إشارات بالخطر… لنُعجِّل النظر
ازدادت في المدة الأخيرة الإشارات الحاملة للخطر في بلادنا، وعلينا استباقها قبل أن تتحول إلى خطورة حقيقية على مستقبلنا جميعا.. على المستوى الدولي وعلى المستوى المحلي، على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، باتت كثير من المؤشرات التي كنا نراها واعدة منذ أشهر قليلة تتدحرج إلى مستوى المُنذِرة بالخطر المحدق، ولم يعد يكفي التشبث بها لكي نأمل في تجاوز الصعوبات القادمة والتهديدات الجديدة. نحن في حاجة إلى النظر إلى المستقبل بطريقة أخرى.
يتفق الاستشرافيون أن النظر إلى المستقبل يتطلب 5 عناصر: النظرة البعيدة، النظرة الواسعة، التحليل العميق، التكفل بالمخاطر، التفكير في الإنسان (Gaston Berger)، وأضاف البعض الآخر لهذه النقاط الخمس مسألة النظر بطريقة أخرى للواقع الذي نعيش (Godet). ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي ينبغي أن نعجل النظر من خلالها اليوم.
نحن في حاجة ماسة وعاجلة اليوم إلى النظر إلى مآل الدولة الجزائرية بطريقة أخرى مختلفة تماما عن تلك الطرق التي اعتدنا النظر بها. لقد استنفدت الطرق السابقة قدرتها على التأثير، أي فقدت فعاليتها ولم يعد يأخذها الناس بعين الاعتبار.
لو فككنا عناصر الخطاب السياسي الرسمي اليوم لوجدناه خال تماما من أي أخذ للمستقبل بعين الاعتبار. هو خطاب أقرب إلى التحاليل الخطية التي تؤمن بأن النتائج ستكون كما نريد، بعيدا عن كل تحليل كلي بعيد المدى يأخذ بعين الاعتبار كافة التفاعلات والاحتمالات. مازالت السياسة الرسمية تعتقد أنها قادرة على التعاطي مع مشكل مستقبلي ـ كمشكل الغاز الصخري ـ بحلول مباشرة وسريعة وآنية: تقسيم إداري جديد. كما أنها مازالت تعتقد بإمكانية حشد الرأي العام الوطني، ورص صفوف الشباب بالدرجة الأولى من خلال دعوتهم إلى “الثقة” مرة أخرى في نوايا الحكومة وفي المنجزات السابقة… والواقع يقول أن هذا الشباب إنما يريد ضمانات للمستقبل وليس تذكيرا بواقع يراه بعينه ولديه القدرة على الحكم عليه من غير حاجة إلى توجيه من أحد…
المشكلة تكمن في هذا المستوى. مستوى السياسات العامة الرسمية التي لا تريد أن ترى بعيدا، ولا تريد أن ترى بكيفية واسعة أو تحلل بعمق أو تأخذ بسياسة المخاطر أو تفكر في الإنسان، فما بالك أن تفكر بطريقة أخرى.
سياستنا العامة إنما تسير خلافا لهذه المنهجية وأحيانا في كافة القطاعات مما يجعلنا ندعو إلى التعجيل بإعادة النظر فيها قبل فوات الأوان.
لحد الآن مازالت لدينا إمكانية لإيجاد مخارج لبقية الطريق على الأقل بالنسبة للخمس سنوات الحالية، التي هي مفصلية في تاريخ بلادنا ونحتاج إلى تجاوزها بسلام بالنظر إلى تزايد المتغيرات الضاغطة على واقعنا أكثر من المتغيرات المساعدة. ففي الوقت ذاته تنهار أسعار البترول، وتقترب الحرب من حدودنا الشرقية والجنوبية، وهي كامنة على حدودنا الغربية، ويزداد الحراك الشعبي في أكثر من مدينة، ويطال الجنوب بكثافة لأول مرة، ويتزايد فتح ملفات الفساد، وترتفع الأسعار، ويدخل شريكنا الاقتصادي الفرنسي في لعبة خطرة مع مصر على حساب الجار ليبيا، ونشعر أن حليفنا الأول في مكافحة الإرهاب الولايات المتحدة وكأنه يتخلى عنا في شمال إفريقيا، أما حليفنا الاستراتيجي ـ عسكريا ـ روسيا وكأنه شعر بأننا خذلناه مع الأوروبيين في معركة الغاز، ناهيك عن لعبتنا غير الواضعة مع القدرات المالية الخليجية..
إذا أضفنا إلى هذه المتغيرات الخارجية الضاغطة، ما تعرفه الساحة من انسداد، ومنع لكل تجديد للفكر السياسي أو الطبقة السياسية، وما يعرفه السوق من تقلبات في أسعار المواد الغذائية ومن جشع وطمع وفساد على أكثر من مستوى ، يصبح ما نسميه إشارات الخطر، بمثابة المؤشرات الحقيقية على وجود خطر داهم، تحتاج منا إلى مزيد من اليقظة الإستراتيجية وإلى التعجيل بالنظر في مستقبل البلاد.
وليس أمامنا سوى أن ننظر هذه المرة وفق ما يقتضيه صحيح النظر وإلا أدخلنا أنفسنا في متاهة لا خير فيها لأحد.
حقيقة هناك مشكلات عاجلة اليوم. ولكننا في كل الحالات لا يمكننا أن نحلها بقرارات استعجاليه. المشكلات العاجلة ينبغي أن تحل ضمن مشروع وطني بعيد المدى متفق عليه من قبل الجميع. واسع وقائم على تحليل عميق للواقع الذي نعيشه تشارك فيه جميع القوى الوطنية وفي مقدمتها الشباب، يُتوج هذا المشروع باتخاذ قرارات حاسمة تخص طبيعة نظامنا السياسي وخياراتنا الاقتصادية وتطهير الوضع المالي للمؤسسات ومحاربة الفساد، وإن كانت فيه بعض المخاطر ينبغي تحملها وأخذها بعين الاعتبار بجعل “الإنسان” الجزائري محور كل هذا العمل وغايته الأخيرة.
ينبغي أن نُقيم نظرتنا المستقبلية في آخر المطاف، ليس على أساس ما تتطلبه التوازنات السياسية أو الاقتصادية أو ضغوط الأفراد والزمر، أو الضغوط الإقليمية أو غيرها من العوامل التي بالطبع ينبغي أخذها بعين الاعتبار، إنما على أساس أية مكانة للإنسان في الجزائر؟ كيف نعيد له كرامته ومكانته ودوره في المجتمع؟ وكيف نُمكٍّنه من أن يشعر بأنه هو محور وغاية كافة السياسات، مهما كان وضعه الاجتماعي ومهما كانت الفئة التي ينتمي إليها؟ ولعل هذا البعد الذي يعيد الاعتبار للإنسان ضمن نظرتنا المستقبلية، هو القادر وحده، على جعل كافة الإشارات المنذرة بالخطر اليوم تتحول إلى إشارات حاملة لمستقبل واعد. هل نتمكن من ذلك؟ هل نقوم بذلك؟ ينبغي أن نفعل قبل فوات الأوان…