الرأي

أستاذة تستحق التبجيل!

أرشيف

الأستاذة نبيلة بلال من مواليد مدينة عنابة في نهاية الستينيات، وقد زاولت دراستها بشكل معتاد في مسقط رأسها، وكانت ترغب في أن تكون طبيبة، ولكن الحظ لم يسعفها لتحقيق ذلك الهدف، فاختارت اختصاصا يمكّنها من الانتساب إلى سلك التعليم، ففضلت الرياضيات التي درستها بجامعة عنابة حتى نالت شهادة الماجستير عام 1997، ثم الدكتوراه عام 2015.

لماذا التبجيل؟
راحت تزاول التدريس منذ مطلع التسعينيات في نفس الجامعة، وانتقلت بعدها إلى جامعة سكيكدة بصفتها مدرِّسة مؤقتة ثم دائمة، وفي الأخير، عادت مجددا إلى جامعة عنابة، وقد تمكنت من المشاركة في عدة ملتقيات وطنية خاصة بالرياضيات.
فقد شاهدناها مثلا ضمن ملتقى، تأتي من مسقط رأسها رفقة مُعِينة، مرورا بقسنطينة ومطار العاصمة إلى تيبازة لتلتقي بالمشرفين عليها، وهما الأستاذان عبد الحفيظ مقران ومحند موساوي (المدرسة العليا للأساتذة-القبة)، ثم تقدم مداخلتها على السبورة، فكانت تلقي محاضراتها وتكتب العلاقات الرياضية بكل وضوح وتشرحها بشكل جميل، وتقوم الآنسة المرافقة لها بمحو السبورة عندما يستدعي الأمر ذلك.
سيقول قائل وما الغرابة في كل ذلك؟ ولماذا تستحق هذه الأستاذة التبجيل؟
كانت نبيلة تعاني من ضعف البصر في سنّ مبكر، ورغم الجهود المبذولة طيلة تلك الفترة من قبل الأطباء لم تتحسن وضعيتها الصحية، واشتد المرض حتى تأكد الخبراء من أنها تعاني من داء المياه الزرقاء الناجم من ارتفاع الضغط على مستوى العين، ولم تنفع محاولات الحدّ من المرض في تونس ولا في فرنسا وفقدت نبيلة البصر نهائيا عام 2009.
ورغم الفاجعة والصدمة التي يمكن أن يتصورها كل شخص في هذه الوضعية فقد واصلت نبيلة بشجاعة وإصرار مشوارها المهني والدراسي في اختصاص يحتاج إلى حدّة البصر أكثر من غيره، فضلا عن أنه من أصعب الفروع العلمية.
وبداية من سنة 2009 أصبحت نبيلة تعتمد بصفة أساسية على جهاز الحاسوب لتحضير الدروس وحل المسائل المعقدة باستعمال برنامج معلوماتي يقدم قراءة صوتية لكل ما يظهر على شاشة الحاسوب، وفي أمور أخرى، مثل تصحيح الامتحانات ومطالعة بعض المؤلفات تستعين بمساعدين مبصرين، وكان التأقلم مع هذه الوضعية الجديدة صعبا، لكن الإصرار والثبات جعل نبيلة تتغلب على الصعاب وتحقق جزءا كبيرا مما كانت تصبو إليه قبل محنتها، أما خلال سنوات تحضير الدكتوراه فكانت تستخدم عدة تقنيات أخرى مكّنتها من التقدم في البحث.
ونظرا للوضع الصحي الجديد، فمن بين المهارات التي وجب على الأستاذة نبيلة اكتسابها هي استخدام السبورة في تدريس الرياضيات للمبصرين من الطلبة، ولعله يجوز لنا أن نصفها بالرائدة في اكتساب هذه المهارة بالذات، إذ ليس من السهل أن نملأ السبورة بالعلاقات الرياضية المعقدة، وأن نقوم بتوضيحها وبالبرهان عليها للطلبة ونحن نفْقد القدرة على مشاهدة ما نكتب!

مهارة استخدام السبورة
يحتاج مدرّس الرياضيات إلى ملء السبورة بالرموز والعبارات الرياضية، وكذا إلى شرح مضمونها تباعا بالتزامن مع لحظات كتابتها وبعدها، وفي هذا السياق لاحظت نبيلة أن “استخدام الطَبَاشِير أيسر بكثير من الأقلام بحكم أن المكفوف يمكنه متابعة الخط المكتوب باستخدام الصوت الذي يحدثه الطَبَاشِير عند احتكاكه بالسبورة”.
وتواصل ملاحظتها حول أهمية السبورة قائلة: “عندما يتم استعمال السبورة بصورة فعالة في التدريس فإنها لا تكون وسيلة بصرية للطلبة بالغة الأهمية فحسب، بل إنها أيضاً من العوامل التي تخلق روح الوحدة في الصف: فعندما تتركّز جميع الأبصار على السبورة فإن الصف يتّحِد مع نفسه ومع الأستاذ بشكل لا يتحقق إذا ما كان على الطلبة أن ينظروا إلى الدرس مطبوعا على الأوراق أو معروضا أمامهم من خلال ما يعرف بجهاز عرض البيانات أو غيره”.
وبناء على ذلك، تعتقد نبيلة أنه بالإمكان دراسة الرياضيات وتدريسها للمكفوفين، وأن هذا سيساعدهم كثيرا في الاندماج داخل المجتمع إذا ما “توفرت إرادة حقيقية من المكفوفين أنفسهم”، كما ترى بأن للرياضيات دورا بارزا في شتى العلوم (الفيزياء، الكيمياء، الأحياء، الإنسانيات…) وأن إبعاد المكفوف عن دراسة علم الرياضيات يؤدي بالضرورة إلى “إقصائه من تعلم أهم العلوم التي تحتاجها كل المجتمعات”!
لقد أنشأت نبيلة في المدة الأخيرة موقعا إلكترونيا أطلقت عليه اسم “متميّز” لا زال قيد الإثراء، وهو يحتوي الآن على سيرتها الذاتية وأيضا على روابط لدروس (فيديوهات) في الرياضيات ألقتها الأستاذة أمام طلبة الجامعة، لا شك أن الطالب سيجد فيها فائدة علمية إضافة إلى ما سيجنيه من تأملاته في أداء الأستاذة في جانب الإلقاء واستعمال السبورة رغم العائق، إنها جهود ومشاهد تستحق عليها نبيلة كل الثناء.
كل ذلك يجعلنا ندرك إصرارها على طلب العلم وعلى نشره طيلة حياتها المهنية، سيما بعد أن فقدت بصرها، فإذا قارنا نجاحها في التغلب على عوائق الحياة بوضع الطالب الجامعي وضعف حرصه على التألق نستخلص أن الإرادة والتصميم لدى الإنسان أقوى عوامل النجاح في الحياة، ليت طلبتنا يتخذون من هذا النموذج عبرةً.

مقالات ذات صلة