-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أبعدوا الأقلام المستأجَرة عن سيناريو فيلم الأمير عبد القادر

أبعدوا الأقلام المستأجَرة عن سيناريو فيلم الأمير عبد القادر

عندما كان والدي يعمل في السفارة الجزائرية بدمشق سنوات 1970-1973م مسؤولا عن حراسة أمن السفارة ليلا ونهارا، أُتيحتْ لي فرصة الإقامة معه رفقة شقيقي الأكبر مصطفى بغرض تسليته وتحضير دروسنا المكثفة، وخلال تلك الإقامة الفريدة والمتميزة تفتحت أعيننا على الكثير من النشاطات والفعاليات والمنشورات والزيارات التي كانت تشهدها السفارة الجزائرية ليلا ونهارا.. كقراءة الصُّحف والمجلات والكتب التي كانت تأتي لأعضاء السلك الدبلوماسي الطيب والكريم والعطوف علينا يرحمهم الله ويسكنهم فسيح جناته.

ومن تلك الصحف التي مازلتُ أتذكر قراءتها جيدا كجريدة البعث والثورة والطليعة والراية وآخر ساعة والمصور وروز اليوسف والنهار والحوادث والشبكة.. وغيرها، والتي كان معظمها لا يُفتح البتة، لأن صحف تلك الحقبة كانت تأتي مدروزة وتحتاج إلى سكين لفتحها، وبالتالي فهي لا تُقرأ، لأن غالبية أعضاء البعثة لا يقرأون باللغة العربية.. إلاّ القليل منهم، والتي سرعان ما كانت تأخذ موقعها في صالة الأرشيف حيث غرفة نومنا أنا وأخي في الطابق الأرضي..

ومن بين تلك الفعاليات التي أُتيحت لنا مشاهدتها استقبال بعض الشخصيات التي كانت تأتي علنا أو سرا للسفارة لمقابلة السفير سي (علي كافي) وسي (العربي سعدوني) رحمهما الله كالمرحوم ياسر عرفات وجورج حبش ونايف حواتمة وأبو نضال وأبو جهاد.. وغيرهم من الشخصيات كوزير المعارف السورية الأستاذ الدكتور (محمد شاكر الفحام) والمفكر مالك بن نبي يوم قدم دمشق أواخر سنة 1972م وبدايات سنة 1973م، وحظينا بفرصة لقائه وسماعه وأخذ نصيحته لبناء مستقبل زاهر، وقد سُرَّ عظيم السرور لما رأى والدي ابن بلدته تبسة، وظلا يتحدَّثان عن ماضيهما في تبسة، ونحن نستمع عظمة ومكانة مدينة تبسة وهما يذكران دورها ومكانتها كبوابة للشرق ورئة للعروبة وأريج عبق للحضارات.. وقد زوّدنا وأخي يومها بكثير من النصائح الحضارية ضممتها لسيرته وترجمته في بعض منشوراتي البحثية وكتبي المطبوعة بالإمارات ومصر والكويت والجزائر..

وكانت السفارة الجزائرية تقيم كل سنة بمناسبة الفاتح من نوفمبر يوم استقبال تحتفل فيه بعيد اندلاع الثورة التحريرية المباركة، وتشهد كذلك يوم الخامس من جويلية احتفالا رسميا لإحياء ذكرى الاستقلال، يحضره السلكُ الدبلوماسي وممثلو السلطات السورية والحركات التحرُّرية المعتمدين في دمشق وعلى رأسها الفصائل الفلسطينية المكونة لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما تحضره بقوة وبكثافة الجاليةُ الجزائرية المقيمة بسورية وعلى رأسها أحفاد أبناء الأمير من أبنائه، فهم أحفاد الأمير علي وأشقاؤه، وأبناء الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، الأمير محمد والأمير سعيد والأمير أرسلان.. فضلا عن عائلة المبارك، حيث كان يحضر الأساتذة الدكاترة محمد ومازن وعدنان المبارك الوغليسي، هذا الأخير الذي كان أستاذ أصدقائي في ثانوية فايز منصور بالبرامكة، وكنت أزوره صحبة أصدقائي الشاميين في بيته بحي البرامكة.. بعد أن صار مفتشا عامًّا لمادة الاجتماعيات وانقطع اتصاله بالطلبة لأسباب ليس مقام تفصيلها الآن.. فضلا عن العشرات من الطلبة الجزائريين المبتعثين للدراسة في الجامعات السورية.. تحت رئاسة عميدهم الراحل الأستاذ المحامي بعنابة لاحقا (محمد بوالنقجة) رحمه الله.. صحبة صديقه الطالب (محمد السعيد آيت مسعودان) ووالي عنابة والوزير لاحقا.

وكانوا يحضرون -الأمير (محمد) والأمير (سعيد) والأمير (أرسلان)- تلك الاحتفالات وهم يرتدون الزي الوطني الجزائري، ومازلت أذكر كيف كنا نقف صفا في بهو السفارة الطويل لاستقبالهم والسلام عليهم وهم يرتدون البرانيس الجزائرية ذات اللون الأزرق الغامق والرمادي الفاتح والتوتي الفاتح.. المصدرة بالذهب ومن تحتها القندورة الجزائرية ومنهم من كان يلبس الطربوش العثماني المجيدي الأحمر.. وكانت أعمارُهم يومها تتراوح بين الخمسين والستين.. وهم مربوعو القامة وعليهم جلالٌ ووقار الإمارة والإرث الجهادي الأثير الذي ورثوه عن جدهم الأمير كابرا عن كابر.. ثم يتهلل وجه مدير التشريفات مسلّما عليهم حتى يصلوا القاعة الشرفية للاستقبال التي كان يقف فيها الراحل السفير سي (العربي سعدوني) وهو يحمل السيجار الكوبي الكبير في فمه -تأسيا بالراحل الهمام أسد الجزائر الرئيس (هواري بومدين) يرحمه الله- وهو يحاول نفث الدخان منه ولا يستطيع إلى ذلك سبيلا لكبر سنة ولاعتلال صحَّته رحمه الله..

وكنا نسألهم ببراءة الفتيان المدللين: أين يسكنون؟ وماذا يعملون؟ وهل يودُّون العودة إلى الجزائر والإقامة فيها والكتابة عن تاريخ جدهم المجاهد؟ حتى قال لنا أحدُهم وأظنه الأمير (محمد) بأنه أستاذٌ للغة العربية بجامعة دمشق، وروى للواقفين نكتة حصلت له في جنازة كان يسير مشيعا، حين سأله أحد المشيعين قائلا له: (من المتوفيِ؟) بكسر الفاء وهو اسم فاعل، فقلت له: (الله)، فاستغرب الرجل وأعاد السؤال مرارا فأعدت عليه الجواب وقلت (الله)، ولما عظم استغرابُه صحَّحت له جواب السؤال بسرعة احتراما للموقف، وقلت له: (المتوفىَ) بالفتح اسم مفعول هو فلان.. فسكت وانصرفت الجنازة نحو مقبرة باب الصغير حيث مدافن الصحابة والتابعين وصالحي السلف الصالح من الأمة.

وقد وجدنا أحفاد الأمير أشخاصا تمتزج فيهم الثقافتان العربية الجزائرية والشامية، وقد تولّدت عن تلك الشجرة الجزائرية والشامية ثقافة جزائرية وليدة مطعمة بأحلى نكهات الثقافة العربية الشامية.. والجزائريون المهاجرون في دمشق يتوزَّعون على حيين كبيرين فضلا عن المقيمين في إقليم حوران ودرعا والجولان وحلب.. في سائر بلاد الشام، هما حي الشيخ الصوفي (محي الدين بن عربي) على سفوح جبل قاسيون في منطقة تسمى (المهاجرين) حيث يسكن الأمير وأبناؤه وأحفاده ومن معهم من صفوة وعلّية الجزائريين المهاجرين. وحي السويقة الشعبي بالقرب من جامع باب مصلى ومقبرة باب الصغير.. حيث ولدتُ أنا وسبعة من أشقائي ودرجنا وتربينا 1955-1963م ودُفن كبيرُنا بجانب سيدنا بلال الحبشي بمقبرة باب الصغير.

وحي السويقة أو ما يُسمى بحي المغاربة كونه يضم كل سكان المغرب العربي المهاجرين (الجزائريين، الطرابلسية، التوانسة، المغاربة، الموريتانيين) ويكثر فيه الجزائريون، هو: حي كبير مغلق به كل المرافق والخدمات والعادات والتقاليد والأعراف والفنون والأزياء والأكلات.. الجزائرية من مختلف أنحاء وجهات القطر الجزائري العزيز.. فتجد فيه كل الأجناس والأنواع كالقبائلي والشاوي والعربي والتارقي والدراجي والنايلي والباتني والتبسي.. وغالبية أبنيته بالطين والحجارة وسقوفه من الخشب والطين.. وله أربعة أبواب كمسلسل باب الحارة، باب بريدي وباب حارة المسيحيين وباب قبر عاتكة وباب السويقة الرئيسي الكبير، بل كان لي أصدقاء يدرسون معي في إعدادية (حسن الخراط) بحي القنوات في وسط دمشق ذوُو أصول جزائرية قبائلية اصطحبوني إلى بيوتهم ووجدت أمهاتهم وجداتهم وُلدن في الشام، والشام هي دمشق في عرف إخواننا السوريين كمصر للقاهرة في عرف إخواننا المصريين.. مازالوا يتكلمون اللهجة الأمازيغية، واستغربت أشد الاستغراب كيف حافظوا على لهجتهم ولغتهم وعاداتهم الأمازيغية.. وسألوني؟ لماذا لا تتكلمها؟ وأُحرجتْ والله من سؤالهم يومها.

والحارة يديرها مجلسٌ منتخَب يرأسه مختار المغاربة الذي يقوم بتسجيل المواليد ويمنح شهادات حسن السلوك للجهات الأمنية لاستخراج جواز السفر أو الزواج أو الانتماء لقطاع من قطاعات الدولة السورية.. ونحوها.. وحارة باب السويقة لها باب يُفتح على حارة المسيحيين والدروز كما كنَّا نعبر منه باتجاه الحارات الأخرى، ويوم أن حدثت مذبحة 1860م بدمشق فتح مختار الحارة الباب للمسيحيين فدخلوا واحتموا هم والدروز في الحارة كما تروي الحكايات الشعبية التي كنا نسمعها من الكبار ومن صاحب صندوق العجائب أيام العيد.

أعتقد أن من قرأ ما كتب المؤرخون الآباء (مبارك الميلي، أحمد توفيق المدني، عبد الرحمن الجيلالي، محمد علي دبوز، محفوظ قداش، محمد قنانش..)، وما كتب جيل المؤرخين الأبناء (أبو القاسم سعد الله، ناصر الدين سعيدوني، عمار بوحوش..) كفيلٌ برسم صورة ناصعة عن حياة الأمير عبد القادر، إذا أضفنا إليها بعض شهادات الأعداء كشهادة (شارل هنري تشرشل) وكتابه عن (الأمير عبد القادر) الذي ترجمه الراحل (أبو القاسم سعد الله)، وغيره..

وبناء على كل هذا نودُّ أن ننبه إلى مسألة حماية المسيحيين التي نالت حيزا معتبرا من نباح وعواء الأقلام المأجورة والمستأجَرة –وإن كنا نؤمن بعالمية الإسلام وإنسانيته- ممن يركضون ويصرخون للزئير مكان أسيادهم اليهود والنصارى.. والتي تريد فصل الأمير عن سياقه الجزائري العربي الإسلامي الوطني الجزائري، وتركِّز على جانب واحد يخدم نيّات وأهداف أدباء الانسلاخ والمسخ والتشويه والتبعية.. المتعوِّدين على التموقع المشبوه والاستفادة من ريوع  كل مناسبة، كما صنعوا في العقدين السابقين مع فرصة دعم الدولة للكتاب، بطباعة روايات التوقح وأدب الفجور والتيه والضلال.. على حساب أموال الأمة الجزائرية المسكينة.. وذلك عبر الترويج لدعاوى الصهيونية والماسونية العالمية المتخفّية تحت شعارات الإنسانية الجوفاء.. والتعايش المشترَك مع الآخر، ليضللوا المؤرخين الحقيقيين والوطنيين وكتاب السيناريو الجزائريين الأصيلين عن وصف ورسم وعرض ونشر وتأريخ سيرة الأمير الحقيقية.. وكأنما نحن العرب والمسلمين الذين استعمرنا العالم، واستعبدنا الشعوب وقهرناها، وفتّـتنا الدول وقزمناها، ووضعنا الحدود الوهمية، وقسمنا البشرية ومزقناها، ونهبنا ثرواتها وخيراتها، وحولنا شعوبا بكاملها نحو أمريكا واستراليا، وأبدنا شعوب الهنود الحمر والأزتيك والبوير.. ونزعنا فلسطين من أصحابها الحقيقيين واستجلبنا لها قطعان اليهود الغاصبين الحاقدين على العروبة والإسلام.. و..

وللتوضيح والبيان –واسألوا أحفاد الأمير- فحارة المسيحيين والدروز بيوتها وكنائسها متلاصقة ومتعانقة مع حارة السويقة أو حارة المغاربة كما يسميها إخواننا السوريون. ولو أردت أن أسوق مشاهداتي وبعض الوقائع التي كانت تحصل لي وشقيقي الأكبر ونحن نعبر هاتين الحارتين لعرف القارئ الكريم أن خزعبلات أدباء اغتنام الفرص وبث الأراجيف والفتن لا علاقة لها البتة بتضخيم الجانب الإنساني الذي يخدم اليهود والنصارى ودعاة الإنسانية البراهمية العالمية الجديدة دين القرن الواحد والعشرين الذي سينافس الإسلام ويشغب عليه انتشاره المذهل والسريع في العالم بزعمهم.. هي مسألة عادية ومرحلة عابرة في تاريخ الأمير وتاريخ المهاجرين المغاربة في سورية.. وللعلم فالبعض الآخر من المسيحيين الذين فرُّوا إلى بيت الأمير هم من سكان حي الصالحية والسبع بحرات وعرنوس والجسر الأبيض، وكان بيت الأمير هو الأقرب إليهم فاحتموا بمنزله هناك.. ولمسألة صوفية الأمير عبد القادر حظها أيضا للمزاودة والمقايضة ونحوها وبخاصة من قليلي البضاعة والمعرفة العلمية والدينية والتاريخية الشاملة من جهة، وللمغرضين الأفاكين المتربصين من جهة أخرى، يفصل القول فيها خبراء المرحلة والتصوف..

يجب أن يُستدعى لكتابة سيناريو فيلم الأمير خيرة المؤرخين الوطنيين المشهود لهم بالصدق والموضوعية والجزائرية والمعرفة التاريخية الشاملة كـالمؤرخين الوطنيين القديرين (يوسف مناصرية، محمد الأمين بلغيث، محمد علي فركوس) ممن يتولون عرض سيرته الجهادية مرحلة مرحلة، بحيث تأخذ كل مرحلة حقها الواقعي الفعلي، ولا تتغلب مرحلة على أخرى، ولا جانب على آخر.

والخلاصة النافعة هنا هي: يجب أن يُستدعى لكتابة سيناريو فيلم الأمير خيرة المؤرخين الوطنيين المشهود لهم بالصدق والموضوعية والجزائرية والمعرفة التاريخية الشاملة كـالمؤرخين الوطنيين القديرين (يوسف مناصرية، محمد الأمين بلغيث، محمد علي فركوس) ممن يتولون عرض سيرته الجهادية مرحلة مرحلة، بحيث تأخذ كل مرحلة حقها الواقعي الفعلي، ولا تتغلب مرحلة على أخرى، ولا جانب على آخر، وأعتقد أن من قرأ ما كتب المؤرخون الآباء (مبارك الميلي، أحمد توفيق المدني، عبد الرحمن الجيلالي، محمد علي دبوز، محفوظ قداش، محمد قنانش..)، وما كتب جيل المؤرخين الأبناء (أبو القاسم سعد الله، ناصر الدين سعيدوني، عمار بوحوش..) كفيلٌ برسم صورة ناصعة عن حياة الأمير عبد القادر، إذا أضفنا إليها بعض شهادات الأعداء –والحق ما شهدت به الأعداء- كشهادة (شارل هنري تشرشل) وكتابه عن (الأمير عبد القادر) الذي ترجمه الراحل (أبو القاسم سعد الله)، وغيره..

والأمر للسلطة كي تتحمل مسؤولياتها التاريخية أمام هذا الحدث التاريخي الذي يسجل لتاريخ الجزائر ولصورتها المشرِّفة بعد مرور قرنين 1830-2021م على استعمارها من قبل زعيمة المسيحية الحاقدة، فأبعدوا ما أمكنكم الأقلام المستأجَرة عن سيناريو فيلم الأمير تفلحوا فليست النائحة المكلومة كالمستأجَرة.. ولينصرنَّ اللهُ من ينصره إن الله لقوي عزيز.. أللهم اشهد أني بلغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!