أستاذان كريمان في ذمة الله
قضى الله – عز وجل – ولا رادّ لقضائه أن يغادر – في أسبوع واحد – هذه لدنيا الفانية إلى الحياة الباقية أخوان عزيزان وصديقان كريمان، فكان لمموتيهما وقع شد – على قلبي ذكّرني ببيت من الشعر للشاعر الكبير حافظ ابراهيم، هو:أفي كل يوم يبضع الحزن بدمعة ** من القلب؟ إني قد فقدت جنانيوالإخوان العزيزان والصديقان الكريمان هما العربي غالم، وأحمد شقار الثعالبي، اللذان لي مع كل واحد منهما ذكريات طيبة..
فأما العربي غالم فهو من بلدة صبره بنواحي تلمسان، فقد تعرفنا على بعضنا في 1966 في الكويت الشقيقة، حيث تزاملنا في الدراسة بثانوية الشيوخ.. وهو من الذين لم تنقطع صلتي به منذ ذلك التاريخ.. كان “سي العربي”، وهكذا كنا جميعا نناديه، مجموعة من الشيم النبيلة والأخلاق الجميلة، ولا أذكر أنه خاصم طالبا من الجزائريين أو من غيرهم.. كان محترما من الجميع، ولم يستطع الشيطان أن يميله إلى ما يميل إليه الشبان، كان جديا في دراسته، فلم يجد العبث إلى نفسه سبيلا..
رآني ذات يوم مقطب الجبين، عابس الوجه، وبعد أن ألحّ عليّ لمعرفة سبب ذلك أخبرته أن مكتبة أتت بكمية محدودة من كتاب “في ظلال القرآن” وثمنه ليس غاليا، ولكن لا أملكه.. فتبسم، وقال لي: في المساء سننزل إلى المدينة ونشتري الكتاب.. وأذكر أن ذلك اليوم كان يوم عاشوراء، حيث رأيت لأول مرة ما يقوم به الشيعة من أعمال بشعة يسمونها “الشعائر الحسينية”، وهي “شعائر” لو بعث الله الحسين لكان أول متبرّئ منها ومن القائمين بها..
انتسب بعد عودته من الكويت إلى جامعة وهران – قسم الجغرافيا – وانتسبت إلى جامعة الجزائر .. وكنا نتبادل الزيارات، وهو الذي عرفني على الناحية الغربية، فزرت رفقته وهران، تلمسان، بلعباس، معسكر، مستغانم، وغيرها.. وكانت هداياه إلي هي الكتب…
وعندما عين الدكتور ابن رضوان وزيرا للشؤون الدينية اقترحت عليه تعيين “سي العربي” مديرا للشؤون الدينية في ولاية تلمسان – وكان آنذاك مدير الثانوية الغزالي بمعسكر. ثم نقل إليها، ثم أعيد إلى تلمسان، فعانى كثيرا، لأن المنطقة كانت ملتهبة بسبب الفتنة، ولأن مهمة العاملين في وزارة الشؤون الدينية كان عليهم – كما يقول الأستاذ عبد الوهاب حمودة الأمين العام للوزارة آنذاك -؛ “إرضاء ثلاثة أطراف يستحيل ترضيتها جميعا، إذ لابد من إغضاب أحد الأطراف، وهي الله – عز وجل – والشعب الجزائري والحكومة التي تؤثر هواها على حكم الله وشرعه”..
لقد أصيب “سي العربي” في بنواته الأخيرة بعدة أمراض عانى منها كثيرا، ولكنه تدرّع بالصبر الجميل، حين أتاه اليقين.
مما ركب في طبعي أنني لا أحب أن أرى أي أحد من أحبائي في حالة مرض شديد، ولذلك كنت أتتبع أخبار “سي العربي” عن طريق الأخوين الفاضلين الشيخ آيت سالم ابن يونس، والدكتور عبد الحفيظ بورديم، وقد زرته – رفقتهما – في السنة الماضية، وخيل إلينا أن حالته تتحسن، ولكنها انتكست.. وكنت نويت زيارته – صحبة الحاج الطاهر محمودي – في الأسبوع الذي سبق وفاته، حيث كان في المستشفى، وكلمني في الهاتف، ولكن لم يقدر الله عز وجل – لتلك الزيارة أن تتم.. وفي يوم الخميس الماضي كنت في مدينة أم البواقي بدعوة كريمة من جمعية الفرقان لإلقاء درس في المسجد العتيق بمدينة عين البيضاء، ومحاضرة في جامعة الشهيد محمد العربي ابن مهيدي، فإذا بالشيخ آيت سالم، والدكتور عبد الحفيظ بورديم يهاتفانني ناعيين لي”سي العربي” ولذلك لم أتمكن من حضور جنازته.. وذلك تقدير العزيز العليم.. رحم الله عبده الصالح “سي العربي” فما شهدت عليه إلا خيرا، وإن ما يصيبه ؟؟؟؟؟؟ من لمم، ففي رحمة الله.. وألهم زوجه وآله جميع الصبر.. وإنا لفقدانك يا “سي العربي لمحزونون”.
وأما أحمد شقار الثعالبي الذي توفاه الله يوم الثلاثاء الماضي، فقد تجاوزت قدري عندما وصفته بالصديق، لأنه أكبر مني سنا وعلما.. ولكنه جرأني وأمثالي عليه لما يمتاز به من سماحة، وتلطف…
رأيت الشاعر أحمد شقار لأول مرة في شهر رمضان من عام 1384 (1964) في “قصر الشعب”، حيث أقام الرئيس أحمد بن بلة حفلة شاي للطلبة المتفوقين في ثانويات العاصمة
لقد ألقى الشاعر أحمد شقار في تلك الحفلة قصيدة ماوعيت منها شيئا، ولكنني استعذبت لغتها، وما كنت أدري آنذاك أن في الجزائر شعراء غير محمد العيد آل خليفة ومفدي زكريا.. وقد نشرت تلك القصيدة في مجلة اسمها “العروبة”، كانت تصدر في قسنطينة، ولم يصدر منها في علمي إلا ثلاثة أعداد.
ثم قدر الله ـ عز وجل ـ لي أن أتعرف على الأستاذ في منتصف السبعينيات حيث كنا نتردد كثيرا على المكتبات، وقد سمعته – عدة مرات ـ يسأل عن كتاب اسمه “أباطيل وأسمار” للشيخ محمود محمد شاكر، وهو أحد فحول اللغة العربية وفطاحلها في عصرنا، وكان يتحسر عندما يجاب بعدم وجود الكتاب..
وذات يوم “رق” قلبي، فقلت للأستاذ: إنني أملك الكتاب، وكان من الكتب التي حملتها من الكويت التي يوجد ـ على صغرها – في شارع واحد من شوارعها من المكتبات ما يوجد في الجزائر كلها..
تهلل وجه الأستاذ، انبسطت أساريره، ولمعت عيناه، وافترت شفتاه عن ابتسامة لطيفة، وخيل إلي أنه أسعد إنسان آنذاك، ورجاني أن أعيره الكتاب فأعرته له وقد علمت ـ فيما بعد ـ أن الأستاذ أحمد شقار كان يتماطل في رد ما يستعيره من كتب لحبه الشديد لها. وكان من أقواله في هذا الشأن ما معناه “إن لمغفل هو من يعير كتابا، ولكن المغفل أكثر هو من يعيد كتابا استعاره”. وأشهد أن الأستاذ شقار أعاد إلى الكتاب، ولو بعد حين.
في نهاية التسعينيات جمعتنا خير جمعية أخرجت للناس، وهي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فزرنا معا عدة مدن مذكرين الناس بها، حاثينهم على مؤازرتها، ناشرين مبادئها؟؟؟؟؟؟؟ ـ ذكرانا وإناثا ـ يلتفون حوله لما يجدون في حديثه من صدق ووفاء في لغة راقية، وأسلوب جميل.
لقد تأكدت في تلك الرحلات من استحواذ هواية القراءة عليه، حيث كان يستعمل نظارتين وآلة يدوية للقراءة، فكان يقرأ ـ ولو كان في مجلس ـ حتى يغلبه النعاس ويسقط الكتاب من يديه، فإذا استيقظ ـ وكان نومه خفيفا ـ مد يديه بحثا عن الكتاب والنظارتين وآلة القراءة.. وهذا ما أكد لي ما قصه علي من أنه أسس – في بداية الخمسينيات – هو والشيخ أحمد سحنون وآخرون معهما لجنة سموها “لجنة أحباب الكتاب”.
كنا ذات يوم في مدينة غرداية، ودخلنا مكتبة، فرأيت “ديوان بدوي الجبل”، فأسرعت إليه وأخذته، فلما رآه عندي ـ ولم تكن في الكتبة نسخة أخرى ـ أحسست أن قلبه كاد يتوقف. فنزلت له عن الكتاب، ففرح فرحا شديدا، وما نام تلك الليلة إلا بعدما ؟؟؟؟ على الديوان..
ولن أنسى ما حييت جداله عني حيث طلبت مني جريدة رأيي في “أدبي” أحد المخنثين .. الذين يشيعون الفاحشة بما يكتبون فقلت رأيي في”أفكاره” التي تدل على أنه يعاني “المراهقة الفكرية” رغم تجاوزه آنذاك سن الخمسين، واستبشعت عربيته التي ” تلعنها العربية” كما يقول الرافعي، فحمل علي أنصاره، وحكموا علي أنني “غير أهل” للحكم على هذا..... فكان الأستاذ أحمد شقار هو الذي كتب عمودا في تلك الجريدة يجادل عني جدالا شديدا..
لقد كنت أرجو أن يجمع شعر الأستاذ أحمد شقار وينشر في ديوان، فيتعلم الناس منه اللغة الأصيلة، والأفكار السليمة، والمبادئ السامية… وكنت أذكره بذلك كلما جمعنا لقاء، وها هي نفس ؟؟؟ شقار ترجع إلى ربها ولم يتحقق رجاؤه ورجاء تلاميذه وأحبائه، وعسى الله أن يقيض لهذه المهمة أحد أولئك التلاميذ والأحباب.
رحم الله أستاذنا أحمد شقار، وأكرم مثواه، وأفرغ على آله وصحبه جميل الصبر.