-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

أيام الكبرياء والشهامة

عابد شارف
  • 5827
  • 9
أيام الكبرياء والشهامة

في الذكرى الخمسين للاستقلال، نتساءل: لماذا حققت الثورة الجزائرية المستحيل في ميدان التضحية والتجنيد، ولم تحقق نفس النتائج في بناء الدولة والمؤسسات والاقتصاد؟

من أراد الكبرياء فله ذلك، ومن أراد أن ينظر إلى الاستقلال من الجانب الآخر فله ذلك. من اختار أن يتكلم عن الحرية والكرامة والتضحية والشهداء بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال فله ذلك، ومن اختار أن يتكلم عن فنانة وما ستقتضيه لتغني في الجزائر ومن له الحق في تنظيم الحفلات ومن ليس له الحق، فله ذلك. وكل واحد ينفق من زاده، فمن كان رزقه من عظمة العظماء، وكبرياء الكبار، وشهامة أهل الأخلاق، ينفق منها. ومن يقتصر عالمه على المنصب والسعي وراء المسؤولية فله ذلك.

والشهامة ليست سلعة تباع وتشترى، ولا يمكن استيرادها ولا تخزينها في البنوك. إنها خصلة كانت موجودة بقوة في الجزائر في مرحلة مضت، لما كان الناس يضحون بكل ما يكسبون من أجل وطنهم. كانوا يضحون بأموالهم ورزقهم ووقتهم وصحتهم وعائلتهم، لما كانوا يسعون وراء ما هو أكبر من ذلك: كانوا يبحثون عن الحرية والكرامة والشرف والعزة، وكانوا يعرفون أن هذه الصفات لا يمكن الوصول إليها إلا بتحقيق استقلال الجزائر.

هؤلاء صنعوا عبقرية الجزائر وتاريخها وأمجادها، ونفقوا من دمائهم لتحقيق ذلك. هؤلاء تجاوزوا المفاهيم التي أصبحت رائجة اليوم في سوق القيم. كانوا لا يعرفون الكلام عن الفيلا والمنزل الفاخر والمنصب. كان سلوكهم وأخلاقهم ينتميان إلا عالم آخر، عالم لا يتساءل الناس عن الراتب والدخل ومكان قضاء العطلة، إنما يتكلمون عن طريقة القيام بالواجب والأخلاق والقدرة على مواجهة العدو.

لقد ضحوا بكل ما يكسبون لكنهم لا يستطيعون أن يضحوا بما لا يكسبون من معرفة وأفكار وثقافة سياسية

رغم ذلك، كثيرا ما تتأسف الأجيال الجديدة لما تسميه فشل الجيل الأول، كما أنها لا تفهم كيف عجزت الجزائر عن بناء نظام سياسي متوازن، واقتصاد قوي، ومدرسة تضمن العلم والمعرفة. وتزداد الحسرة لما نعرف أن الجزائر صرفت حقيقة أموالا طائلة لتحقيق هذه الأهداف لكن تلك الأموال لم تعط النتائج المرجوة.

لماذا هذا العجز؟ لأن الثورة الجزائرية كانت أكبر مما نتصور، وأقوى مما كان يتخيل ذلك الجيل الذي صنع الحركة الوطنية، وكانت أكبر بكثير من القادة الذين صنعوا الثورة بأنفسهم. ولما اندلعت الثورة، كان قادتها يريدون الوصول إلى الاستقلال، لكن الأمور أخذت منحى آخر وصنعت أسطورة. وأصبحت الثورة الجزائرية عبارة عن معجزة ينتظر منها كل يوم معجزة جديدة: ينتظر منها أن تصنع دولة دون وجود رجال دولة ولا ثقافة دولة، وأن تصنع اقتصادا دون رأسمال ولا طبقة عاملة ولا تقاليد في الصناعة، ويطلب منها أن تصنع اقتصادا دون بنوك ولا بورصة ولا مصانع، ويطلب منها أن تقيم جامعات دون أساتذة ودون طلبة ودون علم

وتجاوزت المطالب ما هو ممكن… وتجاوزت كل ما هو معقول، لأن الثورة الجزائرية بدأت بصناعة المستحيل، في الجزائر وفي العالم كذلك، حيث فرضت طقوسا وسلوكات جديدة. أتعرفون أن اسم “جميلة” لم يكن معروفا في المشرق العربي قبل أن تظهر جميلة بوحيرد، فأصبح من العار على أية عائلة إن لم تسم بنتا “جميلة”؟ أتعرفون أن مساعدات العراق للثورة الجزائرية كانت تدخل ضمن ميزانية الدولة العراقية، وأن ممثل جبهة التحرير في بغداد كان يحضر اجتماع مجلس الوزراء؟ أتعرفون أن أمراء الخليج قد وضعوا ما يملكون تحت تصرف الثورة، ومنهم من وهب منزله للوفد الذي كان يتفاوض في إيفيان، ومنهم تلك الملكة التي أعطت سفينتها الخاصة yacht لنقل السلاح إلى الجزائر؟ أتعرفون أن تونس والمغرب كانت ملكا للثورة الجزائرية، وأن المجاهدين كانوا يقطعونها بالقوة ليدخلوا التراب الجزائري؟ أتعرفون أكبر القادة الأوربيين في النصف الثاني من القرن الماضي دخلوا السياسة من باب التضامن مع الجزائر، مثل السويدي أولوف بالم والفرنسي ميشال روكار والإسباني فيليب غونزالاس وغيرهم؟ أتعرفون أن الثورة الجزائرية دفعت عائلات مسيحية إلى التخلي عن ذويهم للالتحاق بقضية عادلة؟ وهل تعرفون أخيرا أن نلسون مانديلا وشي غيفارا جاءا إلى الحدود الجزائرية لزيارة قيادة الثورة والتشاور معهم حول تنسيق النضال مع القضايا العادلة في العالم؟

هذا ما صنعته الثورة الجزائرية. ولعل ذلك ما دفع الكثير إلى الاعتقاد أنها قادرة أن تصنع كل معجزة وكل كل ما يتخيله الإنسان. غير أن المناضلين في تلك الفترة كانوا يعرفون الاستقلال والعلم الوطني والتضحية، لكنهم لا يعرفون الحريات الفردية ولا الديمقراطية ولا حقوق الإنسان ولا بناء الاقتصاد وإقامة مؤسسات ديمقراطيةلقد ضحوا بكل ما يكسبون لكنهم لا يستطيعون أن يضحوا بما لا يكسبون من معرفة وأفكار وثقافة سياسية

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • بوبكر بن الحاج علي

    لا أدري إن كنت أفرح لإنجازات الثورة في أعز أيامها، أو أبكي على ما وصلت إليه الجزائر اليوم بفعل فاعل معلوم الصفات و الهوية.
    إنجازات الثورة خطط لتحطيمها أيام الثورة بالذات، بتصفية الرجال المخلصين، وإبعاد الآخرين عن السلطة. أما جيل الاستقلال فمخطط التهديم مطبق من الجذور فلا تربية و لا تعليم بل تهديم حتى القيم الخلقية المكتسبة بالتوارث.
    مشكلة الجزائر اليوم هي في نوعية الجزائري اليوم، يحطم و لا يبني، يأخذ و لا يعطي. و العيب ليس فيه بالدرجة الأولى لأنه برمج لأن يكون كذلك.

  • دياب

    يا السى عابد الشى الوحيد الدى يحسب للشعب الجزائرى هو ثورته المباركه لانه قادها تحت شعار لا الاه الا الله والموت او الاستشهاد هده هى ايام الكبرياء والشهامه اما غير دالك فلا شى يدكر غير الانقلابات العسكرية والتصفيات الجسديه وكل من حكم خون من فاته وهى مستمره حتى الان عبر الكدب وتحريف وتزييف الحقائق بانباء الفاسقين وباختصار شى معيب ولا يشرف الشهداء ولا الثوره ولا بعض المجاهدين الدين مازال بعضهم على قيد الحياة بارك الله فى عمرهم

  • djaafar

    مع كل احتراماتي لك يا سيدي ,لكنك جانبت الصواب فالقادة الحقيقيون الدين خططوا للثورة وفجروها اما اغتيلوا او استشهدوا والدين بقوا احياء بعد الاستقلال لم يصلوا الى السلطة انصحك بقراءة التاريخ جيدا واعتدر منك مجددا.

  • اكلي

    يا سي شارف التاريخ يحفظ اسماء الذين انقلبوا في1962 بقوة الحديد و النار على الشرعية و اغتالوا و نفوا و همشوا زعماء االثورة و قلدوا ضباط الجيش الفرنسي اعلى مناصب الدولة الجزائرية الحديثة. و لا احد يجهل ما تبع ذلك من فساد في مؤسسات الجزائر و تعسف في استعمال المناصب. التاريخ يحفظ ايضا رد بومدين للصحفي Paul Balta حين استفسره عن الفساد الذي عم كل المستويات "هذا كل ما عندي من رجال"! و التاريخ يحفظ ان بومدين دفع الى الاستقالة وزرير المالية محروق سماعيل لانه يثير باستمرار قضية الحفاظ على المال العام.

  • كريم

    انا يا دكتور ما عدت افهم ما تكتبون ولماذا تكتبون و من انتم ولمن تكتبون يا دكتور ....اين اجد ذاك الشعب الذي تتكلمون عنه ..سمعت الكثير من الصفات العظيمة والاسطوريه كمى تقول ..لكن ما اراه ليس كما يوصف ابدا ..انا ابحث عن الشعب العظيم وقد بدات اشعر باليءس لانني كلما بحثت اجد شخص واحدا يشكواا ويشتكي ويشكو يشتكي ويشتكى منه وانا اشكوا منه ..ارجوكم ان تساعدوني إن كنت تعلم مكانه.فدلني عليه.......وثوابك عند الله.....شكرا

  • nourdine

    أظن أن ما يُسمى بالفكر الوطني و الشرعية الثورية التي سيقت بها الجزائر مند الإستقلال قد أثبت فشله و عدم قابليته للتطور و قيادة الشعب نحو حياة كريمة محترمة, فبالرغم من الثروات الهائلة و الإمكانيات الكبيرة للبلد لم يستطع هذا الفكر السطحي سطحية من نظروا له أن يقدم شيئا دا بال و دا قيمة اللهم بعض المشاريع الضخمة بميزانيتها و المرتجلة و التي لا تلبث أن تتوقف .
    للأسف نحن لم نصل بعد إلى درجة دولة لها قوانين و أخلاق نحن لا زلنا نعيش في زريبة يقدس فيها فكر القوة و التدمير على قوة الفكر و البناء.

  • مصطفى بوحاجب

    بسم الله الرحمان الرحيم،
    إذا كان هذا الكلام صحيحا في 1962، فقد مضى اليوم نصف قرن على تلك الفترة. أظن أنه كان لدينا الوقت الكافي لتغيير الذهنيات والانطلاق الحقيقي في بناء دولة المؤسسات.
    و بتعبير آخر حصاد اليوم ينم عن فشل ذريع للجزائر شعبا و سلطة في مشروع البناء و التنمية.
    و بغض النظر عن أسباب الفشل هل هي بسبب المؤامرة، الخيانة أو عدم كفاءة من تحمل المسؤولية، فلسنا اليوم بحاجة لمن يبرر لنا الفشل بقدر ما نحن بحاجة لمن يدلنا على أسبابه وكيفية التجاوزها.

  • غريب

    الكاتب المحترم لا داعي لقدسية الثورة رغم جلالتها ولا داعي لتبرير الفشل الذريع بعد الاستقلال.. فما حدث بعد 1962 لا يمكن تحميله للثورة ولا للشعب ولا لثقافة الجزائريين.. اصحاب الجريمة لهم عنوان و يجب تحميلهم المسؤولية.. فهم من قام بالانقلابات و المصادرة والقتل و الفساد واهانة الاسلام واهانة الثورة واخلاقها و رجالها .. و الجزائرييون كانوا بالفعل يعرفون الحريات و الديمقراطية و حقوق الإنسان فهي من صلب ثقافتهم الاسلامية والا لما ناضلوا من اجلها.. تامل فقط نظام الجماعة والتويزة والوقف تدرك ذلك

  • djamel

    هل تعرف لماذا حقق الجزائريون .. القادة... إنجازات عظيمة أبهرت العالم أيام الثورة التحريرية و ححقوا ما ابهر العالم أيضا من إخفاقات طيلة 50 عاما الماضية ، لأن القادة أيام الثورة التحريرية حظهم كان عظيما لعدم وجود صحفيين أمثالك ...أصحاب العدد غير المنهي من الوجوه ، فلا تعتقد أن ما تكتبه يحتجن صورتك الحقيقية ....أبدا ، ولم صادفني الحظ و إلتقيت بك لقلت لك ما يختلجني و خاصة أنت بالذات