الرأي

أولويات.. البناء قبل الغناء

محمد سليم قلالة
  • 1398
  • 10

بلا شك أن المواطنين المحتجين على المهرجانات الفنية غير الملائمة في هذا الفصل إنما يفعلون ذلك، لا كرها في الفن بحد ذاته، إنما استنكارا لغياب ثقافة الأولويات في سياساتنا؛ إذ لا يعقل أن يَحضُر مواطن مهرجانا فنيا وهو لا يجد مياه الشرب، أو يفتقد أساسيات العيش الكريم من كهرباء وغاز وطريق، أو يعاني من البطالة القاتلة، أو لا يجد العلاج في المستشفى الذي يقصده، أو بلا سقف يؤويه وعائلته منذ سنوات عدة… أي إن المسألة في واقع الأمر، لا تتعلق بمهرجانات الغناء تحديدا إنما بكل تلك التظاهرات والمهرجانات والحفلات والمآدب التي تُنظَّم بمناسبة وبغير مناسبة على حساب أولويات المواطن الحقيقية، أي إنها أعمق مِمَّا بَدَت عليه، باعتبارها تشير إلى الموقف من أزمة حقيقية تعرفها البلاد منذ سنوات، وتتعلق بسوء التسيير وبتبديد المال العام في مجالات غير ذات أولوية، تبدأ من الصفقات العمومية الكبرى وتنتهي بحفلات الغناء والرقص… أي إن هذه الحفلات ليست سوى النقطة التي أفاضت الكأس بما حملته من استفزاز لمشاعر الناس.
وبرغم وضوح هذه الرسالة المنبثقة من العمق الشعبي في تقديرنا، فقد حاول البعض إعطاءها صبغة “التعصب الديني” أو “معاداة الفن” أو “رفض التمدن” وألبسها غطاء “الصراع الإيديولوجي”، لكي يُخرِجها عن سياقها الصحيح، مستغلا ذلك التعبير الرمزي من خلال الصلاة في أماكن المهرجانات، ليتحدث عن عودة “الأصولية” و”التطرف” و”اللاّتسامح” وغيرها من العبارات المخيفة للجزائريين.. ولعل هذا ما دفعنا إلى كتابة هذه الأسطر على أمل أن يفهم الجميع أن الأمر إنما يتعلق في الواقع بمحاولة تغطية المحتوى الحقيقي والدلالات العميقة للرسالة التي أراد أن يوصلها المحتجون إلى الرأي العام الجزائري وإلى كافة المسؤولين…
إن حركتهم هذه، سواء أكانت في ورقلة أم بلعباس أم بجاية أم غيرها من مناطق الوطن، إنما هي أحد أساليب التعبير عن رفض السياسات القائمة على أساس الإلهاء بالغناء أو بالرياضة، أو بالتهريج السياسي لبعض رؤساء الأحزاب، والدعوة إلى استبدالها بسياسات فعلية قائمة على فهم حقيقي لأولويات المواطن إن لم يكن على المستوى الوطني، فعلى مستوى كل جهة من الجهات.
لقد هالني أن عاينت منذ أيام في أكبر مستشفى بالجزائر العاصمة أن وسائل العلاج خاصة الجراحي منها غير متوفرة تماما لنقص في الميزانية، وفي ذات الوقت علمت أن الدولة خصصت أكثر من 80 مليون دولار للألعاب الإفريقية للشباب، فقلتُ لو استشير المواطنون في هذا الأمر لفضَّلوا الاعتذار عن عدم تنظيم هذه الألعاب لنقص في الميزانية على أن يحرموا المواطنين من العلاج… وهو ذات الشيء بالنسبة إلى مهرجانات الفن الصيفي، ولكل تلك النشاطات والأعمال الشكلية التي لا غاية منها سوى هدر المال العام… تلك هي الرسالة الحقيقية لحركة المواطنة الأخيرة، ولا داعي لتحريفها عن اتجاهها الصحيح.

مقالات ذات صلة