أيام الكبرياء والشهامة
في الذكرى الخمسين للاستقلال، نتساءل: لماذا حققت الثورة الجزائرية المستحيل في ميدان التضحية والتجنيد، ولم تحقق نفس النتائج في بناء الدولة والمؤسسات والاقتصاد؟
من أراد الكبرياء فله ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الاستقلال من الجانب الآخر فله ذلك. من اختار أن يتكلم عن الحرية والكرامة والتضحية والشهداء بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال فله ذلك، ومن اختار أن يتكلم عن فنانة وما ستقتضيه لتغني في الجزائر ومن له الحق في تنظيم الحفلات ومن ليس له الحق، فله ذلك. وكل واحد ينفق من زاده، فمن كان رزقه من عظمة العظماء، وكبرياء الكبار، وشهامة أهل الأخلاق، ينفق منها. ومن يقتصر عالمه على المنصب والسعي وراء المسؤولية فله ذلك.
والشهامة ليست سلعة تباع وتشترى، ولا يمكن استيرادها ولا تخزينها في البنوك. إنها خصلة كانت موجودة بقوة في الجزائر في مرحلة مضت، لما كان الناس يضحون بكل ما يكسبون من أجل وطنهم. كانوا يضحون بأموالهم ورزقهم ووقتهم وصحتهم وعائلتهم، لما كانوا يسعون وراء ما هو أكبر من ذلك: كانوا يبحثون عن الحرية والكرامة والشرف والعزة، وكانوا يعرفون أن هذه الصفات لا يمكن الوصول إليها إلا بتحقيق استقلال الجزائر.
هؤلاء صنعوا عبقرية الجزائر وتاريخها وأمجادها، ونفقوا من دمائهم لتحقيق ذلك. هؤلاء تجاوزوا المفاهيم التي أصبحت رائجة اليوم في سوق القيم. كانوا لا يعرفون الكلام عن الفيلا والمنزل الفاخر والمنصب. كان سلوكهم وأخلاقهم ينتميان إلا عالم آخر، عالم لا يتساءل الناس عن الراتب والدخل ومكان قضاء العطلة، إنما يتكلمون عن طريقة القيام بالواجب والأخلاق والقدرة على مواجهة العدو.
لقد ضحوا بكل ما يكسبون لكنهم لا يستطيعون أن يضحوا بما لا يكسبون من معرفة وأفكار وثقافة سياسية
رغم ذلك، كثيرا ما تتأسف الأجيال الجديدة لما تسميه فشل الجيل الأول، كما أنها لا تفهم كيف عجزت الجزائر عن بناء نظام سياسي متوازن، واقتصاد قوي، ومدرسة تضمن العلم والمعرفة. وتزداد الحسرة لما نعرف أن الجزائر صرفت حقيقة أموالا طائلة لتحقيق هذه الأهداف لكن تلك الأموال لم تعط النتائج المرجوة.
لماذا هذا العجز؟ لأن الثورة الجزائرية كانت أكبر مما نتصور، وأقوى مما كان يتخيل ذلك الجيل الذي صنع الحركة الوطنية، وكانت أكبر بكثير من القادة الذين صنعوا الثورة بأنفسهم. ولما اندلعت الثورة، كان قادتها يريدون الوصول إلى الاستقلال، لكن الأمور أخذت منحى آخر وصنعت أسطورة. وأصبحت الثورة الجزائرية عبارة عن معجزة ينتظر منها كل يوم معجزة جديدة: ينتظر منها أن تصنع دولة دون وجود رجال دولة ولا ثقافة دولة، وأن تصنع اقتصادا دون رأسمال ولا طبقة عاملة ولا تقاليد في الصناعة، ويطلب منها أن تصنع اقتصادا دون بنوك ولا بورصة ولا مصانع، ويطلب منها أن تقيم جامعات دون أساتذة ودون طلبة ودون علم…
وتجاوزت المطالب ما هو ممكن… وتجاوزت كل ما هو معقول، لأن الثورة الجزائرية بدأت بصناعة المستحيل، في الجزائر وفي العالم كذلك، حيث فرضت طقوسا وسلوكات جديدة. أتعرفون أن اسم “جميلة” لم يكن معروفا في المشرق العربي قبل أن تظهر جميلة بوحيرد، فأصبح من العار على أية عائلة إن لم تسم بنتا “جميلة”؟ أتعرفون أن مساعدات العراق للثورة الجزائرية كانت تدخل ضمن ميزانية الدولة العراقية، وأن ممثل جبهة التحرير في بغداد كان يحضر اجتماع مجلس الوزراء؟ أتعرفون أن أمراء الخليج قد وضعوا ما يملكون تحت تصرف الثورة، ومنهم من وهب منزله للوفد الذي كان يتفاوض في إيفيان، ومنهم تلك الملكة التي أعطت سفينتها الخاصة yacht لنقل السلاح إلى الجزائر؟ أتعرفون أن تونس والمغرب كانت ملكا للثورة الجزائرية، وأن المجاهدين كانوا يقطعونها بالقوة ليدخلوا التراب الجزائري؟ أتعرفون أكبر القادة الأوربيين في النصف الثاني من القرن الماضي دخلوا السياسة من باب التضامن مع الجزائر، مثل السويدي أولوف بالم والفرنسي ميشال روكار والإسباني فيليب غونزالاس وغيرهم؟ أتعرفون أن الثورة الجزائرية دفعت عائلات مسيحية إلى التخلي عن ذويهم للالتحاق بقضية عادلة؟ وهل تعرفون أخيرا أن نلسون مانديلا وشي غيفارا جاءا إلى الحدود الجزائرية لزيارة قيادة الثورة والتشاور معهم حول تنسيق النضال مع القضايا العادلة في العالم؟
هذا ما صنعته الثورة الجزائرية. ولعل ذلك ما دفع الكثير إلى الاعتقاد أنها قادرة أن تصنع كل معجزة وكل كل ما يتخيله الإنسان. غير أن المناضلين في تلك الفترة كانوا يعرفون الاستقلال والعلم الوطني والتضحية، لكنهم لا يعرفون الحريات الفردية ولا الديمقراطية ولا حقوق الإنسان ولا بناء الاقتصاد وإقامة مؤسسات ديمقراطية… لقد ضحوا بكل ما يكسبون لكنهم لا يستطيعون أن يضحوا بما لا يكسبون من معرفة وأفكار وثقافة سياسية…