الرأي

أردوغان على خطى آل عثمان

محمد بوالروايح
  • 4198
  • 14

يتمتع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشخصية كاريزمية جلبت له احترام كثيرين في الشرق والغرب، وذلك بعد سنين عجاف عانى فيها الرجل التهميش السياسي، شأنه في ذلك شأن كثير من الإسلاميين الأتراك الذين لم يكن لهم دورٌ في صناعة القرار السياسي في تركيا في ظل الحكم العلماني الذي لم يكن يسمح بالمشاركة السياسية للإسلاميين تكريسا لبنود الدستور التركي الموروث عن الزمن الأتاتوركي.

تغيَّرت الخارطة السياسية في تركيا كثيرا بعد أن تراجعت هيمنة العلمانيين وتراجعت معها الثقة الشعبية، وبدأ العلمانيون يفقدون نفوذهم ومواقعهم تحت زحف التيار الإسلامي بزعامة حزب العدالة والتنمية الذي استطاع كسب ثقة الأتراك بعد الهزات الاجتماعية التي جعلت كثيرا منهم خارج الحسابات الاقتصادية التي لم يفلح واضعوها في إنعاش الاقتصاد التركي المتهالك بعد أن بلغ التضخُّم نِسبا قياسية خطيرة، فوجدت الطبقات الاجتماعية في حزب العدالة والتنمية المخلِّص من حالة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وبدأت الأمور تأخذ منحنى إيجابيا على العموم بالرغم من حالة الامتعاض والاعتراض التي أبدتها بعض التشكيلات السياسية التركية تجاه حزب العدالة والتنمية التي تتهمه بالعدول عن الدستور العلماني والحنين إلى العودة بتركيا إلى ما قبل الحقبة الأتاتوركية، أي العودة إلى نظام الدولة العثمانية التي انتهت بمشروع التغريب الذي أمضاه مصطفى كمال أتاتورك بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية.

وبهذا الصدد، يرى بعض المحللين السياسيين أن هذا المشروع التغريبي كان عملا مخططا له ومبرمَجا من قبل الدوائر الغربية الاستعمارية التي استطاعت إقناع مصطفى كمال أتاتورك بقبول الآخر الأوروبي وتطليق الحكم والحياة الإسلامية، وبالفعل قام أتاتورك بتنفيذ هذا المشروع الذي يحمل البصمة الأوروبية فأغلق المدارس الدينية ومنع لبس العمائم والطرابيش والحجاب، وفرض في المقابل لبس القبعة الأوروبية وغيَّر حروف اللغة التركية من العربية إلى اللاتينية واستمر في سياسة إرضاء الغرب.. 

واستطاعت الحنكة والحبكة الأوربية أن تحوِّل تركيا من خصم تاريخي إلى شريك عسكري بقبول عضوية تركيا في الحلف الأطلسي، ولكونها إحدى قواعده المهمة خلال الحرب الباردة، وأن تحوّلها أيضا إلى شريك اقتصادي غير عضوي في الاتحاد الأوروبي بسبب رفض هذا الأخير عضوية تركيا رغم  الإلحاح التركي بمناسبةٍ ومن غير مناسبة.

يسعى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لإعادة المجد العثماني واستعادة الميراث السياسي الذي خلّفه حكام “آل عثمان” وهو الشيء الذي يرفضه ويتخوف منه الشركاء الأوروبيون، ولكن منطق تغليب المصلحة الأوروبية جعلهم يغضُّون الطرف عن هذا الموضوع بصفةٍ مؤقتة وإرجائه إلى وقتٍ لاحق بسبب محورية الشريك التركي وصعوبة العثور على شريك بديل خاصة في ظل الوضع السياسي المتأزم في منطقة الشرق الأوسط  حيث تؤدي تركيا دورا حيويا في الملف السوري، فكيف سيوفق أردوغان بين تحقيق الحلم العثماني وبين الإبقاء على تحالفاته مع الشريك الأوروبي؟

إن ولاء أردوغان لآل عثمان ولاءٌ مشروع ولكن دونه عقبات وعثرات وتنازلات كثيرة، ومن جهة أخرى فإن بعث المشروع العثماني -إذا استبعدنا الرفض الأوروبي وركزنا فقط على الموقف التركي- ليس بالأمر الهيِّن لأن أردوغان حسب المحللين والمهتمين بالشـأن التركي لم ولن يكون بوسعه تطبيق هذا المشروع بحذافيره وسيكتفي بتطبيق بعض جزئياته وبخاصة ما له علاقة بالجانب الاجتماعي دون الجوانب الأخرى، ويمكن تفصيل ذلك بالقول إن الازدواجية التي ينتهجها أردوغان في تمسكه بالمشروع العثماني وحرصه على رفض سياسة العزلة التركية بإقامة التحالفات العسكرية والسياسية مع الغرب له قراءة واحدة وهي أن أردوغان لن يتجاوز في مشروع عثْمَنة تركيا أو إعادة العثْمنة حدودَ الولاء العاطفي والتاريخي وذلك لعدة أسباب، منها أن الحكام العثمانيين كانوا يحكمون إمبراطورية عثمانية مترامية الأطراف كان لها وزنُها على الساحة الدولية آنذاك قبل أن يدبَّ فيها ما يمكن تسميته “السقام السياسي” الذي حوَّلها إلى صورة الرجل المريض الذي هلك بعد مدة واقتسمت الدول الاستعمارية تركته الاقتصادية والحضارية، وأما أردوغان فإنه يحكم تركيا وهي بمنطق المقارنة بحجم دويلة أو مقاطعة في جسم الإمبراطورية العثمانية، بالإضافة إلى أنه لا يملك القوة السياسية والعسكرية التي تؤهِّله للعب الدور العثماني، وخاصة أن تركيا ليست إلا طرفا هامشيا في المعادلة الإستراتيجية الدولية.

“العثْمَنة مشروعٌ مؤجل أو مستحيل لأن أردوغان ليس إلا ممثلا لحزب سياسي، وسياسة تركيا كسائر الدول تتغير ولو نسبيا بتغير السلطة السياسية، فتحقيق المشروع العثماني مرهونٌ ببقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم وهذا غير ممكن لأنه مخالف لقواعد التداول السياسي الذي قد يؤدي إلى خسارة الحزب في الاستحقاقات القادمة.”

ومن ثم فإن العثْمَنة مشروعٌ مؤجل أو مستحيل على الأرجح لأن أردوغان ليس إلا ممثلا لحزب سياسي، وسياسة تركيا كسائر الدول تتغير ولو نسبيا بتغير السلطة السياسية، فتحقيق المشروع العثماني مرهونٌ ببقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم وهذا غير ممكن لأنه مخالف لقواعد التداول السياسي الذي قد يؤدي إلى خسارة الحزب في الاستحقاقات القادمة.

لقد استطاع هذا الحزب ذو الميول الإسلامية أن يعيد بعض مظاهر الحياة العثمانية التي منعها أتاتورك مثل إعادة بعث المدارس الدينية، وهي حقيقة يقر بها  كل المتابعين للشأن التركي فقد عادت المدارس الدينية إلى نشاطها قبل المنع الأتاتوركي، ولكن المحك الحقيقي لأردوغان والحزب الذي ينتمي إليه هو إعادة الحرف العربي إلى اللغة التركية التي لا تزال إلى اليوم تُكتب بالحرف اللاتيني الذي غرَّبها وجعلها أقرب إلى الحضارة الغربية اللاتينية منها إلى الحضارة العثمانية أو الإسلامية بصفة عامة، لم يستطع أردوغان ولن يستطيع فعل أي شيء حيال هذا الموضوع، وكل ما أمكنه ويمكنه فعله هو الإحياء الجزئي للغة العثمانية في صورة مدارس نظامية أو مستقلة أو مراكز بحث وكفى الله المؤمنين القتال.

ما نأمله لاختبار إرادة أردوغان في بعث المشروع العثماني هو دعوته قبل انقضاء عهدته الرئاسية الحالية إلى تنظيم استفتاء شعبي في تركيا من أجل العودة إلى لغة الأجداد العثمانيين التي هي اللغة العثمانية ووقف القطيعة بينها وبين الحرف العربي، نأمل هذا ولكنني لا أعتقد صراحة أنه بإمكان أردوغان أن يستجيب لهذا الطلب لأسباب متعلقة أساسا بما يمثل واحدة من ثوابت المجتمع التركي الحديث وخاصة لدى العلمانيين الرافضين لفكرة تعريب الحرف التركي من أساسها.

إن المشروع العثماني هو في كل الأحوال مشروعٌ إسلامي وليس مشروعاً تركياً، وتحقيقه يحتاج إلى اجتماع الدول الإسلامية المعاصرة في كيان إسلامي واحد وموحد على شاكلة الكيان العثماني القديم، وهذا غير ممكن بسبب التقسيمات الحديثة التي أدت إلى استبدال الكيان الواحد الموحد بكيانات مستقلة ممثلة في الدول القُطرية والإقليمية.

ينتقد بعض المناوئين لأردوغان مشروع عثْمَنة تركيا بقولهم إن تركيا أردوغان قد أقحمت نفسها في كثير من المشاكل الإقليمية وبخاصة ما يتعلق بالملف السوري التي تُضاف إلى مشاكلها الداخلية المتمثلة أساسا في موقفها من المعارضة بصفة عامة والمعارضة التركية بصفة خاصة وإعادة الخارجين عن القانون إلى الصف الوطني والإسهام في البناء الوطني والحضاري والتخلي عن العمل المسلح الذي أضر بتركيا كثيرا، صحيح أن تركيا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية قد سعت جاهدة لحل المشكل الكردي ولكنها لم تفلح في احتواء المعارضة الكردية بسبب اختلاف مواقف الطرفين وعدم الاتفاق على أرضية مشتركة للحوار السياسي، وأختم بالقول إن أردوغان لن يكون خليفة لآل عثمان إلا أن تتحقق مقولة “التاريخ يعيد نفسه” التي لا أْؤمن بأنها ممكنة، لأننا نحن من نصنع التاريخ وليس التاريخ من يصنعنا.

مقالات ذات صلة