-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ليلة القدر.. بين حوائج الدنيا وحاجات الآخرة

سلطان بركاني
  • 589
  • 0
ليلة القدر.. بين حوائج الدنيا وحاجات الآخرة

ودّعنا ليلةَ الجمعة الأخيرة ليلةً وترية من ليالي العشر الأواخر، هي ليلة الثالث والعشرين، وقد قال بعض العلماء إنّ ليلة الجمعة من العشر الأواخر إذا وافقت ليلة وترية، فهي أقرب لأن تكون ليلة القدر.. لكن لا أحد يستطيع أن يجزم بهذا كقاعدة عامّة، ولا خاصّة بهذا العامّ، لأنّ علم ليلة القدر عند ربّي، والصّحيح أنّها تنتقل بين ليالي العشر، ومن يدري لعلّها تكون لم تمضِ بعد، وهي ضمن الليالي الباقية.. والعبد المؤمن الذي يرجو الخير لنفسه لا يكلّ له عزم في تحرّي ليلة القدر في أيام الشّهر كلّها إلى آخر ساعة من رمضان، ويزيد اجتهاده وإلحاحه في دعائه في ليالي العشر الأواخر، ويقوى رجاؤه في ليالي الوتر منها.

ليس من الأدب مع الله أن يقتصر العبد في اجتهاده على ليلة معيّنة يرجوها أن تكون ليلة القدر، ولا على ليال من العشر الأواخر دون غيرها، كأنّما يقول لخالقه ومولاه: “إنّما أتقرّب إليك عندما تكون لي عندك حاجات أريد قضاءها”.. دأب العبد المؤمن الموفّق أن يجتهد في رمضان، ويزيد اجتهاده في العشر، ويقوّي رجاءه في الوتر منها، ويزيده في الليلة التي يحسبها ليلة القدر.

كما أنّه ليس من الأدب مع الله أن يتحرّى العبد المؤمن ليلة القدر، لغرض واحد هو أن يدعو الله بحاجات الدّنيا وحدها، وينسى حاجات الآخرة.. وهذه حال بعض المسلمين الذين يهتمّون بليلة القدر ويحرصون على رصد علاماتها، لا لشيء إلا ليدعوا بحوائج الدّنيا وبأمنياتهم التي يتمنّون تحقّقها في هذه الدّار؛ مِن شفاء مريض وقضاء دين وتفريج كرب وزواجٍ وعمل وسكن ومال ومركب؛ يلحّون ويبكون في طلب هذه الحاجات، لكنّهم عند طلب حاجات الآخرة يمرّون سريعا؛ فلا يلحّون ولا يبكون ولا تخفق قلوبهم عند الدّعاء. يقول الإمام عبد الحميد ابن باديس -رحمه الله-: “ليلة القدر تُراد للدِّين لا للدُّنيا، وكثير من العوام يتمنى لو يعلم ليلة القدر ليطلب بها دنياه.. فليتب إلى الله من وقع له هذا الخاطر السيئ؛ فإن الله يقول في كتابه العزيز: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}.. ولسنا ننكر على من يطلب الدنيا بأسبابها التي جعلها الله -تعالى- وإنما ننكر على من يكون همه الدنيا دون الآخرة، حتى أنه يترصد ليلة القدر ليطلب فيها الدنيا غافلا عن الآخرة” (آثار ابن باديس: 2/ 392).

نعم، يجوز للعبد المؤمن أن يدعو الله بكشف هموم دنياه وغمومها وتفريج كرباته، ويدعو بتحقيق آماله وأمنياته، والله حنّان منّان جواد كريم، يحبّ لعبده أن يطلب منه حتّى ملح بيته…. لكن لا ينبغي للعبد أن يكون دنيويا صرفا، يحرص على صلاح دنياه الفانية ولا يأبه بآخرته الباقية.. يقول الله تعالى: ((فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ))..

ينبغي للعبد المؤمن أن يُظهر حال الاضطرار وشدّة الحاجة، وينبغي لقلبه أن يكون أشدّ حضورا، وللسانه أن يكون أكثر إلحاحا، وليديه أن تكونا أكثر ارتفاعا، ولدمعات عينه أن تكون أكثر غزارة؛ وهو يدعو الله في ليلة القدر بحاجات الآخرة: وهو يدعو بمغفرة ذنوبه وعتق رقبته وستر عيوبه، وهو يلحّ على الله أن يزحزحه عن النار ويدخله الجنّة، وهو يرجو الله أن يرضى عنه ويعيذه من عذاب القبر وعذاب النّار، ويحشره مع حبيبه المصطفى عليه الصلاة والسلام، ويسكنه الجنّة قريبا من شفيعه، ويكون أكثر تلذذا ولهفة وشوقا وهو يدعو الله بأن يمتّعه برؤية وجه الحنّان المنّان في جنّته ومستقرّ رحمته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!