فضة بني يني… صراع بين الحفاظ على الأصالة ومسايرة المعاصرة

تتواجد فضة بني يني، اليوم، أمام تحدي البقاء والصراع بين البعدين التجاري والتراثي، اللذين يتجاذبان هذا الموروث القيم، بين محاولة الحفاظ عليه كأحد الجوانب القيمة للهوية الأمازيغية، وبين العصرنة التي يرغب أصحابها في تحويلها إلى مشروع تجاري مربح، على حساب كل ما هو تقليدي أصيل، يحفظ روح قطع تتعدى كونها حليا تتزين بها المرأة، بل يجمع بين صانع راحل وصاحبة ملكت يوما ما تتوارثه سليلاتها بعدها.
التقليد يهدد استمرار وصمود فضة بني يني
لم يعد الحديث عن مجوهرات بني يني ينحصر في مشاكل الحرفيين وتوفير المادة الأولية والبحث عن سبل التسويق واقتحام الأسواق الوطنية والدولية، وذلك لتواجد حماة هذا الإرث الحضاري أمام تحديات تجعل مهمتهم أصعب أمام الأجيال القادمة، وذلك لاقتحام الكثير من المتاجرين بها، للمجال، مستخدمين كل ما يغيب تدريجيا مقومات وخصوصيات هذا التراث الذي يعد أعرق ما احتفظت به بني يني على مرور القرون والعصور.
خلال تواجدنا في المنطقة، على هامش فعاليات الطبعة السابعة عشرة لعيد الفضة، التقينا السيدة “حردي نورة”، إحدى الحرفيات المتمرسات في ترويض المعدن الأبيض، وعايشت الكثير من كبار ومسني العائلات التي توارثت هذه الحرفة منذ قرون مضت، أشارت خلال حديثها معنا إلى خطورة التقليد المتربص بالحلي الفضية، وذلك بإقدام عدد من الحرفيين الشباب غير المنحدرين من منطقة بني يني، على اعتماد آلات وقوالب خاصة لتقليد المجوهرات الأصلية، وإغراق السوق بالكمية دون النوعية، بالمقلد دون الأصلي، بالثمن المنخفض على حساب القيمة الروحية والقيّمة لكل قطعة، كان ولا يزال حرفيو بني يني يصنعون كل قطعة بتفاصيلها الصغيرة، وهو ما يهدد مستقبل هؤلاء من جهة ويهدد وجود فضة بني يني من جهة أخرى.
والتحدي الأكبر لهؤلاء -تقول المتحدثة- أن حرفيي بني يني، مطالبون اليوم بتأسيس جمعية تمثلهم وتدافع عن أهدافهم، التي لا تقتصر على توفير المادة الأولية والشكاوى الخاصة بذلك، بل العمل على منع دخول مقومات التقليد إلى بني يني بالدرجة الأولى، وذلك بتحلي صانعيها وحرفييها بروح المسؤولية والحفاظ على مصداقية وصيت فضة بني يني الدولية، قائمة، لأنه إذا انساق واحد منهم وراء سياسة التقليد والبحث عن الثراء، ستفقد الصنعة التي حافظ عليها الأجداد لأجيال متعددة، مصداقيتها وصورتها اللامعة بالدرجة الأولى، لأنه مهما تعدد صناع الفضة وحرفيوها، تبقى العلامة المسجلة والبصمة الخاصة للحلي الأصلية عنوانها بني يني بلا تردد.
يني يني .. للفضة عنوان في حاجة إلى حماية
وأضافت المتحدثة أن التحدي اليوم، يتجاوز حماية مصدر رزق للعائلات والحرفيين، فالحلي الفضية لم تكن حرفة عادية يقتات بها الناس، ولم تكن تحصر في كونها حليا تتزين بها النسوة، فالعلاقة الروحية والمميزة بالمعدن الأبيض ومروضيه، هو ما مكنها من معاصرة جميع الأزمنة ومرافقة الأجيال واستمرارها رغم فنائهم.
وقد كان وقت الحرفي أغلى ما تسلبه إياه كل قطعة يصنعها، ولم تكن الأسعار تناقش، خصوصا إذا كان المشتري قريبا أو جارا، فهم أدرى بتضحيات الصانع الذي ينقطع عن الحياة العادية ليخرج من ورشته بتحفة فنية، تجعلها أقدميتها من أحد الشواهد الحية على تراث وثقافة أجيال، يتقاسم حكاياتها صناع أبدعوا فيها ومالكات افتخرن بها في حياتهن وأورثنها بناتهن وسليلاتهن بعدهن.
ورحلة القطعة الواحدة عبر أعناق عدة نساء، تجعلها وسيطا يستمر بعد رحيل أصحابه، ويروي قصص أجيال مرت من هنا يوما، صناعا كانوا أو مرتدي حلي أصبحت جزءا من الذاكرة الشعبية والتراث الذي يتطلب اليوم متحفا بقلعة الفضة بمنطقة القبائل والجزائر ككل، حيث أصبحت بني يني أمام رهان حماية والحفاظ على الموروث الذي عجز الاستعمار على مختلف جنسياته عن تغييب حدداة الفضة من قرى بني يني، ويهددها اليوم الراغبون في الربح وتأسيس تجارة الفضة المقلدة، بالزوال التدريجي.
المجوهرات القديمة .. إرث جماعي يستدعي رفوف المتاحف
تتواجد مجوهرات بني يني اليوم أمام عدة تحديات، تعمل كلها على تغييبها ووضعها على أحد رفوف المتاحف والذاكرة الجماعية، في حال استمرار الأمور على وضعها الحالي، حيث بدأ عدد الحرفيين الأصيلين يتناقص ويختفي بسبب قلة المادة الأولية من جهة، وكثرة المنافسين غير التقليديين من جهة أخرى.
وهو ما أفقد المجوهرات الفضية خصوصيتها، بعدما أغرقت الأسواق بالقوالب الصينية التي تصنع مجوهرات وإن كانت فضية، لكنها مقلدة الصنع، حيث يشتري هؤلاء قطعا تقليدية أصلية ويصنعون آلاف النسخ المقلدة عنها، في حين تتميز مجوهرات بني يني بالدقة والإتقان في صنعها اليدوي الذي يشكل الحرفي كل قطعة منها على حدة، ويركبها كذلك، وتجعل لكل واحد فيهم بصمته الخاصة في عالم صناعة المجوهرات الفضية، فتجد الحرفيين الأصيلين يحرصون على الجودة والنوعية دون الكمية، والإتقان عند هؤلاء عدده محدود ولا يخضع لقانون العرض والطلب.
المتجول في معرض الفضة ببني يني، يصادف قطعا وحليا فضية نادرة وقديمة، قد يزيد عمرها عن القرن من الزمن، لكن عارضيها يجهلون مصدرها وتاريخها، فأغلبهم اشتروها من نساء دفعتهن الحاجة إلى بيعها، ويعرضونها للبيع دون معرفة خباياها أو قصتها، فلكل قطعة من الحلي القديمة رواية تخلدها وتجعلنا اليوم أمام مهمة الحفاظ عليها وحمايتها من الاندثار، فأغلبية من تقع في أيديهم هذه القطع القديمة، يقومون بإعادة بيعها أو تذويبها لصنع حلي أخرى بها، دون تقدير قيمتها ورمزيتها. التي تدخل ضمن التراث الواجب اليوم تدخل السلطات وعلى رأسها وزارة القطاع للحفاظ عليه وإبقائه قائما للأجيال القادمة.
مجلة التظاهرة ومتحف للفضة.. مشاريع مقترحة
خلال تواجدنا في المعرض الخاص بالفضة في بني يني، لفت انتباهنا وجود عدة قطع قديمة جدا، إلا أنها تعرض للبيع دون أدنى اعتبار لقيمتها التي لا تقدر بثمن، حيث أصبحت مع الوقت إرثا جماعيا، يتوجب الحفاظ عليه حتى يتسنى للأجيال المقبلة الاطلاع عليه باعتباره شواهد حية عن ترويض الأسلاف للمعدن الأبيض، وتحويله إلى تحف نادرة بشكل يدوي وأدوات تقليدية، تنفرد كل واحدة بنوعها وخصوصيتها، فهم يعطون كل قطعة جزءا من روحهم لصنع أي قطعة ترافق الفتاة التي تهدى لها، ابنة كانت أو كنة، طيلة حياتها وتنقل لبناتها أو حفيداتها، في رحلة تمتد عبر أجيال وحكايات تختلف من واحدة لأخرى، قبل أن ينتهي بها المطاف مباعة لأسباب تختلف من وريثة لغيرها.
وهو الواقع الذي يفرض اليوم إنجاز متحف للفضة في بني يني، يكون مزارا للراغبين في الاطلاع على هذا الموروث الثقافي، ومرجعا للحرفيين الصغار وغيرهم من المهتمين بذات المجال.
حيث يتم جمع القطع القديمة التي يملكها الحرفيون في محلاتهم عبر توارثها أو شرائها من عند العائلات الراغبة في بيعها، إذ أصبح بعضها نادرا جدا، يجب إبقاؤه حيا لاطلاع الأجيال المقبلة عليه.
والمتحف المنتظر إنجازه سيضم هذه التحف والقطع النادرة والقديمة، ما يجعل زيارة بني يني لا تقتصر على أسبوع في السنة ولا يرتبط بعيد الفضة فقط، إذ يسمح لها بإنعاش وتطوير المجال السياحي الذي بدأ يعرف للمنطقة طريقا عبر دور الضيافة وعيد الفضة والمواسم الشتوية.
وبما أن الفضة حرفة حافظت عليها بني يني لقرون من الزمن، توجب عليها الحفاظ على عنوانها الأصلي، وهو فضتها، عبر عرض التحف الفنية النادرة والقطع القديمة التي أصبحت تستحق مكانها في متحف يحفظ قيمتها ورمزيتها، فلم تعد واجهات المحلات ولا عرضها للبيع يليق بها، فهي ذات روح تناقلتها أجيال رحلت وبقيت هي صامدة، تروي حكاية صائغ أعطاه وقته واهتمامه وصاحبة شاركتها أفراحها ومناسبتها، ما يجعلها جديرة بالاهتمام والغلق عليها كجزء ثمين يستحق البقاء في أروقة الذاكرة الجماعية.
إلى جانب مجلة خاصة بعيد الفضة، يتم خلالها جمع شهادات المسنين من صناع الفضة والعائلات المختصة في المجال، حتى تكون مرجعا للطلبة الجامعيين، أو الحرفيين الراغبين في الاطلاع على هذا الإرث الحضاري في منطقة القبائل وتحديدا فضة بني يني، التي تحمل رموزها وألوانها عدة روايات ومعان وأبعاد ثقافية واجتماعية مرتبطة بالعادات والطبيعة.
وربط بها الأسلاف كل ما هو نقي وصاف، حتى إن أغلبية الأمثال والمقولات الشعبية تذكر فيها الفضة، كما كانت أصدق ما يتعامل معه الحرفي، فعلاقته مع هذا المعدن كانت كعلاقة الفلاح بالأرض.. وتبقى فكرة المتحف والمجلة، مجرد اقتراح يناقش مستقبلا من طرف المنظمين والمسؤولين.
الطبعة السابعة عشرة.. حضور يدفع إلى الاهتمام بالقطاع السياحي ومنشآته
وعن الطبعة السابعة عشرة لعيد الفضة، فقد عرفت التظاهرة حضورا قويا لعدة حرفيين ومجوهراتيين، قدر عددهم بـ118 منحدر من بني يني وحدها، والبقية من عدة ولايات بالوطن، حيث حضرت الفضة التارقية والشاوية، ومختلف الصناعات التقليدية الأخرى كالفخار، الصابون الطبيعي وحضور عدة شباب وحرفيين مشاركين لأول مرة، وعدد الزوار ارتفع بشكل كبير، ضمنهم سفيرا سويسرا والتشيك.
وأكدت السيدة “اكموم”، عضو في اللجنة البلدية للحفلات ببني يني، أن فضة المنطقة تحتفظ بصيتها الدولي وستعزز مشاركاتها الدولية والوطنية في المواعيد الثقافية القادمة، ولمساعدة الحرفيين الناشطين في البلدية على الاستمرار، عملت اللجنة على إعفائهم من مهمة البحث عن المادة الأولية، حيث كلف أحد أبناء المنطقة بتوفيرها سواء الفضة الخام أم المرجان، اعتبارا من شهر سبتمبر المقبل، حتى يتمكن الحرفيون من الحفاظ على صناعة الفضة.
ولدفع عجلة السياحة التي أنعشتها الفضة ببني يني، لا يزال الرهان على دور الضيافة قائما في انتظار استغلال دور الشباب التي تتواجد وستنجز في كل قرية من قرى بني يني، حتى تكون زيارة بني يني متاحة على مدار السنة ولا تقتصر على أسبوع عيد الفضة.