يا بلارج والمنفي ودمو سايح في الويدان.. أغان تراثية تسرد قصصا حقيقية

الأغاني، عادة ما تروي حالة ما، من حب وفراق، من غدر أو نفاق.. هي مرآة للمجتمع وقراءة لواقعه، هي تأريخ أيضا لماضيه واستقراء لمستقبلـه، تكمن قوتها في كلماتها وأبياتها التي تعطيها الألحان والخلود. هي حال أغانينا الجميلة، التي ترافقنا في كل حالاتنا، يا الرايح، ويا بلارج، وحوز مالطة، والمنفي، وغيرها الكثير.. أغان بدأت بحكاية، فما حكاياتها يا ترى؟
عرفت الجزائر أكثر حرب دموية في التاريخ، وصنعت ثورة تدرس في الجامعات، رافقتها الأغاني والأهازيج، منذ اندلاعها، على غرار أغنية دمو سايح بين الويدان، التي تحكي قصة بطل يدعى سي عباس لغرور، رجل ضحى بكل ما لديه بأتم معنى الكلمة، حين غادر دواره وترك كل عائلته، ولم يلتفت حتى لوداعهم، كي لا يضعف. فرنسا اعتقلت كل عائلته، وكل شخص يحمل لقب لغرور.. وهذا كي تقايضهم به. لكنه، لم يتراجع، هشم جسد والده، وصعقت زوجته بالكهرباء، حتى ابنه، الذي كان حينها لم يتجاوز العامين، كان من بين المعتقلين في المحتشدات.
عرف في الثورة على أنه الجزائري الذي كبد فرنسا أكبر الخسائر، وقاد أشرس معركة في تاريخ الثورة، وهي معركة الجرف، التي واجه فيها هو ورفقاؤه الخمسمائة أكثر من 40 ألف جندي فرنسي. توفي مغدورا، في 25 جويلية 1957، ولم يعرف له قبر إلى حد الساعة.
قصة هذا البطل، تلخصها مرثية ترددها النساء وأعادتها الفنانة الراحلة، بقار حدة، بعنوان دمو سايح في الويدان.
قصة الشهداء، خلدتها الكثير من الأغاني، أشهرها المقنين الزين، للشيخ الباجي، التي غناها الكثير، التي تحكي قصة الشهيد الصامت بوعلام رحال، الذي أعدمته فرنسا بعد أن زورت تاريخ ميلاده.
مرثية الطيارة الصفراء، هي نموذج إبداع المرأة الجزائرية إبان الثورة. ورغم الأمية والفقر، فقد يلهج اللسان بشعر عفوي، يأتي من القلب، فيحرك المشاعر.. هي قصة أخت تختصر معاناة شعب، في صورة طائرة صفراء ترمز للدمار.
أغنية يا المنفي، هي مرثية أخرى، يعود تاريخها إلى عام 1871. كتبها أحد أسرى ثورة المقراني، الذين تمّ نفيهم إلى جزيرة كاليدونيا. تروي الأغنية مأساة عدد كبير من المقاومين والأسرى الجزائريين، الذين تمّ ترحيلهم بين الأعوام 1864
و1921. بدءا من المحكمة وصولاً إلى المنفى في جزيرة كاليدونيا، والمعاناة التي يعيشها، وهو لا يعرف المصير الذي قد يواجهه.
من الحب ما قتل
قصائد العشق والغزل، لا تعد ولا تحصى، وأكثر ما علق في أذهان الجزائريين، القصص التي كتبت شعرا، وتحولت إلى أغان خالدة، مثل أغنية حيزية، لعبد الحميد عبابسة، رحمه الله.
عزوني يا ملاح في رايس البنات
سكنت تحت اللحود ناري مقديا
يــاخي أنـــا ضرير بيــــا ما بيــا
قلبي سافر مع الضامر حيزيــا
هذه القصيدة الرائعة، كتبها الشاعر محمد بن قيطون البوزيدي الخالدي، من منطقة سيدي خالد، في القرن التاسع عشر. وتحكي في أكثر من مائة بيت، قصة حب حزين، بين سعيد وحيزية. قصة روميو وجولييت، بنكهة واقعية، تسرد عشق رجل لابنة عمه في بيئة لا مكان فيه لقصص الحب والرومانسية، انتهت القصة بموت حيزية عام 1878، بعد أن أصيبت بمرض عضال، وحزن سعيد الشديد عليها.
من البادية إلى عاصمة بايلك الشرق قسنطينة، التي اشتهرت بقصة حب كبيرة، عمرها ثلاثة قرون، وخلدها عميد أغنية المالوف، محمد الطاهر الفرقاني، في قصيدة البوغي. وتعني البوغي المراد. وهي مشتقة من البغية. وتحكي عن حب غير متكافئ بين سيدة من علية قسنطينة وشاب من العامة.
ولعل الأغاني التي تتغنى بالنهايات السعيدة لا يكتب لها الخلود. هذا، ما حدث مع أغنية بختة، قصة حب أخرى من قصص الحب، المهربة من ذاكرة الشاعر الكبير عبد القادر الخالدي، الذي ذاع صيته قبل الثورة، وصادف الحب في يوم من أيام عام 1945 في مدينة تيارت، هناك رأى بختة الفاتنة، ولم ينسها ولم تنته الأمور بالزواج بل بالفراق.
لا يحرك قريحة الشعراء سوى الفراق والألم والحرمان، وقصيدة يا بلارج، التي غناها الكثيرون هي الفراق كله، وتروي قصة عاشق رحلت محبوبته بعيدا، رحلت فاطمة، وهذا اسمها، وتركته يكابد الآلام:
داك لغرام اللي بلاك وبلاني.. راني منو ضحيت في الممات
أغنية “لو ما الفضول”، التي حفظها أهل تلمسان، وتداولوها عبر الأجيال، وهي قصة شاعر كفيف نجح في وصف زوجة الحاكم في أغنية كلّفته إبعاده من المدينة، لكن التي تسبّبت له في ذلك، هي نفسها من شفعت له لدى الحاكم بحنكة الحكمة.
أغنية من التراث الجزائري، أتت من زمن بعيد في عصر سلاطين الأندلس، ولا تزال تغنى لحد الساعة، بعنوان سرمدي: لاش تلقي يدك لخدّك. هذا القصيد الأندلسي، يروي حكاية جارية بيعت بأبخس الأثمان، ولم يعرف صاحبها قيمتها، ولكنها حين وصلت بلاط السلطان صارت المفضلة لديه، وهذا لمواهبها المتعددة في العزف والغناء، وقول الشعر، هذه القصة بتفاصيلها، وردت في جزء من نوبة مقام الذيل، وهي من تراث مدرسة الصنعة.
قصة بحر الطوفان
البحر ملهم الكتاب والشعراء والفنانين، فيه الحياة والموت، وما من قصيدة لم تتغزل بجماله وتضرب المثل بهدوئه وصفائه، لكنه في ثورة غضبه لا يعرف حبيبا، فالكل سواسية أمام موجاته العاتية. يا بحر الطوفان، للشاعر محمد الباجي، رحمه الله، أبلغ مثال عن غدر البحر، فالأغنية تروي قصة أحد أقرباء الشاعر، وتصف يومه الأخير في رحلة صيد مميتة.
ملي خرج فالصبحيـة، مارجعش للعشية، سولت اصحابو البحرية، حتى خبر عنو ما بان، يا بحر الطوفان.
وتروي الأغنية غرق السفينة، التي لم يبق منها سوى بعض الأخشاب: من السفينة بقاو شي لوحات، مرفوعين فوق الموجات، ثم عرفت حبيبي مات، ارحمو يا رحمن.
الزواج ليس قصيدة حب دائما
هل يعقل أن تكون أغنية تغنيها النسوة في الأعراس، تروي أتعس قصة زواج في الجزائر؟ هذه حقيقة تتجلى في كلمات أغنية حملت أكثر من عنوان، هي كوستيمو لكحل، التي ترمز لبدلة العريس، وأحيانا خاتم صبعي. هذه الأغنية، تقص حكاية زوجة مصدومة، يتأهب زوجها للزواج مرة أخرى بذريعة أنها عاقر، وتصف الكلمات حرقتها على مدار الأيام، يوما بعد يوم، حتى يصل موعد الزواج. هل أرغم على الزواج من أهله، كي يأتي بولي عهد يحمل اسمه.. القصة لا تروي التفاصيل بل تتركها لخيال المستمع.
بنفس القصة، اشتهرت أغنية شاش الخاطر شاش، التي خلدتها الراحلة زليخة، بصوتها الرائع، على وقع البندير، تهتز مشاعر امرأة اتهمت بأنها عاقر لا تنجب. وشاش الخاطر، تعني أنه تشوش واضطرب.