-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
"الشروق" في عملية تمشيط وتسلق قمة رأس كلثوم ثاني أعلى قمة في الجزائر بجبل شيليا

طبيعة سريالية مهربة من الجنة!

الشروق أونلاين
  • 11746
  • 0
طبيعة سريالية مهربة من الجنة!
الشروق

الطريق نحو قمة رأس كلثوم ببلدية يابوس دائرة بوحمامة في أعلى قمة جبل شيليا المشترك بين ولايتي خنشلة وباتنة، وثاني قمة بالجزائر ليس شاقا ومتعبا لقوة البدن فحسب، بل هو اختبار لقوة الصبر، يخطئ من يظن أن المعركة مع الجبال والشواهق تحتاج لكثير من القوة والجهد، ففي الواقع هي لا تحتاج سوى لنزر قليل من الشدة والكثير من الصبر.

هكذا بدا لنا الأمر ونحن نغامر رفقة مجموعة من الإعلاميين وشبان وطلبة جمعية أصدقاء بلدية باتنة منظمة الخرجة الاستكشافية الثانية، في تسلق ذلك الجبل المحدودب والرابض على ظهر هضبات مليئة بغابات الأرز الأطلسي المشكلة للغطاء النباتي الكثيف في الغالب والصلعاء في بعض المواقع على شكل طفح جلدية، تكشف لك أن جبل شيليا الأسطوري الخلاب بأشجاره التي يتراوح عمرها ما بين 150 و 300 سنة وبأقطار ما بين 60 سم إلى 80 سنتيمترا تعاني من أعراض مرض وبائي خطير!

 

رحلة خلف أثر الأحمرة… وجرة العنزات!

كنا زهاء ثلاثين شخصا مدججين بعصي الارتكاز والوجبات القتالية الباردة عندما بدأت المغامرة وسط جو متقلب بين شمس تطل على استحياء وسحب عابرة بسرعة جراء قوة الرياح، حتى إن حارس غابة حذرنا بقوله” ليس اليوم متاح للتسلق فقد جرفت الرياح شابا من على متن دراجته النارية فحذار”، لذا كان علينا أن ننقسم على شكل مجموعات ضمن أرتال غير متباعدة تفاديا لكل طارئ وحذر الضياع مثل أرانب برية في الأدغال والأحراش الكثيفة فقد كانت أشجار الأرز الأطلسي الباسقة والسميكة مثل أقدام عمالقة الغابة تماما لا تمكنك من رؤية ما يلي الخطوة سوى على مرمى نظر لا يتعد المتر، اخترقنا الوادي الكثيف بصعوبة بالغة زادتها التربة المبللة جهدا مضاعفا ولم يمر نصف الساعة الأول سوى ونحن نتصبب عرقا نظير المشي في اتجاه درجة انحناء وميلان أثقلت عضلات القدمين والساقين وشقت صدورنا إلى نصفين شهيقا وزفيرا متسارعا وكأننا في سباق سرعة مع أن المسير كان سير سلاحف مثقلة بالحقائب الظهرية وألات التصوير الدقيقة.

من حسن حظنا أن التحايل مع المرتفعات مسموح، فقد عثرنا على مسلك ترابي حرر عضلاتنا من شدة الوطء الثقيل، التقطنا بعض الأنفاس المتلعثمة واللهاث المتواتر، وبدا لنا بعد ساعة من المشي أن كوكبة المشاة المشكلة انفرط رتلها إلى ثلاث مجموعات متباعدة تبعا للقوة البدنية والخفة واللياقة العالية ووعورة المسالك والانحناءات، على الرغم أننا نعي تماما أنه لا يمكن هزم جبل شامخ بالمواجهة الشاقولية التي تهتك الصدر بل بالتحايل وتقليد مشية الأحمرة والعنزات، فقد كان المهندسون الفرنسيون يلجؤون لهذه الطريقة لتحديد مسارات شق الطرق بجبال الشلعلع وشيليا ومرتفعات الأوراس، فليس أمهر من الأحمرة والعنزات في تتبع المنحنيات وطي المرتفعات في خفة وسرعة.

 

الستريس هيدريك والدود الجرار ولصوص الغابة مروا من هنا !

داخل الغابات المظللة للأرز الأطلسي مناظر تقطع لروعتها الأنفاس، لذا كان التقاط الصور لتلك الصور النادرة عملا مريحا للأعصاب وسط زقزقة العصافير المختلفة، وعلى بعد عشرات الأمتار كانت نسور وعقبان تحلق في انسياب صعب لشدة الرياح، ومع أنك تعثر على هرمونات طبيعية لتنشيط مخيلة الألوان والأوكسجين والنظر في جنة الأرز الأطلسي هذه إلا أنك أمام “البرادوكس” أو المفارقات الغريبة وتشعر بتعاسة وأنت ترى أن شجرات معمرة شاخت، فبعضها مجرد جذوع خاوية على عروشها والبعض الأخر مقطوعة في شكل خشب سيباع لورشات النجارين والمقاولين والوراقين وحتى الجزارين ولصوص الخشب، لقد تحالفت عدوانية الطبيعة والبشر على مساحات شاسعة من غابات الأرز محيلة إياها إلى ما يشبه الفزاعات، وهي ترى أن حراسها حراس الغابة صاروا مجرد نواطير مخرومة العيون لا ترى شيئا مما يحدث في الأعماق، فقد خلف التغير الإيكولوجي مجزرة ماثلة للعيان، غابات جافة فقدت وقار أشجار الأرز النبيلة والمتكبرة بأعرافها الخضراء وأكوازها القهوية، وتسمى هذه الظاهرة المناخية بالتماوت الطبيعي، وهي راجعة لقلة المطر والجفاف والتيارات الحارة القادمة من وراء الأطلس الصحراوي، وجبل شيليا الأسطوري أكثر تعاسة من حظيرة بلزمة وقلبها النابض جبلي ثوقر – رأس الأرز- والشلعلع التي تحصي رغم ظاهرة التماوت 5700 هكتار منه فيما لا يتعدى غطاؤه بجبل شيليا سوى 2300 هكتار، إن تراجع المنسوب المطري خلف ظاهرة “الستريس هيدريك” ما وسمه بالقلق أو الاضطراب المائي، ويفسر لنا عبد الحفيظ حمشي الخبير المختص في علم النبات والإطار بحظيرة بلزمة النكبة المطرية بقوله “يحتاج شجر الأرز ما بين 1700 ملم مطر في الأقصى وما بين 500 و600 ملم في الحد الأدنى سنويا للبقاء، وبما أنه نسجل تساقطا مطريا ضعيفا لا يقدر سوى ما بين 350 و250 ملم سنويا، وسبب ذلك العجز المطري اضمحلال الأرز في منطقة الأوراس التي كانت تحصي حسبما كتبه الباحث بودي في بحث اقتصاد غابات الأوراس العام 1950  27.000 زهاء هكتار سنوات 1875 وتدنت لنحو 20.000 هكتار العام 1950 فاقدة 8000 هكتار، وهي في حدود 12.000 هكتار في الوقت الراهن أو دون ذلك”.

بخلاف أشجار الصنوبر التي تحتاج لدرجة حرارة عالية لما فوق الأربعين لتفتيح الأكواز لتنثر بذارها حفاظا على دورتها التكاثرية، فإن الأرز يحتاج لدرجة حرارة منخفضة تقع ما بين ناقص 5 درجات تحت الصفر إلى ما بين 18 درجة أو 20 تحت الصفر لتفتيح الأكواز البنية وتجديد نفسه بنفسه، والحاصل أن انعدام تلك البرودة يجمد عملية الولادة الجديدة، كما أن غزو الدودة الجرارة الملحوظ بكثافة في غابات شيليا التي لم تستفد من عمليات التطهير الميكانيكي والكيميائي مثل حظيرة بلزمة يساهم في إضعاف مناعة الأشجار ويقتلها واقفة وعارية، وتتشكل تلك الدودة من سلسلة طويلة تتغذى من أوراق الأرز وتنشئ شرنقتها في الأكواز المخروطية وتحولها لعهن منفوش يشبه خلية العنكبوت، قبل أن تتحول لفراشات طائرة، ويتطلب الأمر حسب السعيد عبد الرحماني مدير حظيرة بلزمة: “عمليات تطهير ميكانيكية بتقطيع الأكواز المصابة وسلسلة الدود الجرار حتى تحت الكتلة الأرضية المحيطة بالشجرة، حيث إن 25 في المائة منها تتحول لفراشات فيما تبقى 75 في المائة في سبات على مدار ثلاث سنوات كاملة تتطلب عملية التطهير الكيمائي برشها بمبيد “باسيل دو تيرانج” أو عصية تورنجيا غير المتعدي أثره لبقية الأشجار”. 

 

غابات فردوسية مظللة وثلوج وشتاء في غرة الربيع !

رغم الداء وأعداء الطبيعة الذين حولوا بعض الأشجار العظيمة إلى قطع مجزوزة، تاركين وراءهم مجزرة طبيعية لم ترحم أرزا أو صنوبرا بغرض بيعه خشبا أو حطبا أو فحما لباعة الشواء ، لا يزال الأوراس هو الأوراس بأرزه الذي يشكل 66 في المائة من هذه الثروة بالجزائر، فقد عثرنا على جنات ونحن نقطع ساعة أخرى في جبل مرتفع من النبات الطالع في قلب الصخور وينتهي عند قمة تشبه عش عقاب كثيف بأشجار أرز تناهز 30 مترا 

وبجذوع سميكة في شكل سلسلة دائرية كبيرة، ولشدة الرياح المزمجرة وبقايا ضباب كان المشهد مروعا بفعل الصوت الذي يشبه أزيز الطائرات المقاتلة، ولصعوبة المرتفع كنا نغالب تعب ألام الأقدام والأفخاذ بالاتكاء على الجزء الخلفي من الأحذية الرياضية ذات الهواء الضاغط اللازمة لهذه الهواية، كما كنا نتوقف لفترات قبل أن تبدأ مهمة تجاوز قطع حجرية ضخمة وصقيلة وأدغال من جذوع الأشجار المعمرة التي يبلغ عمر بعضها 300 سنة أو تزيد بقرن أو قرنين أخرين، وماكدنا ندخل تلك الهضبة حتى فوجئنا بمشهد يخلب الألباب، فهناك أرض منبسطة ذات عشب أخضر وبقايا كتل ثلجية وأشجار شكلت مظلة طبيعية بمطلات عديدة تكشف عن سحر بانورامي أخاذ على الغابات المجاورة وسهل ملاقو وجبال متراصة وقرى منتشرة عند سفوح جبال متراصة من الأدنى فالأعلى على مدار مئات الكيلومترات، رفع بعضنا شارات النصر للاعتقاد أنها قمة رأس كلثوم، لكن سرعان ما حلت الخيبة فقد كانت القمة في الجهة الأخرى، وعلى ارتفاع شاهق يقتضي قطع أرض بطحاء بمزيد من الجهد والتعب ولكسر الإحباط الذي منع مجموعة من إكمال المهمة المضنية الأشبه بعملية التمشيط العسكرية، فقد شهدت هضبة الفردوس معركة طاحنة في اللهو بثلج ديسمبر في أواخر شهر مارس! 

قبل أن نكمل بقوة الصبر ما أفقده الجهد والنصب تسلقنا بصعوبة المسافة الأخيرة تحت قصف الرياح العاتية التي كانت تزمجر عكس الاتجاه مثل قنابل صوتية مرعبة لنبلغ ساترا صخريا يكشف عن بطحة صغيرة لا تتعدى بضعة أمتار، غرس فوقها شاهد صخري يدلل على بلوغ رأس ثاني أعلى قمة بالجزائر على علو 2328، ووراءه على حافة رأس جبل مجاور محطة للأرصاد، ولقوة الرياح المزلزلة التي أسقطت مصورا على الأرض وكادت تودي بحياة مشارك صعد فوق الشاهد المحاصر برياح الجهات الأربع  ،فقد احتمينا لفترة داخل مربعين مبنيين من الصخر في شكل دشم عسكرية، ومن فوق القمة منظر عام و شاهق تبدو منه عدة بلديات وجبال ولايات باتنة وبسكرة وخنشلة، بل إن سد بلدية يابوس يتبدى كأنه قصعة ماء صغيرة! 

 

شاليهات شيليا: الشجرة التي تغطي غابة السياحة المهجورة !

رغم الجبال الشاهقة والغابات الكثيفة والأرز النادر لا تحتوي المنطقة على مرافق كثيرة تلبي الطلب المتزايد على هذه المنطقة الساحرة التي باتت مقصدا للسياح من مختلف الولايات وحتى من قبل أجانب، فقد تقاطع مسارنا مع ست نساء دكتورات في الرياضيات بالعاصمة وبومرداس جئن خصيصا للصعود نحو قمة الرأس في تحد أخر يكشف لك أن سلالة لالة كلثوم ولالة خديجة لم تنقطع في مقارعة الصعاب وممارسة فن تذوق السياحة والحياة رغم قلة البنى التحتية، حيث لا تزخر المنطقة سوى على عدد من باعة الشواء في منتهى منعرجات حنبلة التي كان يرمي منها الاستعمار الفرنسي المجاهدين المربوطين بعجلات من رأس القمة نحو المهاوي البعيدة، ويضم المكان نصبا مخلدا لتلك المأسي على اليمين فيما يقع على اليسار منتجع سياحي يدعى شاليهات شليا، وهي مؤسسة سياحية وخدماتية دشنت سنة 2007  لتكون المرفق الوحيد والمؤهل في شكل فندق مبيت يضم بضعة مراقد جماعية طاقتها 160 سرير ذو طابق، مجهزة بدورات مياه وحمامات تتوفر على الماء الساخن بكلفة مبيت رخيصة بـ 500 دينار لليلة، كما يضم 6 بنغالوهات منجزة بحطب الأرز وبهندسة مواتية ذات الغرفتين والثلاث غرف مجهزة بدورات مياه وحمام وكلفتها3000   دج للأولى و4000 للثانية، ويضم ثلاث غرف سعرها 2500 دج لليلة الواحدة، ويتمتع المرفق ذو النجمة الواحدة بمناخ رائع لوقوعه فوق تلة مرتفعة تحيط بها بواسق الأرز وبه حظيرة سيارات وقاعة استقبال بتلفزيون يستقبل المحطات الفضائية المختلفة، وقاعة محاضرات، وسطح واسع مفتوح على الهواء الطلق يمكن من رؤية الجبال المحيطة والتلال وغابة أولاد ملول واحدة من أكبر غابات البلاد. 

وأما المطعم المرفوق بكافيتريا تبيع القهوة والشاي والمياه والمشروبات المختلفة، كما يحتوي على مشواة عملاقة ويقدم وجبات بأسعار معقولة، فكل الأطباق المقدمة مثل الكسكسي والبطاطا المقلية والبطاطا المرحية والسلطة مسقفة بـسعر 200 دج للوجبة، 

وشريحة لحم الديك الرومي بـ 250 دج، في حين يملك الزبون خيار طلب زنة من لحم الخروف معدة للشوي حسب الميزان بسعر محدد بـ 1700 دج للكيلوغرام الواحد، ويشهد المرفق ذروة الطلب خلال الفترة الصيفية لاشتماله على مسبح، حيث تتهاطل عليه طلبات الحجز لاعتدال حرارة المنطقة صيفا بـ 28 درجة ولرغبة الزبائن الاختلاء والتمتع بالماء والخضرة على مدار الأيام الحارة التي تفوق 42 درجة خارجها. 

نقص المرافق والإهمال الذي تتعرض له غابات الأرز هو ما يمكنك استخلاصه في النهاية، فقد جاملتنا الطبيعة بمواقع تفوق روعة جبال الألب والبيريني، لكن غياب السياسات حرمت من أن تجعلها أقطابا سياحية، ولا أفلحت في الاستفادة من صناعات مرتبطة بها مثل زيت الأرز الذي يستخدم في صناعة المستحضرات الطبية والتجميلية والعطور، كما يساهم بخلطه مع زيت الصنوبر في إنتاج زيت التبرنتين المستخدم في إنتاج العقاقير الطبية ومبيدات الحشرات ومطهرات الجراثيم وفي صناعة العجلات المطاطية، في غابر الأزمان لجأ النوميديون لاستخدامه كدعامة في بناء قبر مدغاسن، كما استخدمه الرومان والمسيحيون في بناء توابيت بابوات الفاتيكان، وقبلهما كان الفراعنة يحنطون بزيته الموتى… أما موتى اليوم من الجزائريين فإنهم لا يمارسون سوى سادية مراقبته، وهو يندثر في صمت ولا مبالاة فحتى سبب تسمية ثاني أعلى قمة بالجزائر برأس كلثوم لم نعثر له عن جواب أو رواية أو حتى أسطورة!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • معاذ

    يا أخي لما تذهبون إلى هذه الخرجات فلا داعي للسرد الطويل لوحده إذا منعتونا من الصور، و كأنكم عاملين فينا مزية بصورة أو اثنين