الرأي

“أي مستقبل للنوابغ…؟” مجددا!

أرشيف

الأستاذ سليم قلالة من القلائل الذين يكتبون بهدوء ودون تهجّم، وهو أسلوب يحبذه الكثير في طرح القضايا الجادة والمصيرية… ذلك ما نبهني إليه منذ مدة أستاذ للرياضيات في جامعة فرنسية. وقبل يومين، أرسل إلي أستاذ في المعلوماتية بجامعة أجنبية رابط مقال الأستاذ سليم المعنون “أي مستقبل للنوابغ في بلادنا؟” وعبّر عن إعجابه بمحتواه. وقال جزائري آخر (مدير بحث في المركز القومي للبحث العلمي الفرنسي): “كأنني أنا كاتب المقال”! نودّ هنا تقديم إضافة إلى ما تفضل به سليم.

نوابغ الكبار

ما يجري في الجزائر منذ الاستقلال في ما يتعلق بجانب التمكين من “النبوغ” و”التميز” في العلم والاستفادة منه ومن أهله، يجعل الكثير يميلون إلى اعتقاد أن الأمر مقصود من قبل المسؤولين وأن السلطات لا ترى “النبوغ” بعين الرضا، وما تظاهرها بالاهتمام بالنخب والمتميزين إلا ذرٌّ للرماد في العيون. وهذا أقرب إلى الواقع في نظرنا.
يوم أمس، اطلعنا على مقال نشر في عدد شهر أوت لمجلة Notices التي تصدرها جمعية الرياضيات الأمريكية العريقة. ويتناول المقال وضع الرياضيات في إفريقيا الزنجية وأماكن وجود النخب فيها. وفي المقال، نجد مجموعة من علماء الرياضيات الأفارقة المتميزين العاملين في الولايات المتحدة يُدلون بآرائهم بخصوص محاولاتهم- اليائسة في معظمها- من أجل التعاون مع بلدانهم الإفريقية.
لعلنا نلخص هنا ما ذكره أحدهم لأنه يعبّر بمرارة عما وقع للعديد من علمائنا المقيمين الآن في الخارج. يتعلق الأمر بأوغسطين بنياغا Augustin Banyaga، وهو أول دكتور في الرياضيات من جمهورية رواندا. وقد درَس واشتغل في كبريات الجامعات الأمريكية مثل برينستون وهارفارد. يروي أوغسطين أنه عندما أنهى أطروحته في الرياضيات عام 1976 في أمريكا كان ينوي الرجوع إلى بلده والعمل فيه. فراسل الجامعة الرواندية الوحيدة يطلب منها الالتحاق بها، وظل ينتظر عدة شهور فلم يصله أي ردّ منها!
ومن ثمّ وجّه طلبا مماثلا إلى أرقى الجامعات الأمريكية كما أسلفنا (برينستون ثم هارفارد) فوظف لنبوغه في الحين. ورغم ذلك ظل يسعى إلى زيارة جامعة بلده وجامعات إفريقية أخرى للتدريس وإلقاء المحاضرات كخبير في منظمة اليونسكو لإيمانه بواجبه نحو بلده بصفة خاصة وإفريقيا الزنجية بصفة عامة. وفي عام 1995 قرر نهائيا أن يستوطن الولايات المتحدة بعد أن يئس من تحقيق حلمه إذ عرض على جامعة بلده العمل فيها دوريا (6 أشهر كل سنة… وهذا النظام متداول في كثير من الجامعات الغربية) فقوبل طلبه بالرفض! وظل فكريا مرتبطا بإفريقيا حتى إنه قضى مثلا سنة كاملة في مركز بحث متميز بجمهورية البنين، وهو من كبار الباحثين في العالم!
لا شك في أن العديد من الجزائريين المقيمين بالخارج مرّوا بمراحل شبيهة بالتي مرّ بها أوغسطين. وإلا كيف لم تتمكن سلطاتنا منذ عقود من إيجاد صيغة قانونية تجعل الجامعة الجزائرية تستقطب عددا من خبرائنا في الخارج؟! ومنهم، مثلا، من هم متقاعدون الآن أو على أبواب التقاعد… ومن السهل أن نستحدث قانونا يجعلنا نستثمر في هؤلاء لأن لهم حرية أكثر في التحرك والتنقل.
وقد يسأل سائل: “وما فائدتنا من أن يأتي هؤلاء “النوابغ” ليلقوا محاضرات أو يلتقوا بطلاب الدكتوراه عندنا؟ لقد طُرح هذا السؤال على أستاذ استجوبته مجلة Notices فردّ: “هل تعتقد أن زغموند Zygmund (1900-1992) كان سيكتشف كلدرون Calderon (1920-1998) لولا سفره إلى الأرجنتين؟”. ومن المعلوم أن الرياضي الأمريكي زغموند من أصل بولندي كان قد اكتشف نبوغ الأرجنتيني كلدرون عند سفره إلى الأرجنتين… وقدم هذا الثنائي أعمالا مشتركة جعلتهما يُصنَّفان من بين كبار علماء القرن العشرين في حقل اختصاصهما.

نوابغ الشباب

نعلم أنه يكشف عن نوابغ التلاميذ من خلال المنافسات المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية. نتساءل: هل هناك تكفل جاد بهذا الجانب؟ الواقع يقول: لا، أبدا!! ونتساءل: من سمع بنتائج نجباء تلاميذنا في أولمبياد الرياضيات العالمي (رومانيا) والأولمبياد المتوسطية (إيطاليا) وقد أجريت المنافسات خلال هذا الشهر… ومن عادة وزارة التربية أن تعطي هذه المشاركة بعدا إعلاميا متميّزا؟! سبب السكوت هو سوء النتائج المحصل عليها: في المنافسات العالمية كان ترتيبنا 92 من 107 دول، وفي المنافسات المتوسطية كان 14 من 15 دولة!!
هل نصدق أن لدينا تلاميذ نجباء وهم بهذا المستوى الرديء؟ لا، أبدا! من الواضح أن سبب سوء العاقبة هو أن الوزارة لم تتخذ التدابير اللازمة لانتقاء أفضل التلاميذ، ولم تعمل على تمكين هؤلاء التلاميذ من الاستفادة من تداريب في مستوى الطموحات. فكما هو الشأن في تدريب فريق كرة القدم لا بد من أن يكون هناك لاعبون مؤهلون، ومدربون يجيدون مهمة التدريب.
لقد ألقت وزارة التربية بهذه المهمة على كاهل مفتشين ليست لهم الخبرة الكافية التي تجعلهم يقومون منفردين بهذه المهمة الصعبة على أكمل وجه… فكانت التداريب في حاجة إلى الكم (مدة التدريب) والكيف.
فلو كانت الوزارة تريد فعلا المضي قدما بإبراز نخبنا لسعت مع كل سلطات البلاد إلى جلب مدربين من الداخل والخارج يقومون بمهمة التدريب المزدوجة: 1) تكوين مدربين على المدى المتوسط، 2) المساعدة في تكوين التلاميذ.
إننا لا نعتبر وزارة التربية المسؤولة الوحيدة عن وضع النخب: انظر إلى خريجي ثانوية الرياضيات الذين من المفترض أن يكوّنوا نخبة في العلوم الأساسية. ها هم تحصلوا في الماضي والحاضر على البكالوريا، أين سيجدون أنفسهم (كطلبة لهم تلك المميزات)؟ في الجامعة إلى جانب من تحصل على البكالوريا بمعدل 10/20. من المسؤول عن هذا الوضع؟؟
لحسن حظ الجزائر أن فيها من الأساتذة أمثال أوغسطين بنياغا الرواندي، يسعون بصمت إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هؤلاء النجباء. ولعل من المحاولات الجادة في هذا الاتجاه سلسلة الورشات التكوينية التي تُنظم دوريا لفائدة النجباء في الجامعات تحت عنوان “مخيم الرياضيات”، وهذا منذ 3 سنوات. وقد نَظمت طبعتها الخامسة من 18 إلى 26 جويلية المدرسة العليا للأساتذة بوهران، وعرفت نجاحا كبيرا بفضل الخيّرين من المواطنين من داخل البلاد وخارجها.
ما من شك في أن كل يوم يمرّ دون الاهتمام بنخبنا ونوابغنا هو يوم تفقد فيه البلاد قسطا من احتياطاتها في الاستثمار البشري. فمتى نتوقف عن هدر طاقاتنا في هذا المجال؟!

مقالات ذات صلة