الرأي

أين موقع السلفية الجزائرية من الحراك الشعبي؟

ح.م

لم يفتأ التيارُ التقليدي السلفي الجزائري الجامد منذ ظهوره ولاسيما السلفية الجهادية والعلمية والمدخلية منه على وجه الخصوص، إلاّ تقديم أسوأ وأتعس وأردأ التفسيرات والشروح والتطبيقات العرجاء والمرَضِيَّة لدين الإسلام ولشريعته السمحاء. وما من رأي شاذٍ أو قول متشددٍ أو تفسير متنطعٍ أو فهمٌ ظاهري قاصر أو دليل مرجوح أو أمر مختلف فيه، حيث القاعدة الأصولية تقرر: (أنه لا ينكر المختلف فيه بل ينكر الاختلاف في المتفق فيه).. إلاّ وساقه رواد وأعمدة هذا المذهب، وشكّلوا به مذهبهم، الذي يمجد عبادة آراء وأقوال وفتاوى ورخص الأموات من رجال السلف.

ولهذه المهمة والوظيفية التشويهية عاش واقتات وأشعل نيران الفتن والخلافات وتمزيق وحدة الصف الديني الجزائري مدة أربعة عقود 1980-2019م، ظل يتعيش من خلال بث الفوضى ونشر الفتن وإذاعة التشكيك في عقيدة ودين الناس، فاستحلَّ من أجل فرض مذهبه الشاذ على الناس كل الوسائل الهمجية والردعية، بدءًا من إراقة دماء المسالمين الأبرياء، وقتل الغافلين بحجة ابتداعهم، وعليها فقد هتك الأعراض وسبى الحرائر واستعبد الغلمان وحاز الأموال للمخالفين المغلوبين، وساق من أجل إلباس الشرعية الدينية على أفعاله الشنيعة كل مفردات التكفير والتفسيق والتبديع والإشراك والإلحاد.. حتى يتمكن من سبي واستحواذ الأموال والغنائم والفيء من إخوانه في الدين، وهو سلوك ومنهج السلفيين الأوائل الذين أشعلوا نار الفتنة في العشرية الحمراء والسوداء 1992-2004م.. حتى هبّ العشرات بلْهَ المئات من العلماء والفقهاء والشعراء والكتاب للرد على النِّحلة الضالة، وتفنيد حججها وسلوكها وإبطال منهجها الباطل. (لمزيد من التوسع حول الحركة السلفية انظر: أحمد عيساوي، الحركات التجديدية والإصلاحية الحديثة والمعاصرة في العالم الإسلامي، دار الكتاب الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 1440هـ 2019م، ص 103.. 150.) و(انظر: محمد سعيد رمضان البوطي، اللامذهبية أخطر بدعة تهدد الأمة الإسلامية، طبعة 1970م، والسلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي، دار الفكر، دمشق، 2017م، وعبد الوهاب بوخلخال، السلفية، دار اليمن، الجزائر، 2006م…) وغيرهم.

وقد سعتْ هذه الحركة التخريبية السلفية منذ انبعاثها إلى التستر وراء الدين ورفع شعار تطبيق الكتاب والسنة، وهي خدعة انطلتْ على الكثيرين من المسلمين، ولكنها باتت اليوم مكشوفة عارية، لا شيء يسترها أو يحجبها عن حقيقتها البشعة في تفسير الدين، وتحويله إلى أداة معنوية لتطويع الناس للطغاة والحكام والأمراء والملوك المستكبرين.

وقد عاثت هذه السلفية فسادا عبر جيش من المرتزقة والمخبرين والمرجفين المتستِّرين باسم الدعوة والكتاب والسنة. وذلك من خلال أشباه الدعاة والفقهاء وأشباه العلماء والإعلاميين والكتَّاب الدينيين المأجورين والممتهنين ممن لا ضمير لهم، ولا وطنية فيهم، ليقوموا بدور تفكيك شعوبهم، وضرب وحدتها، وتفتيت صفها، وزرع الشك في عقول وأفئدة ودين أبنائها وبناتها وسائر قواها الحية باسم الدين وباسم رفع شعار الكتاب والسنة، وإتباع السلف الصالح من الأمة، وهو الذي عرفته الجزائر الجريحة مذ وفد عليها لفيفٌ من أبنائها الذين تغذُّوا وتشبَّعوا بالفكر السلفي الضال والمخالِف لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلّم والصحابة رضوان الله عليهم وللتابعين من سلف هذه الأمة، الذين لا تربطهم أيُّ علاقة بهؤلاء الأعوان والمخبرين والمفسدين في دين الأمة سنوات 1980.. إلى اليوم. من أمثال المدعو فركوس، وعبد المالك رمضاني، وشريفي العيد، وسنيقرة، وعويسات… الذين تكرموا على أمتهم بتكفيرها وتفسيقها وتبديعها وإخراجها من الملة، ولست هنا في معرض الرد على شهواتهم وتهويماتهم وهواهم الديني المخالِف لصريح وصحيح المنقول والمعقول والموروث، لأن ذلك تكفلتُ به في كتابي آنفِ الذكر، بل لأركز على ارتباطاتهم المشبوهة بأجهزة الأمن والمخابرات الخفية التي تهدف إلى زرع الشك وتفتيت صف ووحدة الأمة الجزائرية، فما من رأي مفرِّقٍ أو قول مفتنٍ أو توجُّه مرجوحٍ .. إلاّ وكان هو عينُ مذهبهم، ولكم الاطلاع على فصل “أخطار الحركة السلفية” وفصل “دعاة ومُفتون بدرجة مجرمي حرب”، وقد تفضَّل علينا أحد هؤلاء الفتانين المفتونين بتفصيل شيء من فتنتهم في كتابه (فتوى العلماء الأكابر فيما أهدر من الدماء في الجزائر) فهو وثيقة صريحة تكشف حقيقة أولئك الدعاة المطلوبين للمحاكمة في محكمة العدل الدولية بلاهاي بفتاويهم الدموية.

ولكن السؤال المفصلي هنا هو: من مكنَّ لهم في الجزائر؟ ومن جعلهم يتسنمون ويرقون المحاريب والمنابر ويوجِّهون الأمة ويخرِّبون ويُفسِدون عليها أمور دينها؟ ومن سمح لهم أن يعكِّروا صفو المشهد الديني في الجزائر الجريحة؟ ومن أتى بهم ودفعهم إلى تأدية هذه المهمة القذرة باسم الدين؟

ونحمد الله أن الأحداث توالت لتكشف لنا كيف انحاز هؤلاء المأجورون من أشباه الدعاة والمفتين لقوى الظلم والطغيان، وخنسوا عن قولة الحق في الكثير من المواقف الحاسمة في تاريخ الأمة عندما كانت تتعرَّض لأشرس هجمةٍ في دينها ولغتها وعناصر هويتها في مجال وقطاع التعليم والعالي والتربية والشؤون الدينية وفي حقوقها وكرامتها وعزتها أيام الحقبة البوتفليقية الفاسدة، التي هي أهم ّمطالب الكتاب والسنة الأولى، التي يدعون رفع شعارها الكاذب، وقد بيَّنت الأيام أنه لم يكن لهذه الزمر المأجورة من حضور سوى في تكفير الأمة وتبديعها وتفسيقها وإخراجها عن الملة، وهذه هي المهمة التي ابتعثهم بها أعداء الخارج ومتآمرو الداخل الذين يقبعون في السجون اليوم.

والحمد لله أن كان الحراك المبارك شاهدا عدلا ليكشف لنا عن الخندق الذي تخندق فيه هؤلاء العملاء والقومية، إذ اختاروا طواعية الانحياز للظلمة والفاسدين والمفسدين، والانتماء لدولة الظلم وسلطة القهر، وليرفعوا شعار (طاعة السلطان واجبة) و(تحريم الخروج على الحاكم) و(حرمة التظاهر والعصيان واستنكار الظلم)؟!

الحاكم الواجب طاعته

لكم أن تتعرفوا بداءةً عن الحاكم الواجب طاعته، وهنا أستل لكم من طبقات ابن سعد موقفا سياسيا من الخلافة الراشدة، هذا ابن سعد وطبقاته التي لا تعرفونها أو لا تستثمرونها سوى في الفتنة والبحث عن مثالب ومعايب الرجال لتقوموا بتجريحهم وتفسيقهم وإخراجهم من الملة، وتغيب عنكم مثل هذه الدُّرر، فقد جاء في الطبقات لابن سعد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسلمان: “أَمَلِكٌ أنا أم خليفة؟”، فقال سلمان: “إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهما أو أقلّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملِكٌ غير خليفة” قال: فبكى عمر واستعبر بالبكاء.

وفي رواية أخرى –والسلفيون يحبُّون سوق الروايات لتعطيل الدين وبث الفرقة والفتنة- قال عمر لبعض جلسائه: “لا أدري أخليفة أنا أم ملِك؟ وإن كنت لملك فهذا أمرٌ عظيم”، فقال له قائل: “إن بينهما لفرقا كبيرا”، قال عمر: “ما هو؟”، قال: “الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك، والملِك يعسف –يظلم- الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا”.

ودون التعليق على هذا النص السياسي النبيل من فقه السياسة الشرعية الإسلامية التي تذهلون عنها، وهو مورد لسيول الأفكار في عالم الفكر السياسي والمنهجي والمعرفي الإسلامي ونحوه، وهو الذي يغيب عن هؤلاء البله المأجورين، نسألهم فنقول لهم: “هل الملوك والأمراء والحكام الظلمة الذين يحكموننا ويسيّرون شؤوننا بالرغم منا وبعُون القوي والمسيطر الخارجي يأخذون الأمور بحقها ويضعونها في حقها؟”.

هم حسب التعبير العُمَري ليسوا ملوكا ولا خلفاء، بل ظلمة ومتآمرون، لهم حق الخروج والعصيان والثورة، وهل هي هذه الخلافة التي قال فيها القاضي الماوردي في الأحكام السلطانية في كتاب “نصيحة الملوك”: “إن الخلفاء الراشدين كانوا لا يرون الخلافة إلاّ لإحياء الدين، ولا الإمارة إلّا لصالح المسلمين، وكانوا أهل رأفة بالمؤمنين، سيرتهم العدل، وقولهم الفصل، وقضاؤهم الحق، وكلامهم الصدق، وقد لبسوا المسوح والصوف، وجردوا السيوف يضربون بها وجوه الكفار، وأخذوا السياط يقمعون بها رؤوس الفجار، حتى فتحوا الفتوح، وهزموا الجيوش، وقهروا الجبابرة، وقتلوا الفراعنة، وأظهروا نور الحق في الغرب والشرق، ظاهرهم الخشوع، وباطنهم الخضوع لله، وبغيتهم الآخرة، والاستخفاف بالدنيا جعلوها تحت أقدامهم، إذْ عرفوها حق معرفتها، ووضعوها في منزلتها..”، فهل هؤلاء مثل أولئك؟ وهل هذه هي الخلافة البوتفليقية التي مكنت للأراذل والفسقة والفجرة والأراذل واللصوص والفاسدين والمفسدين الواجب صيانتها وحمايتها؟ وهل هذا هو منصب الخليفة المتهتك الواجب طاعته؟ هل هو هذا السلطان الواجب طاعته؟ أعتقد جازما لا، وهو ما اعتقده الملايين من الحراكيين ممن لا يمتلكون مثل هذه الثقافة الدينية العلمية المتخصِّصة، اعتقدوها بفطرتهم السليمة في مقاومة الظلم والذل والعبودية التي يُروِّج لها أمثال وأزلام ورموز وأتباع هذا التيار المتآمر المأجور منذ أربعة عقود..

وأخيرا.. نحمد الله أنكم لم تخرجوا مع الحراك، لأنكم ستكونون شُبهةً ووصمة، لأن صورتكم وماضيكم وحاضركم ومستقبلكم تآمرٌ، وردَّة، وخيانة، وتشكيك في سماحة الدين، لقد بطُل سِحْركم، وبان سَحَرُكمْ العفنِ، وهيهات هيهات.. فإن استطعتم فاحجبوا الشمس عنَّا.

مقالات ذات صلة