل، إضافة إلى لغتهم الأم (الصينية، المالاوية، أو التاميلية)، ما مكّن كل عرق من الحفاظ على هويته، دون أن يُعزل عن اقتصاد المعرفة العالمي.
وقد ركزت سنغافورة على تطوير القرائية “Literacy” أي فهم النصوص المكتوبة واستخدامها وتحليلها والتفاعل معها بفعالية، فقد تحوّلت إلى أحد أعمدة النهج التعليمي في البلاد، إذ لم تُعامل كمجرد مهارة، بل كمدخل لتكوين عقل نقدي قادر على الفهم، والتحليل، وتفسير النصوص المعقدة في الاقتصاد، والتكنولوجيا، والسياسة، ولذلك تصدرت سنغافورة المراتب الأولى عالميا في اختبارات PISA لقياس مهارات القرائية، متفوقة على دول عريقة مثل فنلندا وكندا، وهو ما يعكس نوعية التعليم لا كميته.
كما يعود الفضل في ذلك إلى نظام صارم لاختيار المعلمين من بين أفضل الخريجين، وتدريبهم المستمر، واعتماد مناهج تُراجع وتُحدّث باستمرار لتواكب تحولات السوق والتقنية، والأهم أن الدولة كانت توظف مخرجات التعليم في مواقعها الصحيحة، فـأفضل المتفوقين يُوجَّهون نحو الهندسة والمالية والتخطيط والإدارة العليا، مما جعل التعليم ليس مجرد شهادة، بل نظام فرز للنخب القادرة على تولي المسؤوليات في الدولة الحديثة.
فقد تم تصميم النظام التعليمي على أساس مرن يتفاعل باستمرار مع احتياجات سوق العمل، ويعيد إنتاج نفسه على ضوء معطيات الاقتصاد العالمي، وقد أنشئت معاهد تقنية متقدمة وكليات تطبيقية توفر تدريبات عالية الجودة، وتم تأسيس هيئة “SkillsFuture” وفق مبدأ “التعلّم مدى الحياة” لتوجيه الأفراد نحو مسارات تطوير مهني مستمر، حيث تتيح للموظفين التحوّل بين الوظائف والقطاعات بسهولة حسب تغيرات السوق.
الاقتصاد.. هندسة تنموية موجهة بالأداء
يتحدث لي كوان يو عن مراكز القوة التي حفزت تطوير بلده، والتي كان على رأسها إيمان شعبه وثقته بقيادته، عن طريق “إيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية والبطالة، وتشجيع الاستثمار، وإطلاق برامج شاملة لعمليات التصنيع، والانفتاح السريع على الاقتصاد العالمي، ووضع نظام قانوني واضح وفعال يُنفذ في أي وقت، وآمن وموثوق، ما هيأ لسنغافورة حالة استقرار سياسي، إذ ساهم ذلك في رفع مستوى جذب الاستثمارات؛ نظرا لوجود ظروف مناسبة وملائمة للعمليات الاستثمارية”.
وقد مثلت الصناعة والاقتصاد في سنغافورة العمود الفقري لمشروع الدولة الحديثة، لا بوصفهما قطاعين ماليين فحسب، بل كمجالين لإعادة هندسة الدولة نفسها، ففي ستينيات القرن الماضي، حيث كانت البلاد تواجه ضعفا هيكليا وصناعيا وسوقا محلية صغيرة وأرض بلا موارد طبيعية، لم تجد القيادة السنغافورية أي فرصة لبناء نموذج ريعي أو تقليدي في التنمية، بل اختارت مسارا فريدا تمثّل في ماسُمي “الهندسة التنموية الموجهة بالأداء – Performance Oriented Developmental Engineering”، وهو نموذج يقوم على التصدير عالي القيمة، والاندماج المتدرج في سلاسل التوريد العالمية، والتحكم الصارم في آليات الإنتاج والجودة.
كان المبدأ الحاكم لهذه الاستراتيجية واضح وهو “أفضلية التنظيم على وفرة الموارد – The advantage of organization over the abundance of resources” “، فقد راهنت سنغافورة على كفاءتها الإدارية ومرونتها المؤسسية لمنافسة جيرانها ذوي الموارد الأوفر، مثل ماليزيا وإندونيسيا، واستطاعت أن تتفوق عليهم من خلال بيئة أعمال منضبطة، وعدالة قانونية، وبنية تحتية مصممة بدقة، فقد أصبح التنظيم الجيّد نفسه هو المورد الجوهري، أي إن سنغافورة لم تعوّل على ما تملكه في باطن الأرض، بل على ما تنظمه فوقها، وفق رؤية لي كوان يو الذي قال “حين نكون فقط بمهارة جيراننا، فلن يجد المستثمر سببا للمجيء إلينا، كان علينا أن نكون أكثر كفاءة وتنظيما”.
في هذا السياق، تأسست هيئة تنمية الاقتصاد “Economic Development Board – EDB” سنة 1961، لتكون أكثر من مجرد وكالة حكومية، بل كانت الآلية العقلانية لتوجيه النمو الصناعي، وتشكيل بنية القرار الاقتصادي، واحتضان المستثمرين للتحول إلى نقطة جذب صناعي قائمة على “الحوكمة الذكية” عبر نموذج “الشباك الموحد”، حيث تمتلك صلاحيات تنفيذية فعلية، وتُدار بعقلية القطاع الخاص ولكن بإرادة الدولة.
فلم يكن الهدف مجرد استقطاب الأموال الأجنبية، بل صياغة عرض اقتصادي شديد التماسك، حيث تقوم الدولة بتحديد القطاعات المستهدفة (مثل الإلكترونيات والبتروكيماويات والدواء)، وتقدم الحوافز الذكية، وتُذلل كل العوائق الإدارية واللوجستية، ما جعل من سنغافورة بيئة أعمال لا تُنافس في جنوب شرق آسيا من حيث الكفاءة.
كما أن أحد أكثر التجليات الرمزية لهذا النموذج هو مشروع تحويل جزيرة جوارنج إلى منصة صناعية متقدمة، فلم تكن الأرض مؤهلة بطبيعتها، لكنها رُدمت ونُظمت هندسيا، ثم زُوّدت بكل متطلبات الإنتاج عالي القيمة، من طاقة مستقرّة، شبكة نقل لوجستي متطورة، يد عاملة مدرّبة بدقة، وقد جسّد هذا المشروع مبدأ لخصه لي كوان يو بوضوح “لا نمتلك الموارد، لكن نستطيع أن نكون أكثر تنظيما وصلابة من جيراننا”، فقد امتلكت ماليزيا وإندونيسيا الموارد الخام، ولكن افتقدتا النظام والشفافية وفق وجهة نظره آنذاك؛ أما سنغافورة، فبنَت تفوقها على الموثوقية المؤسسية، وسرعة الإنجاز، وانضباط الإدارة.
تأسيس مشروع الدولة الصناعية الحديثة
في قلب التحول الاقتصادي الجذري الذي شهدته سنغافورة عقب الاستقلال عام 1965، برز اسم غوه كنغ سوي بوصفه العقل الاستراتيجي وراء تأسيس مشروع الدولة الصناعية الحديثة، حيث كان غوه، أحد أهم أعمدة حكومة لي كوان يو، ورجل اقتصاد تلقى تعليمه في “London School of Economics”، ورغم أن اسمه غالبا ما يأتي بعد لي كوان يو في الذاكرة الجماعية، إلا أن دوره كان تنفيذيا واستراتيجيا بامتياز، حيث وضع الأسس الاقتصادية والإدارية التي مكّنت البلاد من الانطلاق من قاعدة صفر موارد إلى اقتصاد صناعي متكامل. مؤمنا بأن نهضة سنغافورة لا يمكن أن تبنى على الموارد أو السوق، بل على الكفاءة الإدارية، والتخطيط العلمي، والتنفيذ المنضبط، وقد عارض التوجهات الاقتصادية التقليدية التي نصحت سنغافورة بالبقاء ضمن قطاع الخدمات أو أن تلعب دور الوسيط التجاري، فاختار السير عكس التيار، مُصرا على تصنيع البلد من الصفر.
وفي واحدة من أكثر القرارات جرأة التي اتخذها غوه كنغ سوي تمثّلت في اقتراحه في منتصف الستينيات تحويل منطقة جوارنج البرية، إلى أول منطقة صناعية متكاملة في البلاد، وقد قوبل هذا القرار وقتها بتشكيك واسع، بما في ذلك من البنك الدولي، الذي وصف المشروع بأنه “مغامرة مكلفة” وغير واقعية نظرا لغياب الموارد وسوق استهلاكية داخلية كبيرة، إلا أن غوه كنغ سوي أصرّ على رؤيته، مدفوعا بإيمانه بأن بناء قاعدة صناعية قوية هو السبيل الوحيد لنهضة سنغافورة، وقد شكّل هذا المشروع الخطوة الأولى في مسارها نحو التحول إلى دولة صناعية حديثة.
مراكز صناعية استراتيجية… وقلب تكنولوجي نابض
تتوزع الصناعة السنغافورية على عدد من المناطق الصناعية المتخصصة التي شُيّدت عبر رؤية تراكمية منذ الستينيات، أهمها جزيرة جوارنج الصناعية (Jurong Island)، التي تبلغ مساحتها نحو 32 كيلومترا مربعا، وهي اليوم القلب النابض لصناعات الطاقة والبتروكيماويات في سنغافورة، وتستضيف أكثر من 100 منشأة صناعية تابعة لكبرى الشركات العالمية مثل شل، إكسون موبيل، سوميتومو، وباسف، وتساهم هذه الجزيرة بما يقارب 25 بالمائة من إجمالي الإنتاج الصناعي، وتجلب استثمارات سنوية بمليارات الدولارات ( 10 مليار دولار في 2024)، حيث نمت سنغافورة لتُصبح من بين أضخم مراكز التكرير والتجارة الطاقوية في آسيا والعالم، رغم أنها لا تنتج برميلا واحدا من النفط الخام، وتبلغ طاقتها التكريرية نحو 1.3 مليون برميل يوميا، ما يعادل حوالي 1.5 بالمائة من القدرة التكريرية العالمية، وهو ما يضعها في المرتبة السابعة عشرة عالميا، والرابعة على مستوى آسيا بعد الصين، والهند، وكوريا الجنوبية.
بجوار الجزيرة، توجد منطقة جوارنج الصناعية “Jurong Industrial Estate”، التي تمثل أقدم وأوسع المجمعات الصناعية في سنغافورة، وتغطي نحو 39 كيلومترا مربعا، أنشئت في الستينيات كمشروع رائد برؤية غوه كنغ سوي، وتضم صناعات متنوعة تشمل التصنيع العام، الورش البحرية، الصناعات الهندسية الثقيلة، والخدمات اللوجستية، وتحتضن المنطقة مقار شركات كبرى مثل بريتيش بتروليوم “BP”، وإكسون موبيل “ExxonMobil”، ودي بونت “DuPont”، وتُعد بيئة صناعية متكاملة للبنية التحتية والدعم اللوجستي.
في الجهة الغربية من البلاد، تقع منطقة تواس الصناعية “Tuas View”، والتي تبلغ مساحتها نحو 28.8 كيلومترا مربعا، إلى جانب منتزه الصناعات البيولوجية والدوائية “Biomedical Park Tuas” الذي يمتد على مساحة تقارب 371 هكتارا، وتعد هذه المنطقة مركزا للصناعات الثقيلة، والصناعات البيولوجية والدوائية، وتعمل فيها شركات مرموقة مثل فايزر “Pfizer” وميرك “Merck”، في سياق سياسة الدولة لتنويع اقتصادها الصناعي بعيدا عن البتروكيماويات.
إلى جانب هذه المناطق الضخمة، توجد مساحات صناعية متخصصة مثل منطقة بنوي الصناعية “Benoi Sector”، وهو جزء من جوارنج الكبرى ويستضيف مصافي تكرير ومحطات لبناء السفن مثل كيبل “Keppel Shipyard”، كما يوجد منتزه سيلتار للطيران “Seletar Aerospace Park” الذي يغطي حوالي 140 هكتارا ويحتضن أعمال صيانة وتصنيع الطيران، من بينها مراكز لشركتي رولز-رويس “Rolls-Royce” وبرات آند ويتني “Pratt & Whitney”، المتخصصتين في صناعة محركات الطائرات والخدمات الهندسية المرتبطة بالطيران.
أما الحي الدولي للأعمال “International Business Park”، فيقع في ضواحي جورونغ ويغطي نحو 37 هكتارا، ويستقطب كبرى الشركات التكنولوجية والصناعية ومراكز الابتكار، من بينها آسير “Acer” المختصة في الإلكترونيات والحواسيب، وتيسين كروب “ThyssenKrupp” الألمانية الرائدة في مجال الصناعات الثقيلة والهندسة، وكرييتيف تكنولوجي “Creative Technology” السنغافورية المعروفة بابتكاراتها في مجال الصوتيات والتكنولوجيا الرقمية.
الصناعة تقود الاقتصاد بلا موارد
في عام 2024، بلغت صادرات سنغافورة الإجمالية نحو 495 مليار دولار أمريكي (حوالي 740 مليار دولار سنغافوري)، وكانت الصناعة غير النفطية تمثل حوالي 82.6 بالمائة من هذه الصادرات، أي ما يزيد عن 408 مليارات دولار، بينما صدّر القطاع النفطي (مصافي النفط والبتروكيماويات) نحو 17.4 بالمائة أي 86 مليار دولار، وتُقدّر صادرات السلع الصناعية حوالي 340 مليار دولار، مع هيمنة واضحة لقطاع الإلكترونيات الدقيقة باعتباره الأعلى قيمة مثل الرقائق، التي صدّر منها نحو 104 مليار دولار في 2023 أي ما يعادل 21 بالمائة من إجمالي الصادرات.
وعلى المستوى الاجمالي، يسهم القطاع الصناعي بنحو 24 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي (حوالي 140 مليار دولار ضمن الناتج الإجمالي لسنغافورة البالغ حوالي 565 مليار دولار لعام 2024)، ويُوظّف حوالي 12 بالمائة من القِّوى العاملة (حوالي نصف مليون من حوالي أربع ملاين عامل)، ويُظهر هذا أن الصناعة ليست فقط مصدرا رئيسيا للصادرات، بل عاملا جوهريا في تشكيل الاقتصاد السنغافوري واستدامته.
ولم يكن هذا المسار الصناعي ممكنا دون رافعة التعليم (مثلما سبق وأشرنا)، التي صيغت كأداة إنتاجية، لا كآلية اجتماعية فقط، فقد أنفقت الدولة قرابة 30–40 بالمائة من ميزانيتها العامة على التعليم خلال مراحل التأسيس، مركّزة على التعليم المهني والتقني والجامعي المرتبط مباشرة بالقطاعات الاقتصادية المستهدفة.
ولم يكن الاستثمار في برنامج مهارات المستقبل “”SkillsFuture مثلا سياسة مُلحقة، بل امتدادا لفلسفة قائمة على تطوير مهارات العمال باستمرار ووفقا لتحولات السوق، حيث تؤكد الدراسات الأكاديمية حول نهج سنغافورة التعليمي البرغماتي، أن هذا الربط المباشر بين نوعية رأس المال البشري وعمق التصنيع أدى إلى رفع إنتاجية العمل، وزيادة جاذبية سنغافورة للاستثمار الأجنبي طويل الأمد.
من القوة التنظيمية إلى الجاذبية المالية
في ظل الفقر الطبيعي والضيق الجغرافي الذي رافق سنغافورة عقب استقلالها عام 1965، لعبت الاستشارات الدولية دورا حاسما في رسم مسارات بديلة للنهوض، وكان من بين أبرز تلك الإسهامات كانت رؤية ألبرت وينزيميوس، الخبير الاقتصادي الهولندي الموفد من الأمم المتحدة، الذي أوصى بتحويل الجزيرة الصغيرة إلى مركز مالي وتجاري إقليمي، مستفيدة من موقعها الجغرافي الاستراتيجي عند تقاطع طرق التجارة العالمية في آسيا والمحيط الهادئ.
وقد لاقى هذا التصور دعما فوريا من لي كوان يو ونائبه غوه كنغ سوي، اللذين بادرا إلى تأسيس سلطة النقد السنغافورية “MAS” سنة 1971 كهيئة تنظيمية مستقلة، تضبط الإطار المالي والمصرفي بمعايير دولية، كما تم تحرير قواعد صرف العملات، وفتح المجال أمام المصارف الأجنبية، وتأسيس بورصة سنغافورية متطورة، وبناء بيئة قانونية شفافة وآمنة، حيث لم يكن المقصود مجرد تطوير الخدمات البنكية، بل استخدام القطاع المالي كأداة استراتيجية لتمويل البنية التحتية، وتسريع النمو الصناعي، وربط البلاد بموجة العولمة القادمة.
وبحلول 2024، تحوّلت سنغافورة إلى واحدة من أبرز العواصم المالية في العالم، حيث تضم أكثر من 200 بنك دولي ومحلي، وتدير أصولا مالية تتجاوز 5 تريليونات دولار أمريكي، ويُسهم هذا القطاع بأكثر من 13 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر مئات الآلاف من الوظائف ذات القيمة المضافة العالية.
كما باتت سنغافورة لاعبا محوريا في مجالات التمويل الإسلامي، وإدارة الثروات، وصناديق التحوط، والتكنولوجيا المالية، بفضل بنيتها المؤسسية الرشيقة، غير أن السر الحقيقي وراء هذا التفوق يكمن فيما يمكن تسميته “حياد سياسي وذكاء دبلوماسي”، وهي وصفة سنغافورية خالصة جعلت منها ملاذا آمنا لرؤوس الأموال العالمية مثل سويسرا وسط منطقة تتسم بتحديات متنامية.
من مرفأ استعماري إلى محور لوجستي عالمي
منذ استقلالها، أدركت سنغافورة أن موقعها الجغرافي هو رأس مالها الاستراتيجي الحقيقي، فالميناء لم يكن مجرد واجهة بحرية بل النواة التي دار حولها مشروع بناء الدولة، وفي ظل غياب الموارد الطبيعية وضيق السوق الداخلي، تبنّت حكومة لي كوان يو رؤية طموحة لتحويل الميناء إلى مركز لوجستي من الطراز العالمي، حيث تأسست هيئة ميناء سنغافورة “PSA” لتحديث الأرصفة، وأتمتة عمليات المناولة، وتوسيع القدرة الاستيعابية، مع تبنّي أنظمة تشغيل رقمية صارمة، وبحلول الثمانينيات، كان ميناء سنغافورة قد أصبح من أكثر الموانئ كفاءة وموثوقية في العالم، ما عكس دقة التنظيم وتفوق الإدارة.
واليوم، يُعد ميناء سنغافورة من أكثر الموانئ ازدحاما وتقدّما عالميا، فهو يستقبل أكثر من 130,000 سفينة سنويا، ويرتبط تجاريا بأكثر من 600 ميناء في 120 دولة، وناول ما يزيد عن 37 مليون حاوية في عام 2023، ويسهم هذا المرفق الحيوي بما يقارب 7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويشكل ركيزة أساسية في سلاسل التوريد العالمية، خاصة في قطاعات الإلكترونيات والبتروكيماويات، وتُجسد المرحلة القادمة من هذا الطموح في انجاز مشروع ميناء “تواس” الجديد، الذي من المتوقع أن يكون أكبر محطة حاويات مؤتمتة في العالم، وأن ترفع طاقته الاستيعابية إلى 65 مليون حاوية سنويا.
الرفاه الاقتصادي وصندوق المستقبل
لم تكن النهضة السنغافورية مجرد تحسن في مؤشرات الاقتصاد الكلي، بل مشروعا وطنيا للرفاه المستدام، فسنغافورة اليوم تدير اثنين من أقوى الصناديق السيادية في العالم “تيماسيك القابضة” التي تأسست عام 1974 وتبلغ قيمة أصولها أكثر من 313 مليار دولار أمريكي، وهيئة الاستثمار الحكومية (GIC) التي تأسست عام 1981 وتدير أصولا تفوق 800 مليار دولار أمريكي، ومع احتساب احتياطيات السلطة النقدية السنغافورية (MAS) وصندوق التقاعد السنغافوري، تتجاوز القيمة الإجمالية للأصول السيادية السنغافورية 1.8 تريليون (1800 مليار) دولار أمريكي، حيث لم يصبح هذا الغنى المؤسسي رفاهية مالية، بل أداة استراتيجية لتمويل البنية التحتية، دعم الاستقرار المالي، والاستثمار الذكي عالميا، ما عزز قدرة الدولة على تجاوز الأزمات وبناء اقتصاد مرن وعالي الإنتاجية.
أما على مستوى الفرد، فقد بلغ متوسط دخل الفرد السنوي في 2024 نحو 90700 دولار أمريكي، ما يضع سنغافورة في المرتبة الرابعة عالميا من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، ويُصنَّف أكثر من 90 بالمائة من السكان ضمن الطبقة المتوسطة أو العليا، كما تُسجّل البلاد معدل بطالة منخفضا لا يتجاوز 2.8 بالمائة، وفيما يخص الإسكان، تمتلك حوالي 88 بالمائة من الأسر مساكنها الخاصة (نحو 1.33 مليون منزل من إجمالي 1.46 مليون)، إلى جانب نظام صحي وتعليمي يُعد من بين الأفضل عالميا، وبيئة عمرانية تجمع بين الحداثة والنظافة والتنظيم والتخطيط الأخضر، بما يجعل سنغافورة نموذجا متقدما للمدن الذكية والمستدامة.
أين أصبحت سنغافورة اليوم؟
لم تعد سنغافورة مجرد قصة نجاح آسيوية، بل أصبحت واحدة من ركائز الاقتصاد العالمي، فهي رابع أهم مركز مالي دولي بعد نيويورك، ولندن، وهونغ كونغ، وتُصنَّف ضمن أغنى خمس دول من حيث احتياطيات العملة الصعبة، كما تُعد من أكثر الوجهات أمانا وموثوقية في تحويل وتداول العملات الأجنبية، ما يجعلها ملاذا ماليا عالميا بامتياز.
ورغم صغر مساحتها، تستقبل سنويا أكثر من 5.5 ملايين سائح، وتُعد مركزا إقليميا متقدما في التكنولوجيا، والخدمات المالية، والبحث العلمي، والتدريب الصناعي. فكل ذلك لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة نموذج حكومي صارم ومنضبط، يقوم على الحوكمة الرشيدة، والكفاءة الإدارية العالية، والرؤية الاستشرافية طويلة المدى، والذكاء الدبلوماسي، الذي مكّن هذا البلد الصغير من لعب أدوار دولية تفوق حجمه الجغرافي أضعافا.
المصادر: كتب، مقالات أكاديمية، مواقع إلكترونية، بيانات وإحصائيات.