الرأي

أوراق من بلاد قمعستان – الحلقة الثالثة

أمين الزاوي
  • 4462
  • 7

اليوم‭ ‬الجمعة،‭ ‬يوم‭ ‬دامي.. اليوم‭ ‬السبت،‭ ‬يوم‭ ‬دامي.. اليوم‭ ‬الأحد،‭ ‬يوم‭ ‬دامي.. اليوم‭ ‬الاثنين،‭ ‬يوم‭ ‬دامي‭ ‬.. اليوم‭ ‬الثلاثاء،‭ ‬يوم‭ ‬دامي.. اليوم‭ ‬الأربعاء،‭ ‬يوم‭ ‬دامي.. اليوم‭ ‬الخميس،‭ ‬يوم‭ ‬دامي.

هي أيام دمشق، أيام حلب، أيام درعا، أيام حمص، أيام حماه، أيام دير الزور، أيام كل قرية صغيرة وكل عصفور. هي أيام دمشق وسائر البلاد في فصل الجحيم الذي لم يكتبه دانتي ولا سابقه المعري.

سهرات المثقفين والأدباء ليلا كثيرة في دمشق، هي تقليد عريق في الحياة الاجتماعية للمبدعين في بلاد الشام، وتنظم هذه اللقاءات التي هي عبارة عن ندوات وقراءات ومناقشات في بيوت المثقفين من الأدباء والصحفيين والمبدعين، ومن بين البيوتات التي تعوّد المثقفون بدمشق الالتقاء فيها، بيت الكاتب الفلسطيني محمود شاهين وبيت الشاعر بندر عبد الحميد، ولا يبعد الواحد عن الآخر سوى بعض مئات الأمتار.

أولى اللقاءات التي حضرتها كانت في بيت الكاتب الفلسطيني محمود شاهين الكائن بين حي الروضة وطريق حي المهاجرين، لم يكن المكان بيتا بل عبارة عن وكر متهالك بغرفة واحدة موجود في آخر رواق ضيق مظلم ومريب، يعيش فيه مع زوجته سميرة وطفليهما، بنت وولد، كان القاص والروائي محمود شاهين معتزا بمهنته كراع، والتي مارسها في صباه بفلسطين وقد خلدها بحس عال في واحدة من أجمل ما كتب، وهي قصة بعنوان “العبد سعيد” الموجودة ضمن مجموعته القصصية “نار البراءة”.

الجلسات الثقافية الليلية في بيت محمود شاهين لا تبدأ إلا بعزفه على الناي ولا تختتم إلا بمثل ذلك، كان عازفا ماهرا على سنة رعاة المعز والأغنام في فلسطين المنتهكة، في كل سهرة أدبية تتشعب الأحاديث، تندلق الألسنة في كل اتجاه، نتحدث في الحداثة الشعرية وفي جماليات قصيدة النثر، نتحدث في الرواية العربية عن حنا مينة الذي كان يشتغل مستشارا لدى وزيرة الثقافة آنذاك الدكتورة نجاح العطار، ونتحدث عن تجريبية الروائي الفلسطيني إميل حبيبي وكان يوسف اليوسف يمزج التحليل اللغوي بالتحليل السيكولوجي، ووقتها أذكر أنه كان منشغلا بإعادة ترجمة شكسبير إلى العربية وكان يقول لنا: إن شكسبير لم يترجم كما يجب إلى العربية… كان الحديث يأخذ مداه في كل شيء، وحين يقترب النقاش من منطقة السياسة أو النظام يصفر الحَكَمُ معلنا بأننا لامسنا الخطوط الحمراء وبالتالي علينا إما أن نغيّر الحديث أو نرفع الجلسة، فللحيطان آذان.

عرفت كم أن هذه السهرات الثقافية كانت عميقة من الناحية الإنسانية والاجتماعية والثقافية ولكنها كانت تقام والخوف على رقاب الجميع واللسان “اللي ما فيه عظم” لا يحق له الجلوس في مثل هذه الجلسات، لأن ارتكابه لأي زلة لسان سيجر الجميع وأساسا صاحب البيت إلى “الأمن و”متاعب تحقيقات المخابرات”.

كل شيء مباح للنقاش في هذه الجلسات من الدين إلى الشعر إلى الفلسفة إلى … وحدها السياسة ممنوع الخوض فيها، فتلك منطقة محرمة والجميع كان يحترم هذه القاعدة دون توقيع مسبق على محضر أخلاقيات السهرة. وكنت أشعر أن المثقفين كانوا يخافون من بعضهم البعض وكأن الواحد منهم كان يشك بأن الآخر مندس في السهرة لكتابة التقارير للأمن في اليوم التالي.

وأنا أستعيد تلك الأيام سنوات الثمانينات، بما كان فيها من خوف يقف في الحنجرة وفي الحافلة وفي مدرج الجامعة وفي حبة الطماطم ورغيف الخبز، تذكرت قصيدة “تقرير سري جداً من بلاد قمعستان” لنزار قباني التي تصور كثيرا من هذه الحال الذي هو عربي أساسا وبامتياز وها أنذا أقتطع لكم جزءا منها:

يقول نزار قباني:

هل تعرفون من أنا

مواطن يسكن في دولة (قمعستان)

وهذه الدولة ليست نكتة مصرية

أو صورة منقولة عن كتب البديع والبيان

فأرض (قمعستان) جاء ذكرها

في معجم البلدان

وأن من أهم صادراتها

حقائبا جلدية

مصنوعة من جسد الانسان

اللهيا زمان

.

هل تطلبون نبذة صغيرة عن أرض (قمعستان)

تلك التي تمتد من شمال إفريقيا

إلى بلاد نفطستان

تلك التي تمتد من شواطئ القهر إلى شواطئ

القتل

إلى شواطئ السحل، إلى شواطئ الأحزان ..

وسيفها يمتد بين مدخل الشريان والشريان

ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة

ويفقأون أعين الأطفال بالوراثة

ويكرهون الورق الأبيض، والمداد، والأقلام بالوراثة

وأول البنود في دستورها:

يقضي بأن تلغى غريزة الكلام في الإنسان

اللهيا زمان

.

هل تعرفون من أنا؟

مواطن يسكن في دولة (قمعستان)

مواطن

يحلم في يوم من الأيام أن يصبح في مرتبة الحيوان

مواطن يخاف أن يجلس في المقهى.. لكي

لا تطلع الدولة من غياهب الفنجان

مواطن أن يخاف أن يقرب من زوجته

قبيل أن تراقب المباحث المكان

مواطن أنا من شعب قمعستان

أخاف أن أدخل أي مسجد

كي لا يقال إني رجل يمارس الإيمان

كي لا يقول المخبر السري:

أني كنت أتلو سورة الرحمن

اللهيا زمان

.

يا أصدقائي:

إنني مواطن يسكن في مدينة ليس بها سكان

ليس لها شوارع

ليس لها أرصفة

ليس لها نوافذ

ليس لها جدران

ليس بها جرائد

غير التي تطبعها مطابع السلطان

عنوانها؟

أخاف أن أبوح بالعنوان

كل الذي أعرفه

أن الذي يقوده الحظ إلى مدينتي

يرحمه الرحمن

.

من أجل هذا أعلن العصيان

باسم الملايين التي تساق نحو الذبح كالقطعان

باسم الذين انتزعت أجفانهم

واقتلعت أسنانهم

وذوبوا في حامض الكبريت كالديدان

باسم الذين ما لهم صوت

ولا رأي

ولا لسان

سأعلن العصيان

.

من أجل هذا أعلن العصيان

باسم الجماهير التي تجلس كالأبقار

تحت الشاشة الصغيرة

باسم الجماهير التي يسقونها الولاء

بالملاعق الكبيرة

باسم الجماهير التي تركب كالبعير

من مشرق الشمس إلى مغربها

تركب كالبعير

وما لها من الحقوق غير حق الماء والشعير

وما لها من الطموح غير أن تأخذ للحلاق زوجة الأمير

أو ابنة الأمير

أو كلبة الأمير

باسم الجماهير التي تضرع لله لكي يديم القائد العظيم

وحزمة البرسيم

مقالات ذات صلة