-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أستاذي عبد الحفيظ بدري

أستاذي عبد الحفيظ بدري

غمرني يوم الجمعة الماضي فيض من السعادة، حيث تكرّم ثلاثة من الأصدقاء فزاروني، وكان أحدهم -وهو الأخ محمد معمر- لم ألتق معه سنين عددا، لأنه يتديّر مدينة سيدي بلعباس في الجانب الغربي من وطننا الحبيب.

  • رجعنا بذاكراتنا إلى أسعد أيام حياتنا وأكثرها بهجة، وهي الفترة التي قضيناها على مقاعد الدراسة في ثانوية رمضان عبّان، بحي المحمدية بمدينة الجزائر، حيث لم يكن لنا همّ ينغّص حياتنا، ولا غمّ يكدّر صفونا؛ وإنما هو مرح وعلم.استرجعنا أسماء أساتذتنا وأصدقائنا، فترحّمنا على من قضى نحبه، وذكرنا بخير من لا يزالون أحياء يسعون في الأرض يبتغون من فضل الله، ودعونا لهم بكل توفيق.
  • من الأساتذة الذين ذكرناهم لما لهم علينا من فضل، محمد الصالح الصديق، صالح سماوي، مبارك تِيتُونَه، محمد محمود الحُوَيْحِي، عبد الحفيظ بدري -رحمه الله- حيث أطلنا الحديث عنه، لِـما كان لنا معه من ذكريات جميلة، ولِـما كان له علينا من الفضل الكبير، والأثر العظيم، بالرغم من أننا لم ندرس عليه إلا جزءا من العام الدراسي 1963 – 1964، لأنه انتقل بعده إلى ثانوية الثعالبية، التي كانت قرب مسجد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي، ومنها انتقل إلى مدينة تبسة حتى أتاه اليقين في حادث سير في سبعينيات القرن الماضي.
  • أنا متأكد أن كل من درس على الأستاذ عبد الحفيظ بدري لن ينساه، لِـما يتميز به من صفات نبيلة، وأخلاق جليلة، من غيرة شديدة على الدين، واللغة، والوطن، ومن جدّية وصرامة في العمل، ومن حب لتلاميذه ونصحه لهم، ومن ثقافة واسعة، وفكر رشيد، ومن اعتزاز بالنفس في غير غرور.
  • إن ذاكرتي تختزن كثيرا من الذكريات الجميلة والمواقف الأصيلة عن هذا الأستاذ الجليل، وإن المجال لا يتسع لسوق هذه الذكريات، واستعراض هذه المواقف، ومنها.
  • ❊) في الأيام الأولى لالتحاقه بثانوية رمضان عبان سألنا: هل عندكم مكتبة في الثانوية؟ وكان يقصد مكتبة فيها كتب عربية، لأن الثانوية كانت تحتوي على مكتبة فرنسية، فأجبنا بأننا لا نعلم، وبعد استقصائه الأمر وتأكده من عدم وجود مكتبة باللغة العربية، اختار بعض التلاميذ وتوجّه على رأسهم إلى مدير الثانوية -وكان آنذاك فرنسيا- وطلب منه مبلغا من المال لشراء كتب باللغة العربية، فاعتذر المدير بعدم وجود المال فرد عليه الأستاذ بدري قائلا: إن هؤلاء التلاميذ لن يموتوا على أنصاف بطونهم، فما دام المال غير موجود لشراء الكتب فسآمرهم أن يكتفوا بوجبة واحدة، وتوفير ثمن الوجبة الأخرى لشراء الكتب (وكانت الكثرة الكاثرة من التلاميذ داخليين).
  • بُهت المدير لهذا الكلام، وقال للأستاذ: أنا لا أوافق على هذه الفكرة، وأنا مسؤول عن هؤلاء التلاميذ.. فقاطعه الأستاذ قائلا: أتظنّ نفسك أشدّ حبّا لهم مني، وأحرص على مصلحتهم مني؟ وأضاف الأستاذ قائلا: إن لم تُوفّر المال لشراء الكتب فسأطلب منهم أن يكتفوا بوجبة واحدة، لأنه ليس معقولا أن نغذي أجسامهم ولا نغذي عقولهم، وغذاء العقول هو الكتاب.
  • بعد يومين، أو ثلاثة، توجّه الأستاذ مع ثلة من التلاميذ إلى مكتب المدير، الذي سلّم للأستاذ مبلغا من المال، فتوجّه الأستاذ مع تلك الثلة من التلاميذ إلى “المكتبة القومية” (وهي مكتبة تابعة للدولة المصرية، وكانت تقع في شارع العربي ابن مهيدي رقم 11)، واختار مجموعة كبيرة من الكتب.. خصصنا لها خزانة في أحد الأقسام، وسماها الأستاذمكتبة الهدايةوحضر تدشينها المدير والهيئة الإدارية.
  • أمر الأستاذ بدري أن يخصص سِجِلٌّ، تكتب فيه أسماء التلاميذ، وفَرَضَ على كل تلميذ أن يستعير كتابا في كل أسبوع في مقابل 50 سنتيما لشراء كتب أخرى وكان الأستاذ يسأل التلاميذ عن محتوى ما قرأوه.
  • لقد جرت لي حادثة مع الأستاذ بدري، فقد فرض عليّ -مرة- أن أقرأ كتاب “آلام فرتر” للكاتب الألماني “جوته”، الذي عَرَّبَه الأديب البليغ أحمد حسن الزيات، الذي كان الأستاذ معجبا به كثيرا وحبّبه إلينا.
  • قرأت الصفحات الأولى من الكتاب فلم استسغه، فأعرضت عن قراءته، فلما انقضى الأسبوع، وأرجعنا ما استعرناه من كتب، فسألني الأستاذ على مرأى ومسمع من التلاميذ؛ هل قرأت الكتاب؟ فقلت: نعم، وكنت كاذبا. شمّ الأستاذ رائحة الكذب في جوابي، فقال مستدرجا لي: لو قرأته لاستوقفتك كلمةٌ غريبةٌ فيه، ولرجعت إلى تفسيرها في الهامش..
  • قلت فيغرورلم تستوقفْني أية كلمة، ولم يستشكل عليّ أي لفظ..
  • حَدَجَنِي الأستاذ بنظرة ترمي بشرر، وقال: أنت كاذب، والله إنك لم تقرأ الكتاب، وكان صادقا، أما الكلمة التي قصدها الأستاذ فهي “الأَهْرَاء” ومفردها “هُرْيٌ”، وهو مخزن الحبوب، وكان جزاء كذبي أن غضب عليّ الأستاذ، ولم يكلمني أيّاما معدودات، حتى استغفرت لذنبي، واستسمحت أستاذي..
  • إنني، وكثيرا من زملائي، مدينون للأستاذ عبد الحفيظ بدري الذي حبّب إلينا اللغة العربية، وقوّم ألستنا، فقد كان لا يغضب لشيء كما يغضب لانتهاك قواعد اللغة العربية، وتشويه النطق بها، وكان يردد على أسماعنا: “جمال اللغة العربية في حُسن مخارج حروفها”.(❊)
  • وأشهد أنني لم أسمع إلى اليوم أفصح لسانا من الأستاذ بدري وكان -رحمه الله- إذا لقيني في شوارع في مدينة الجزائر يسألني إن كنت أحمل كتابا، فإن كان الجواب إيجابيا فرح، وانتبذ مكانا وطلب مني أن أقرأ أمامه، وكان ذلك أشد ما أُكابد، لأن أي خطأ مني معناه صفعة أو لطمة؛ وإن كان الجواب سلبيا تلقيتأيضاصفعة أو لطمة، وانهالت عليّ قَوَارِع كلامه، وكل هذا بعدما غادرنا إلى ثانوية أخرى. 
  • ومما سألنا عنه الأستاذ بدري في الأيام الأولى لقدومه إن كان يُوجد مصلى في الثانوية؟ فأجبنا بأننا نجهل ذلك، فلما استيقن عدم وجود مصلّى سعى سعيا حثيثا حتى استخلص من إدارة الثانوية قاعة جعلها مصلى.
  • اقتربت ساعة نهاية السنة الدراسية (1963 – 1964)، وتقرر أن يكون الحفل في مسرح الحراش، فأشرف الأستاذ بدري على إعداد تلاميذ الأقسام المعرّبة، وكان مما أعد الأستاذ ثلاث مسرحيات قصيرة، إحداها باللغة العربية الفصحى مقتبسة من مسرحية “مصرع الطغاة” للأستاذ عبد الله الركيبي، والثانية عن التعريب، ونسيت موضوع الثالثة، ولعلها عن الآفات الاجتماعية. 
  • في مسرحية “مصرع الطغاة” يوجد جنود فرنسيون، ولا بد لتمثيل أدوارهم ألبسة عسكرية وأسلحة، وقد استطاع الأستاذ أن يحصل على رسالة من إدارة الثانوية، وتوجه بها مع بعض التلاميذ إلى محافظة الشرطة في شارع عميروش فأمدّونا بألبسة وأسلحة.
  • وكان يشرف على نشاط زملائنا من تلاميذ الأقسام المفرنسة أستاذ الموسيقى، فقال له الأستاذ بدري، وكان فصيح اللسان في اللغتين العربية والفرنسية: ولماذا استشهد مليون ونصف من الجزائريين؟ وأمر أن يسجل في البرنامج أن يكون الافتتاح بالقرآن الكريم، وكلف بذلك التلميذ عتيق اسطمبولي (الطبيب حاليا بالبليدة).
  • إن فضل أستاذ عبد الحفيظ بدري عليّ كبير، وأنا مدين له بعشقي اللغة العربية، ومحاولة تذوّق روائعها، ومحاولة إجادة النطق بها، ومما لا أنساه لأستاذي عبد الحفيظ بدري أنه أمرني وأنا في السنة الثانية من التعليم المتوسط، أن أشتري كتاب “من وحي الرسالة” الذي يتكون من أربعة أجزاء.
  • فتشت عن الكتاب في مكتبات مدينة الجزائر فلم أعثر عليه، فأخبرته بذلك، فإذا به يأتيني -بعد بضعة أيام- بعنوان مكتبة في الدار البيضاء بالمغرب تسمى “مكتبة الثقافة”، وأمرني أن أراسلها لتبعث لي الكتاب، ففعلت ما أمرني به.
  • وبعد مدة جاءنيإشعار بالوصولمن مكتب البريد بالحراش، فلما اتصلتُ به سلّمني طردا فإذا هووحي الرسالةفدفعت الثمن وخرجت، وما زلت أحتفظ بالكتاب إلى الآن.
  • رحم الله أستاذي عبد الحفيظ بدري، الذي قُدِّرَ لي أن أكتب عنه هذه الكلمة في يوم العلم.

 

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • علاء الدين بدري

    شكرا جزيلا لك على هذا المقال و على وفاءك الكبير لمعلمك.
    عبد الحفيظ بدري هو عم والدي و انا استغرب ان كنت تملك مجموعته الشعرية يا سيدسسيدي فقد بحثت عنها كثيرا و لم اجد منها شيءا موثقا.
    ارجو الرد و شكرا.