-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إعـصــار فــيه نـــار….

إعـصــار فــيه نـــار….

وقف الخلق ينظرون جميعا، إلى السماء، وقد اسودّ صفاؤها، واحمرّ بهاؤها، وتلوث هواؤها. سكن الخوف العباد، وشل الهول تكنولوجيا الأرصاد، وعم الكساد الاقتصاد والبلاد. إنه منطق البراكين الذي يفرض الإعصار والنار على كل الأمصار، فيعم البحار والقفار، وتذهل لهوله العقول والأفكار.

لقد عاش الحكام، والعلماء، والخبراء في رعب، مما سببته هذه الظاهرة الكونية، من خسارة، ومن دمار. وتعطلت لغة التكنولوجيا والأرصاد، أمام إعصار ونار، ودخان البركان الايسلاندي، الذي شلّ حركات الطيور الآمنة، والطائرات الكامنة.

تباركت عظمة الله، التي أرتنا آيات الله في الآفاق، فكان إنذارا للإنسانية، بأن فوق كل ذي علم عليم. وإلا فكيف عجز العلم الإنساني، بمخابره، ومراصده، عن توقع هذا الانفجار، واتخاذ التدابير والإجراءات لتفاديه، أو التحكم في اتجاهه، أو إخماد نيرانه وعواقب مآسيه؟

إن ما عاشته الإنسانية في الغرب الأوروبي والإفريقي، من رعب وخوف بسبب هيجان البركان في السماء، لممّا يضاف إلى ما عايشه الغرب في أمريكا الشمالية والجنوبية من هول ظاهرة كونية أخرى، هي ظاهرة هيجان البحار في ما عرف “بتسونامي”. ولقد وقفت الإنسانية هناك، حائرة، خائفة، من هول فيضان الماء، وهيجان البحار، مما لم يستطع العلم والعالم له ردا، أو تحكما في آثاره وعواقبه.

فإذا أضفنا إلى هذه المآسي كلها، مأساة ظاهرة كونية أخرى، هي ظاهرة الزلازل، التي لم تعرف موطنا، أو مسكنا. لأن الزلزال يضرب في كل مكان، ويستبد بكل أنواع السكان، وكل جغرافيا البلدان، انكشفت لنا سنن إلهية أخرى.

كيف نقرأ هذه الظواهر الكونية العنيفة، على اختلاف آثارها في الجو، والبر، والبحر، والتي كلما حلت بمنطقة من العالم، إلا وخلفت الخراب واليباب؟ هل نقرأها القراءة المادية العلمانية، كما يقرأها البعض، فنقول أنها عبث الطبيعة، وهمجية قوانينها؟ أم نقرأها القراءة الروحية الدينية، فنقول إنها تجليات لآيات الله، في أكثر من مظهر، ومن ظاهرة، وهي بالتالي إشارات وتنبيهات لأولي الألباب؟

إنها القراءة الأقرب إلى المنطق العقلي، والتي يشاركنا فيها حتى بعض علماء الغرب، كهنري برغسن، وبليز باسكال، وروني غينون، وغيرهم ممن يميلون إلى أن الأجدى أن نجعل لهذه الظواهر علة أولى هي الله، خالق الكون، الذي يجعل من معايشتنا لظواهر البراكين، والفيضانات، والزلازل، آيات من آيات الله (إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، لآيات لأولي الألباب) – سورة آل عمران. الآية: 190. (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) – سورة آل عمران. الآية: 191.

إن التعامل مع هذه الظواهر على أنها آيات من آيات الله، منهج عقلي يبعث على الطمأنينة الإنسانية، ويبث المحبة بين أفرادها، فيكون ذلك مدعاة لفعل الخير، والإيمان، بوجود جزاء وعقاب على كل فعل.

وأيّا كانت تفسيرات العقل لما عشناه منذ أيام مع ظاهرة البراكين وما سببته للناس من كساد، وفساد، وما عاشته الإنسانية من قبل مع ظواهر الفيضانات والزلازل، وما أحدثته من خسائر ومصائر، يجب أن تكون حافزا لذوي العقول المتبصّرة، في أن تحسن الإصغاء لدروس ظواهر الكون، فتربطها، بالقيم الأخلاقية، وأهمها ضرورة تحرير الإنسان من الأنانية، والغطرسة، وظلم أخيه الإنسان. وكما يقول أحد المفكرين “لو لم يكن الله موجودا، لأوجدناه، لأن وجود الله يرمز إلى الخير، ويعصم من الزلل، ويخفف من المعاناة في أوقات الشدة”. ترى ماذا تعني تلك الحمم الممزوجة بالنار، والتي كان يقذفها بركان إيسلاندا، ممثلة في ركام الدخان وشظايا النار؟

إن السواد الذي غشي سماء بلدان أوروبا وبعض بلدان إفريقيا، فحول نهارها إلى ليل، وضياءها إلى ظلام، قد زرع الخوف في نفوس الجميع، والهلع في عقولهم، مما جعلهم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون.

فمأساة الإنسان المعاصر اليوم في الغرب، أنه يعيش ألغازا لا يجد لها تفسيرا، ويواجه أسئلة لا يجد لها ـ لقصور في عقله، وجحود في إيمانه ـ إجابات مقنعة، مما حوّل حياته إلى طلاسم… ليت شعري، متى يفيق الإنسان الغربي المعاصر، من عربدة الحداثة التي أوقعته في هذا السكر القاتل، فجعلته يتمايل ذات اليمين، وذات الشمال، بحثا عن ملاذ آمن يقيه أشكال التدنّي الحيواني، والانحطاط الغريزي، باسم ما يسمونه بالحداثة.

وللّه دَرُّ الفيلسوف الفرنسي المتصوف روني غينون، عندما أخضع التراث العلمي الغربي للتحليل والتأمل، فوصف هذا التراث بأوهام العلم في الفكر الغربي الحديث من خلال كتابه “هيمنة الكم، ورموز الأزمنة”، وكم كان برغسن محقّا حين خرج على الناس بتساؤله الوجيه: “ماذا كان يحدث لو أن العلم الحديث، بدلا من أن ينطلق من الرياضيات ليتوجه نحو الميكانيك، وعلم الفلك، والفيزياء، والكيمياء، وبدلا من أن يوجه كل جهوده نحو دراسة المادة، بدأ بأخذ الروح بعين الاعتبار” (الطاقة الروحية، ترجمة علي مقلد، ص70).

إن تعاملنا مع الظواهر الكونية العجيبة، واستخدامنا للمفاهيم والمصطلحات الجاهزة، التي يصدّرها الغرب إلينا، قد جعلتنا نطمس معاني الوجود الحقيقي للزمن ورموزه، ونلهث خلف الكم حتى في تفسيرنا لمعاني الحياة.

لقد سرقت الظواهر الكونية المثقلة منّا، معنى الزمن، فجعلتنا نعيش في المنفى، وفي زمن غير زمننا. وإلا كيف نفسر الذهول الذي نحن فيه عن زمننا الصحيح. فلقد أظلنا شهر مايو، وهو شهر الدماء والدموع في الجزائر، كما يصفه الكاتب التونسي أبو القاسم محمد كرو، لقد حجبت سحب البركان الايسلاندي، وشظاياه عن عقولنا، معاني الرمزية في شهر مايو، فجعلتنا نذهل عن الخامس منه، وهو حدث تاريخي يبشر بإحياء الأمة، على يد ابن باديس وصحبه، بعد أن سقطت الدولة برموزها المادية.

كما أذهلتنا الكوارث الطبيعية عن العودة إلى الذات من خلال الثامن من مايو، الذي بعث بإشارات إحياء الدولة والأمة معا، بزرع شجرتها بدماء الشهداء، فجعلت شجرتها تزهر، وتؤتي أكلها في نوفمبر 1954.

وما يوم 15 مايو بغريب عن وعينا، وهو اليوم الذي يلهب فيه مشاعرنا بذكرى وعد بلفور، الذي “أعطى فيه من لا يملك، لمن لا يستحق”، وما يحمل هذا الوعد المشؤوم من مآسي التقتيل، والتشريد، والتقسيم الذي لازلنا نعاني آثاره إلى اليوم، ولا ننسى، ونحن في غمرة معاناة تبعات الزمن التاريخي، يوم الطالب ويوم الأستاذ، وهما يومان امتزج فيهما السالب بالموجب. فالسالب تمثل في إضراب الطلبة عن المدرسة الفرنسية، والصعود إلى الجبال والدخول في الكهوف والمغارات، ضمن السرية النضالية.

أما الموجب، فهو تعريف الإمام الإبراهيمي بالقضية الجزائرية، على صعيد المحافل الدولية، فكان البركان الروحي الذي هز أركان الاستعمار، وزلزل العالم من حوله… ويؤسفنا أن نرى أن تاريخنا المعاصر، قد حكم بضعف الطالب والمطلوب، وتلك هي نكسة التاريخ، عندنا ونكبة الإنسانية التي أصابها إعصار، فيه نار، فاحترقت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • يوسف

    بغيت الكتب تكون باللغة الفرنسية