“سوق عكاظ” بتلمسان بأذواق جزائرية وإفريقية

تظاهرة “سوق عكاظ”، في طبعتها الثانية، التي احتضنتها تلمسان على مدار يومين، من نهاية الأسبوع الماضي، التي حملت شعار “لعبة جدي نخليها لولدي”، دفعت بعض الأصوات المهتمة بالشأن الثقافي بتلمسان إلى المطالبة إعادة النظر في “التسمية”، التي اختارها المشرفون على هذه التظاهرة، من منطلق أنها لا تعكس الزخم الثقافي الذي تتميز به تلمسان والجزائر بشكل عام، وأن إسقاط “عكاظية” جزيرة العرب على تظاهرة “سوق عكاظ” ذات الطابع الجزائري، سيجعل من هذه التظاهرة ذات امتداد واحد رغم تنوع وتشعب الامتدادات الثقافية والتاريخية للجزائر بشكل عام وتلمسان بشكل خاص، مطالبين بتدارك الأمر في الطبعة الثالثة.
باستثناء هذا “المطلب”، فإن تظاهرة “سوق عكاظ” بطابع جزائري بدت في طبعتها الثانية أكثر ثراء وتنوعا، واجتهد القائمون على هذه التظاهرة في إبراز ما تزخر به الجزائر من موارد تراثية ذات امتدادات متعددة في محاكاة فنية لعكاظية العرب لكن بذوق جزائري، جعل التظاهرة تكشف عن امتداداتها العربية والإفريقية والأمازيغية، وتستعرض ذلك الوجه الثقافي الثري والمتنوع الذي يؤصل لقاعدة استثنائية تكمن في كون الجزائر قارة بتنوعها الثقافي وامتداداتها المتعددة.
في أجواء ممطرة، افتتحت الجهة المنظمة ممثلة في المركز التفسيري ذي الطابع المتحفي للباس التقليدي الجزائري أبواب سوق “عكاظ” داخل قلعة المشور الأثرية، وهي السوق التي احتوت على بعض الأجنحة لمختلف التحف والألبسة التقليدية والأواني الفخارية وغيرها من القطع الأثرية امتزجت فيها عديد الثقافات من عربية إلى أمازيغية وأخرى إفريقية، قبل أن يستعرض كوكبة من الممثلين أمام السلطات الرسمية عرضا فرجويا في الهواء الطلق. تضمن هذا العرض الفرجوي إلقاء أبيات شعرية مقتبسة من قصائد نظمها شعراء مروا بتلمسان أو عاشوا فيها، أو من أولائك الشعراء الذين ولدوا فيها وترعرعوا، إلا أن ميزة الطبعة الثانية لهذه التظاهرة أنها لم تقتصر فقط على قصائد الفصيح أو الشعر الشعبي الملحون، بل امتدت لتشمل أذواقا شعرية أخرى، مثل الشعر الحساني والشعر الترڨي، والشعر الأمازيغي، وهي الألوان الشعرية التي عكست الثراء الثقافي وتعدد اللسان الجزائري المبدع في تشكيل خصوصية جمالية جزائرية قل نظيرها، فقد تداول الممثلون في فضاء مفتوح على إلقاء أبيات شعرية في أداء إبداعي متميز اختصر الأزمنة، وأعاد إلى الواجهة ذلك التعايش الذي كان يطبع الممارسات اليومية للمتجمع الجزائري باختلاف ألسنتهم وتعدد ثقافتهم. فقد أبدع الممثلون في أداء احترافي من استحضار التاريخ واستنطاق الذاكرة الثقافية وإيصال رسالة، مفادها أن قوة الجزائر تكمن في خصوصيتها المتعددة وهي الميزة المتفردة للهوية الجزائرية بكل ثقلها الثقافي والتاريخي.
سوق عكاظ بطابعها الجزائري التي جلبت إليها أنظار المواطنين ممن توافدوا لمشاهدة العرض الفرجوي داخل قلعة المشور، استمتع بتلك العروض المقدمة من إلقاءات شعرية وألعاب شعبية، وأجنحة للتحف الأثرية. ولإعطاء نكهة شعرية خاصة استضافت الهيئة المشرفة على التظاهرة أحد فطاحلة الشعر الملحون، الشاعر بن صديق مختار ابن منطقة العريشة بالجنوب الغربي للولاية، الذي أمتع الجمهور بقصيدة تتغزل بمآثر وكنوز عاصمة أبي مدين شعيب. شعار التظاهرة “لعبة جدي نخليها لولدي”، كان أكثر حضورا من خلال استعراض بعض الألعاب الشعبية، مثل لعبة المبارزة بالعصي وغيرها من الألعاب الأخرى، التي شاركت بها بعض الجمعيات القادمة من ولايات مختلفة، مثل ولايتي تيارت وعين الدفلة، وقد كان لهذا الشعار حضور علمي أيضا، من خلال تنظيم ملتقى دولي في اليوم الثاني موسوم بالألعاب التراثية بين ضرورتي الصون والتثمين، الذي احتضنته قاعة المحاضرات بمركز البحوث الأندلسية بمشاركة 12 دولة أجنبية و23 جامعة جزائرية، وبلغ عدد المداخلات 60 مداخلة، حاول من خلالها المتدخلون تسليط الضوء على الألعاب الشعبية، ومدى مساهمتها في تشكيل شخصية الفرد، وكيفية الحفاظ عليها، وحمايتها من الاندثار.. وذلك من خلال إدماج هذه اللعب الشعبية في المناهج التربوية وخلق مؤسسات ناشئة تستثمر في مثل هذا التراث الجزائري في ظل الخطر الذي أصبح يهدد هذا الأثر، من عمليات سرقة ممنهجة وتصنيفات مزورة، أين تم استعراض مجهودات وزارة الثقافة في هذا المجال، من خلال تصنيف العديد من الألوان التراثية، كما هو الشأن مع اللباس التقليدي التلمساني أو أغنية الراي مؤخرا.
وقد عرف الملتقى الدولي عديد المداخلات، التي صبت معظمها في حماية وصون هذه الألعاب التراثية، قبل أن تغلق قلعة المشور أبواب “سوق عكاظ” لهذه السنة، مودعة بذلك شهر التراث الذي عرف العديد من الأنشطة والتظاهرات بمختلف المؤسسات الثقافية بالولاية.