-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ثاموغلي

آث عباس… القلعة المنسية”2/3″

آث عباس… القلعة المنسية”2/3″

اشتهرت قلعة آث عباس قديما بالصناعات والحرف المتنوعة، وارتبط هذا النشاط بوجود جالية كبيرة من سكان بجاية الذين انسحبوا إلى الجبال، عقب استيلاء الإسبان على المدينة سنة 1510م بما فيهم الجالية اليهودية، التي أكد الكاتب الفرنسي جون ماريزو Jean Marizot وجودها في القلعة(5).

الحياة الاقتصادية والاجتماعية

 

 وبفضل خبرة هذه اليد العاملة، نجح أهل القرية في تطوير صناعة الأسلحة التي كانت مطلوبة حتى في الأسواق التونسية(6)، وكذا صناعة المنسوجات، خاصة البرانس التي طبقت شهرتها الآفاق، الأمر الذي جعل الرحالة الألماني هاينريش فون مالتِسان ـ الذي زار بلاد الزواوة سنة 1857م ـ يقول عنها: “ولعل آيت عباس أبرع القبائل في الصناعات المحلية. فهي تملك أكثر من مائتي رحى للزيتون. وكثرة الرحى تعد مقياس ثروة قبيلة من القبائل. وبالإضافة إلى ذلك فإن آيت عباس هم الذين يخيطون البرانس ويرقعونها بمهارة فائقة، ولهم دكاكينهم في الجزائر العاصمة نفسها.”(7)

وبالنسبة للجانب العمراني فإن قرية قلعة آث عباس – بصفة خاصة – قد شيّدت على النمط المتوسطي المتميز باستعمال الحجارة والقرميد، وتدل درجة الإتقان في البناء ونصب الأبواب، على وجود بصمات أندلسية، خاصة في الجامع الكبير، الذي لايزال يتحدى الزمن بمعالمه العمرانية المعروفة في المغرب الإسلامي. ونظرا لأصالة هذا العمران فقد صارت القلعة متحفا مفتوحا على الطبيعة، يحظى بحماية الدولة.

هذا وتجدر الإشارة أيضا إلى وجود ظاهرة الهجرة بكثافة في عرش آث عباس، بسبب فقر الزراعة المعيشية التي عجزت عن تحقيق الاكتفاء الذاتي لأهلها، ولوجود يد عاملة ذات مهارة عالية في ممارسة الصناعات التقليدية، انتشرت في المدن الجزائرية الكبرى، وقد لعبت هذه الفئة دورا بارزا في نقل الأفكار الوطنية والإصلاحية إلى قراها في آث عباس.

 

الحياة الثقافية

لعل المفارقة العجيبة التي يلاحظها الباحث في التاريخ، أنه رغم أهمية دور القلعة  التاريخي لقرون عديدة، منذ عهد الدولة الحمادية مرورا بحقب الموحدين، والحفصيين، والأتراك العثمانيين، وصولا إلى فترة الاحتلال الفرنسي، فإننا لم نعثر على الكتب والمخطوطات، التي تغطي هذه الحقب الزاخرة بالأحداث العظام، وقد فسّر ذلك الباحث جمال الصديق بحرق ونهب المكتبات الخاصة من طرف الجيش الفرنسي – خاصة خلال أحداث الثورة التحريرية – التي كانت تملكها أسر عريقة في العلم، كعائلات أُومعمرْ، طالب، جلواح، الصديق، والحاج حمودة. وذكر الباحث أيضا، أن كتاب رحلة الورثيلاني (المؤلفة في القرن18م) قد صحّحه ونقحه بقلعة آث عباس. علما أن القلعة كانت تزخر بعشرات المدارس، التي تستقبل الأطفال والشباب، يدرسون العلوم الشرعية، وعلوم العربية والمواد العلمية والتاريخ، وبها مدرسة عليا على غرار مدارس المدن الكبرى.    

ولعل أشهر العلماء الذين برزوا في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، الشيخ الصديق الصديق المتوفى سنة 1914م، الذي ترك وثيقة هامة عن تاريخ القلعة، وكان ضمن الوفد الذي استقبل الشيخ محمد عبده عند زيارته للجزائر سنة 1902م. والشيخ جلواح صاحب مخطوط بعنوان “قلعة الرياح”.

 

الاحتلال الفرنسي

رغم سقوط مدينة بجاية في أيدي الفرنسيين سنة 1833م، فقد نجحت مقاومة آث عباس في الصمود لمدة أربع عشرة سنة، ولم يتمكن الفرنسيون من إخضاعها إلا بعد استقدام قوات كبيرة من مدينة قسنطينة، ومن مدينة الجزائر بقيادة الحاكم العام الماريشال بيجو، الذي فرض سياسة الأرض المحروقة على قرى وادي الصومام. وكانت القبائل المحيطة بمدينة بجاية كمزاية، وآث ميمون، وآث بومسعود، وفناي، قد أعلنت استسلامها في غضون سنة 1846م، الأمر الذي أدى إلى إضعاف الشيخ مزيان أورابح، وعقب فشل هجوم هذا الأخير على الفرنسيين يوم 21 جانفي 1847م، أرسل نجله البشير إلى الفرنسيين يطلب الأمان، يوم 24 جانفي. ولم يفت ذلك في عضد آث عباس الذين واجهوا جيوش الماريشال “بيجو” ببسالة وشجاعة نادرة، لكن فشل المقاومة في وادي الصومام، واعتراف الشيخ محمد السعيد بن علي الشريف مقدم زاوية إشلاظن (أقبو) بالسلطة الفرنسية، قد أضعف مقاومة آث عباس، فتمكن الماريشال بيجو في شهر ماي1847م من احتلال قرية أزرو الاستراتيجية، وعلى إثر ذلك اضطر عرش آث عباس إلى طلب الأمان(8).

ثم لم تلبث هذه المنطقة أن ثارت من جديد بقيادة الحاج محمد المقراني يوم 8 مارس1871م، بدعم من مقدم الطريقة الرحمانية الشيخ محمد أمزيان أحداد الذي أعلن الجهاد في قرية صدوق يوم 16 أفريل، وكادت هذه الثورة، التي شملت مناطق عديدة في شرق ووسط الجزائر، أن تعصف بالفرنسيين، لكن استشهاد قائدها العسكري الحاج محمد المقراني في وقت مبكر ـ يوم 5 ماي 1871 بوادي سوفلات ناحية البويرة ـ قد ساعد فرنسا المتفوقة في التسليح، على استرجاع المبادرة، ومن ثم القضاء على هذه الثورة العظيمة التي هزت أركان الاستعمار الفرنسي.   

ونظرا للأهمية الاستراتيجية لموقع آث عباس، فقد دعّمت فرنسا وجودها هناك بتأسيس بلدية مختلطة مقرها في قرية إغيل علي، وكذا إرسال بعثة تنصيرية سنة 1878م، أسست مدرستين للبنين والبنات، واستغل هؤلاء المبشرون (الآباء البيض، والأخوات البيض) بؤس السكان لتنصير بعض الأفراد. ورغم قلة عدد المتنصرّين فإن هذه المنطقة تعد من المناطق التي ارتبط ذكرها بالمبشّرين، وقد يفسر ذلك ببروز شخصيات ثقافية سامقة، تركت بصماتها في الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، من وزن جان الموهوب عمروش (1906 – 1962)، وأخته طاوس عمروش (1913 – 1976)، والكاتب مالك واري (1916 -2001م). 

آث عباس قلعة للوطنية

تعد منطقة آث عباس إحدى قلاع الوطنية الصادقة، إذ احتضنت معظم أطياف الحركة السياسية الوطنية، التي كللت في الأخير بثورة نوفمبر المظفرة. واستطاع المهاجرون المبثوثون في الكثير من المدن الجزائرية والفرنسية أن ينقلوا الوعي السياسي إلى قراهم في آث عباس، فاحتضنت حزب الشعب الجزائري المعروف بتوجهه الاستقلالي، ثم بدرجة أقل حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تزعمه فرحات عباس، كما انتشرت أيضا أفكار الحركة الإصلاحية، بقيادة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فتم تأسيس عدة مدارس حرة في بعض قرى آث عباس.

وساهم أهل المنطقة في التحضير لملحمة نوفمبر، لذا فمن الطبيعي أن يحتضنها أحفاد الحاج محمد المقراني بصدور رحبة، فصارت قراهم المنيعة قلاعا للمجاهدين، الذين وجدوا في تضاريسها الوعرة خير معين لهم على تطبيق أسلوب الكر والفر الذي أذاق الفرنسيين الأمرّين، لذا كان رد فعل الجيش الفرنسي عنيفا تجسد في تدمير الكثير من القرى وإفراغها من سكانها، وتحويلها إلى مناطق محرّمة، وحشدهم في المحتشدات الخاضعة لرقابة الجيش الفرنسي، كل ذلك من أجل عزل الثورة عن الشعب. هذا وقد احتضن شباب المنطقة الثورة، وفي مقدمتهم الشاب حسين بن معلم وهو طالب، فصار ضمن المقربين من العقيد عميروش.  

 

رياح الحركة الإصلاحية

كان أهل آث عباس الموجودين خارج قراهم، في المدن الكبرى كسطيف وقسنطينة والجزائر، يتابعون باهتمام نشاط الحركة الإصلاحية، الهادفة إلى إيقاظ المجتمع الجزائري من سباته العميق، وبعث هويته الجزائرية المسلمة التي أضرتها سياسة الفرنسة ضررا كبيرا حتى كاد يقضي على معالمها. وأدرك العلماء أن النهضة مقرونة بنشر العلم ومحاربة الجهل، عن طريق بناء مدارس حرة للعربية، بجهود الشعب الجزائري، لتدريس تاريخ الجزائر والأناشيد الوطنية والعلوم العصرية باللغة العربية. لذا كان نشاط جمعية العلماء بمثابة البعد الفكري للحركة السياسية الوطنية، هدفها إعداد الناشئة إعدادا علميا، ولم يكن ذلك خافيا على الإدارة الاستعمارية فسعت لعرقلة إنشاء المدارس الحرة.

 

المدارس الحرة للعربية

أنشأ القرويون بجهودهم الخاصة عدة مدارس حرة، أما المعلمون فقد وفرتهم لها جمعية العلماء. وتعد مدرسة قرية آث عباس التي أنشئت سنة 1933م على الطراز العصري أهم هذه المدارس، وقد أشرف على إدارتها الأستاذ محمد الصالح بن عتيق، وهو خريج جامع الزيتونة، ودرّس بها معلمون كثيرون، ذكر الأستاذ محمد الحسن فضلاء بعضهم وهم: محمد الصالح بن عتيق، بلقاسم بن رواق، موسى الأحمدي، البشير يحياوي، محمد الطاهر الرابطي، عبد القادر الفرجاني، محمد بن مالك الورثيلاني، يحي العوادي، الصديق بوشاسي، عبد الرحمن بوشاشي، محمد وَاعْمَرْ جلواح، ميمونة قيموح سي دحمان(9). وشيدت أيضا في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي، مدرسة ذات قسمين، بقرية إغيل علي، حيث مركز الآباء البيض والأخوات المسيحيات، وعُـيّن الصادق عيسات مديرا لها، فقام بتدشينها بمعية الشيخ العباس في حفل بهيج حضره تلاميذ المدرسة وأولياؤهم، وعدد من معلمي المدارس الحرة قدموا من مختلف المناطق، وتعاقب على التدريس فيها عدد من المعلمين وهم: الطاهر شنتير (مدير)، عبد المالك فضلاء(مدير)، عبد الحميد بن حالة، عبد القادر بركان، ومحمد بن الأخضر ساكري، وعبد المجيد هميسي.

 لكن الإدارة الفرنسية نظرت إلى نجاح هذه المدرسة بعين السخط، لأنها كانت تدرك مدى أهمية التعليم في بعث الوعي الوطني، لذا قامت بغلقها بطريقة وحشية، قام الأستاذ محمد الحسن فضلاء بفضحها في مقال نشره في جريدة البصائر الصادرة بتاريخ 5 ماي 1939م، جاء فيه قوله: “… فما لبثت (أي الجماهير) تستلذ طعم حلاوة التعليم، وتزهو بما تشاهده على التلاميذ من الأثر الحسن والنشاط والصفات الحميدة، أن أعلنت الحكومة غلق المدرسة، والمكتب وتشتيت التلاميذ بواسطة رجال البوليس السريّ، وأحالوا المعلمين أمام محكمة التأديب، بعدما روّعت التلاميذ في أقسامهم، وانتزعت الألواح المدرسية، والكراريس من أيديهم، وهي الآن بين يدي الحكومة.”(10). أما المدارس الأخرى فقد أنشئت بقرى: بوجليل (سنة 1947)، إوْڤـْرَانـَنْ (سنة 1949)، ڤندوز (سنة 1952)، ثيغيلت اُومْـيَالْ (سنة 1953)، ومن أبرز معلميها: الشيخ سليمان الحمراوي، محمد الشريف الثعالبي، الشيخ الصالح جطوطح،الشيخ الطاهر شنتير، محمد أمزيان الثعالبي.

 

– يتبع –

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!