-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أصياف وأطياف

محمد دحو
  • 4726
  • 2
أصياف  وأطياف

أنا ممتلئ بالغربة والحنين، أفيض مرة بالذكرى وأخرى بالأنين، في الليل يأتيني وجه أمي وأبي، تأتيني كل تلك الأصياف التي تختلج في الصدر ثم هاهي تجري إلى نهر الذكرى أطيافا وقد حملتها الأيام والأقدار إلى تلال وهضاب وسهول ومدن وأماكن وأحياء ووجوه وأسماء ورجال ونساء لم أكن أظن أني سأنظر إليها أو أحط بها قدمي، أو أقفز في فضاءاتها أو أختبئ في فنادقها أو أمشي في شوارعها ولكني مشيت إليها رغم أنفي، وكان اليأس مرة يهزم أوتاد عزمي وإرادتي، ومرة أخرى يطرد الأمل هواجسي وظنوني، فأقف كما لو أني (علي لابوانت) في هذه العاصمة أوفي ذلك المطار. هه، نعم، قلت له ونحن نتبادل الكلمات الأولى وكان يسألني عن بلدي، بعد أن أخذ كل منا مقعده في الطائرة التي كانت تقلنا إلى لندن عبر مالطا: (نحن أبناء الجزائر كلنا علي لابوانت حين نسافر). لكنه لم يفهم المعنى ولم ينتبه إلى دلالة الرمز وقد عرفت جنسيته من غير أن يصرح بها، قلت له والبسمة تعلو ملامحي: أنت ربما لا تعرف معركة الجزائر ولكنك قطعا سمعت عنها؟ فهز رأسه هزتين وفكر مرتين ثم نظر إليّ بعينين، ولم يقل سوى كلمتين (نعم أعرف ذلك، أنتم حاربتم فرنسا وطردتم الاستعمار؟)

  •   ، ثم وهو يكشر عن ابتسامة مكر خبيثة (لماذا يقتل الآن بعضكم بعضا؟) وسكت. كنا نربط أحزمة المقاعد وكانت مضيفة الطيران تشير إلينا وكان أزيز الطائرة قد بدأ يصم الآذان إيذانا ببداية الإقلاع. حوقلت وبسملت وتشهدت وقرأت ما تيسر من القرآن الكريم ثم رحت ألقي نظرة على بعض ما توفر من معلومات ونصائح خاصة بالطائرة وأبوابها وأكياس النجاة والأوكسجين الذي تقدم شرحه للمسافرين قبل الإقلاع. كنت لا أزال أعض على أسناني وأحاول ما استطعت التخفيف من موجة التوتر التي اعترتني بسبب ما سمعته من رد أخينا العربي كما قال وهو يصافحني، أخوك من… يعني عربي…، ولم أهضم كيف أنه لوى برقبته عني وراح يمد بصره إلى ما تبقى من صورة الأرض دون أن يفطن إلى ما فعل بنفسه معي، وكما لو أنك أشعلت عود كبريت ورميت به في مخي، وكما لو أن النار قد بدأت تأكل بعضها، وكأني لم أجد ما آكله، ورحت أعاند في أعماقي حرّها ولهيبها دون أن أبدي له ذلك، ودون أن يعرف أن ألسنتها ستحرقه إن عاجلا أو آجلا خلال هذه الرحلة أو حين ننزل في أرض المطار. ألم يقل الشاعر حذار من غضب الحليم وسخطه فسوف تصبحون لثورتيه وقودا. ثم ما لبثت أن حمدت الله وقد هداني لبيت من الشعر ترسب في الذاكرة منذ سنوات خلون، ولطالما كانت ولاتزال أبيات الحكمة من الشعر تهدئ روعي وتواسيني في أسفاري وغربتي، رحت أردد بيت الشعر ذاك وأعيد ترديده وأتغنى به فإذا هو كالبلسم على روحي عبر تلك المسافات البعيدة من السماء التي كانت تجري فيها بنا المالطية دون أن أدري أين أنا وفي أي مكان؟ لقد طربت كثيرا لحادثة معلمي تلك ورأيت أن أغير استراتيجية التعامل مع الناس على الأقل في السفر. لم أكن رجلا عصبيا، كما يقال عنا نحن الجزائريين في البلاد العربية، وقد سمعت ذلك مرارا وتكرارا، لكنني لم أكن لأعبأ بما يقال، ربما لأني كنت أعرف الأسباب والدوافع والخلفيات، ولعل أولها الجهل المطبق على رؤوس كثير من الناس في الجزء الآخر من هذه الدنيا الواسعة، ولعله (دعوني أصارحكم* من أثر تقصيرنا نحن الجزائريين كذلك، دون أن ندفع إلى العالمين فنعرّف بتشديد الراء) بتاريخنا وحضارتنا، وندفع عن وطننا ظلم ذوي القربي من الإخوة والأعداء، ونلزم أنفسنا بعض القليل من التواضع الإنساني الذي يحمينا في الغياب والحضور، لكني معلم الجغرافيا كاد يطردني من القسم لبعض تهوري وعدم تواضعي المدرسي كما قال بلهجة الموبخ (بتشديد الباء وكسرها) على مرأى الزملاء والزميلات، ولو لم أكن من المتميزين في الدراسة لكنت لقيت منه ما لقيت، غير أنه وجد لي في نهاية المطاف شفعة لاتقل عن شفعة الحكومات والدول في قضايا الإقتصاد والبزنس والفساد، وقد ضحك القسم كله لتلك الحادثة ولم ينسها أحد حتى الآن. كنت أغلي كقدر حامية بين ضحك الماضي وسخرية الحاضر، وشيئا فشيئا تطاولت على غيظي فصرعته بالحكمة وجعلت نار جزائريتي بردا وسلاما علي وعلى أعصابي. كنت أنظر إليه وإلى بقية المسافرين الذين هبّ بعضهم إلى النوم كما لو أنهم على فراش أمهاتهم أو في بيوتهم، ومنهم من قام يبحث عن حمام، ومنهم من جاءته المضيفة بكأس ماء ومنهم من غاص بعينيه في جريدة أو كتاب كأنما يبحث عن بقايا شكسبير أو نوق العصافير، أو يقرأ تعليق الجرائد عن التفجيرات التي باتت تهدد مدنا أوروبية كثيرة وأخرى خليجية، من قال إن التفجيرات حكر على مطار الجزائر ومدنها؟ ومن قال إن ذلك إرهاب جزائري؟. خلته خلد هو الآخر إلى غفوة من النوم الذي يصيب المسافرين المحظوظين في مثل هذه الساعات من الليل في جوف الطائرة إلا أنا، ممن يخاصم النوم عيونهم كلما سافرت في الطائرة، كنت أقلب الأمر أخماسا وأسداسا حتى لم يبق من غضبي إلا ما يسهل تفتيته أو تفكيكه بعبارة أصحاب اللسانيات وجماعة (ليفي اسطروس)، وقد قررت أن أقول له المبنى والمعنى معا، قلت: ليسمع أو لا يسمع، ليفهم أو لا يفهم، ليقتنع أو لا يقتنع، ليكن عربيا أو أعجميا، ليكن أبيض أو أسود، ليكن مشرقيا أو مغربيا، ليكن عالما أو أميا. ثم وأنا أنظر إليه وهو يغط في نومه العميق، صرخت بأعلى صوتي: إسمع أو لا تسمع، إن كل الأماكن التي نمشي إليها هي حي القصبة أو قصبتنا، هل فهمت؟. لكنه كان لايزال مستغرقا في نومه كما رأيت، وكنت ما أزال أبني في داخلي مونولوجا لا يليق إلا بالمسرح التجريبي، كانت كلماتي تذهب في صحن الطائرة وكنت كأنما أسمع كل من فيها من هندي ومصري وباكستاني وشامي ومالطي وأوروبي، نظرت بعيدا، فإذا الذي أقوله يتبخر في الهواء، لعلي كنت كمن يؤذن في مالطا كما يحلو لأستاذنا الطاهر بن عيشة أن يقول ذلك في أوقات الشدة والعجز بين الأصدقاء والأدباء والإعلاميين في مملكة المنار بسيدي فرج. تنفست عميقا، ورحت أستعيد بعض الصحو الذي عشته خلال تلك الأصياف المقمرة من سماء الجزائر الزرقاء وقراها الذهبية في عز الصيف. ولكني حين تذكرت ذلك فاجأني الخوف من جديد، كانت الجزائر كما تركتها قطعة من لحم القلب تحرقه نار الضغائن والأحقاد والأوهام وحب المال والرياسة والتحزب والتفنّن في الكراهية وحب الذات، لم أكفر (بتشديد الفاء) من كان يجلس إلى جانبي في تلك الرحلة بين القاهرة ولندن مرورا بمالطا رغم جوابه الذي اعتبرته استفزازا يشبه ما قاله أغلب العرب عنا خلال أزمتنا التي فرجت، غير أني استطعت أن أكظم غيظي بعزم ووعي وانتصار إفريقي على قارة أخرى أنا في السماء إليها، كما أني لم أفهم كلمات المضيفات بلغتهن المالطية ولكني أحسستها قريبة جدا من لهجتنا الجزائرية ومن لغتنا العربية، كان أثر الصدمة لايزال يراودني، ولكني تذكرت الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ أحمد توفيق المدني، تذكرت الرئيس هواري بومدين والسفير عبد القادر حجار والدكتور أحمد بن نعمان والشيخ عبد الرحمن شيبان، ودارت في خلدي حروب الشيخ بولرواح ومعارك عمي الطاهر وطار (شفاه الله وعفاه) السياسية والأدبية، ثم ما لبثت أن هدأ روعي واطمأنّت نفسي، قلت بمرارة إن التاريخ يعيد نفسه معنا نحن الجزائريين في كل مكان، ولكن من يسمع من؟ إنه لا فرق حين تكون  غريبا  بين  الليل  والنهار،  بين  الصيف  والشتاء،  بين  الجد  والهزل،  بين  الماء  والنار،  بين الكبش  والحمار .
  •  كل شئ بدا لي غريبا غربة النفس والروح، المطارات ولصوص الظلام وغبار مدن قبيحة عارية إلا من أوهام الصحف وبرامج الإذاعات، ونشرات التلفزيون وأوهام الإشاعة وأفانين الدعايات المغرضة: (بالمناسبة كيف حال التلفزيون الجزائري ياسليمان؟) كما يسأل كل جزائري هاجر وسافر، وكما يردد كل إعلامي وصحافي جزائري تغرّب وتعجب وتجدد، ودون أن يراه الشاعر الصديق عمر أزراج في ليله الموحش الذي لايزال يقتل الجميلة في كل وقت مع الاعتذار للشاعر على القلب والتصرف في عنوان ديوانه المعروف (الجميلة تقتل الوحش)، فالأمر كما تعرفون ظاهرة عربية في قلب الأمور والتصرف فيها دون إذن من جامعة الدول العربية ومعاجم لغة الضاد وحراسها، أما أنا فكم كنت سعيدا حين سمعت صوته في الهاتف يحيّيني وما أسرع ماعرفته وعرفته أكثر، كان هو كما عرفتموه أنتم أيضا قبل بداية الأزمة وبعدها في النفق الجامعي شاعرا يبحث عن التعدد  أو  التبدد،  لكنه  بكى  طويلا  ولم  ينس  ديدوش  مراد  وسي  الحواس  ومحمد  بوقرة  وبوعمامة  وأحمد  باي وفاطمة  نسومر  والكاهنة،  لأنه  لم  يعد  يتذكر .
  •  كانت الطائرة لاتزال تحلق بنا في السماء بعيدا عن الأعين، ولم نكن نرى إلا ما تريه الشاشات الصغيرة من أخبار الأماكن والمدن التي نمر فوقها خلال بحار وأنهار مع مئات وآلاف الأميال من المسافات معلقين بين السماء والأرض. وكنت بحمد الله أجد لنفسي بدلا عن النوم الذي كان يهجرني في السفر كما يهجر العدو عدوه، ولكني ما أسرع ما كنت أجد له توغلا في أحلام الماضي مسافرا إلى حنين وأنين لا يفارقان وجداني وروحي، أي شيئ أصعب على قلب الإنسان من أن يترك بلده وأهله، وأن يترك وراءه بعيدا بعيدا بين عشية وضحاها وجهين هما أغلى الوجوه وأحلاهما،  وجه  والديه  الكريمين،  وصورة  بيت  من  تراب  وطين  تحيط  به  تلك  السهول  الخضراء  التي  تخرج  بإذن  ربّها  فواكه وخضروات  كما  لو  أنها  طلعت  من  جنات  النعيم . ؟
  •  أي والله، هل نسيت يامحمد خويا بيتك الذي كان الربيع يأتيه طلقا والصيف قمحا وسنابل من ذهب والخريف عنبا ورمانا وتفاحا وخوخا وتينا؟. أي والله يا محمد ياابن دحو، وأنت على دراجتك الصغيرة تضرب دواستيها جريا بين بيتك الريفي ومدرسة (فيلاج عريب) تسابق أخاك في الذهاب والإياب مزهوا بين الحقول الخضراء في عز الطفولة والشباب وتارة تضربان بيد وحجر ذلك (الروليب المجنون) كما يسميه أخونا (علي فضيل) وبالمناسبة (فهذه شراكة أبناء الريف والقرى منذ أن كنا معا في جريدة المساء والشعب)، أوكنت تشرب لبنا مصفى تحت شجرة ظليلة على ضفاف نهر شلف، وتأكل خبز الشعير وقد غطى غبار الحصاد والدرس فناء الدار وأنت لا تستطيع حمل قنطار القمح (يامحمد مازلت صغيرا يامحمد يابن دحو وخرالرول)ابتعد وراء )روح اشرب شوية لبن وكول كسرة الشعير باه أجيك صحة لبدان وترفد القنطار).
  •  قصص قصيرة لم أكتبها ولن تكتب أبدا كما عشتها، ولكنها تأتيني الآن في سفري وغربتي هذه، تأتيني كثيرا خلال أسفار أخرى مزقني فيها الحنين والأنين، وها أنا أعتصر فأذوب ولكن دون أن يراني أحد، حتى هذا العربي المسافر معي والجالس على يساري هو الآخر لايراني، آه ليته يستطيع فيراني أو يرى بلادي العربية والبربرية الجميلة التي تشبه كما قال أوروبا، أو يرى قريتي وحقولها وسهولها، ليته يعرف الجزائر وشموخ أهلها وكرم أبنائها وشجاعة شبابها، لكنه ـ أقولها بمرارة ـ ليته يعرف أيضا حماقة بعضنا وغلظة بعضنا، وعصبيتنا جميعا (أليست هذه جزائريتنا؟)، قل لهم يامؤرخ الجزائر الكبير، قل لهم ياسعد الله عن بلاد تفتقد السعد وتكنز الغاز والبترول وترقص على أنغام الراي ولا رأي لنا ولا همة، قل لهم تاريخ الجزائر بربريا كان أو عربيا أو عثمانيا، قل لهم عن جرحك وصمتك، وعن عزلة الدكتور محمد ناصر في قصور القرارة وبني ميزاب وما صنع فاطميو الجزائر، قل لهم بربك قليلا أو كثيرا عن جرح العلامة التنسي في تلمسان والفكرون في قسنطينة، قل لهم ياسعد الله، ياشيخ مؤرخينا عن ديكارت وثانوية المرادية، والمركز الثقافي الفرنسي في الجزائر العاصمة، ورحم الله عالم الجزائر الفذ مولود  قاسم  نايت  بلقاسم،  هل  تتذكرون  قصص  الاستدمار  أم  غرتكم  غرائب  الاستثمار؟ .
  •  كنت لا أزال أهيم في قريتي وطفولتي حين رأيته يصحو من نومه، وينظر إليّ ثم يسألني عن حالي وعن زمن الوصول، فلم أعره جوابا، فلم يزده ذلك إلا إصرارا على السؤال، وقد ندت منه ابتسامة وبدا كمن يعتذر عما قاله قبل أن يذهب إلى نومه وأذهب إلى بلدي في أحلام اليقظة والسفر، ثم إنه مد يده نحوي طالبا العذر والصفح عما بدر منه من مزاح وكأن شيئا لم يكن (هذا صنف من العقليات العربية)، ترردت قليلا ثم صافحته وأنا أردد بيت الشعر، وكانت صورة معلم الجغرافيا لاتزال تركض في مخيلتي. ضحكت غير مبال، فكرت حتى قلت بيني وبين نفسي حتى الجغرافيا  ظلمتنا  وظلمت  الجزائر،  كما  يظلمها  بعض  أبنائها  وبعض  ممن  يسمون  الإخوة  العرب .
  •  كانت الطائرة قد بدأت تميل قليلا في السماء وكانت الأيدي تتسابق إلى ربط الأحزمة تحت عيون المضيفات اللواتي كن يسعين بين صفوف المسافرين منبهات إلى ضرورة ربط الأحزمة لأن الطائرة بدأت الهبوط في مطار مالطا الدولي، ومنه سنواصل السفر إلى مطار هيثرو في لندن، ولكني لا  أعرف  مَن  مِن  الإخوة  العرب  أو  الأصدقاء  الأوروبيين  سيجلس  جنبي .    
  •  
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • omar

    السلام عليكم أخي محمد ..
    أنت فعلا تكتب أدبا رفيعا وجميلا .
    بارك الله فيك .
    أخوك الذي لم تلده أمك .

  • سارة

    والله اني افتخر حقا كون لدينا اساتذة ودكاترة في هذا المستوى الراقي و اشكره على كل كلمة صادقة تفوه بها لكن يبقى سؤالي كيف بنا ان ننهض ليس الجزائر بصفة خاصة بل العرب و المسلمين جمعاء
    من فضلكم انشروا تعليقي من فضلكم