-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلزم حدودك يا آلان بنتوليلا

لمباركية نوّار
  • 1910
  • 0
إلزم حدودك يا آلان بنتوليلا

يستبد بنا الألم مرّات، وتنتابنا الحسرة كرّات، وتجرّنا الحيرة إلى مآوي التألم الشديد لما نسمع أو نقرأ كلاما مؤذيا خلط سمن كلماته بسمّ زعاف، وأراد به صاحبه النيل من مدرستنا الوطنية، وحمل في مطاويه مكرا وخداعا، وزُفَّ في قوالب منمَّقة ظاهره النصح ومحبة الخير، وأما باطنه فلا يحوي سوى الشر المتطاير الذي يريد أن يدفع بمدرستنا قلعة هوّيتنا الوجودية والحضارية إلى مزالق العثرات ومهاوي الكبوات. 
يحمل الوجه البرّاني للعنوان الذي قدَّم به اللغوي الفرنسي آلان بنتوليلا نصيحته التي لم يطلبها منه أحدٌ إشفاقا على المدرسة الجزائرية وتعاطفا مع من يؤمُّونها. ولكنه يضمُّ في باطنه خدعة مدفونة حتى تبقى وعاءً معزولا عن قيم الأمة الجزائرية، ومجردة من مقوّمات الانتماء والإنية؛ ففي عدد مجلة “لوبوان” كتب مقالا، قدَّم له بلا خجل ولا حياء بالجمل التالية: (يدعو النشيدُ الوطني الجزائري إلى المطالبة بمساءلة فرنسا، ويبدو لي أنه من المناسب إجراء تحليل صارم لأحد الأسباب الرئيسية لسوء الفهم والجدل: سياسة اللغة قبل الاستعمار وبعده؛ بإحالة الجميع إلى مسؤولياتهم).
لا يعدُّ آلان بنتوليلا نكرة، وهو من زمرة الأقدام السوداء. وقد وُلد في الواحد والعشرين أفريل من سنة  1949م في الجزائر لما كانت تعيش زمنا صعبا فيه حفوف ومرارة، وضيق ونكد، وتئنّ تحت أنيار أبشع استخراب استيطاني عرفته البشرية، وهو الاستخراب الفرنسي الذميم والكريه. وتعرِّفه بعض الموسوعات على أنه باحث وعالم أكاديمي في اللسانيات، وصاحب عدة كتب مطبوعة. كما أنه تولى رئاسة وعضوية عدة مراكز بحثية في فرنسا. وهو أستاذ في جامعة باريس ديكارت.
في العدد الصادر يوم التاسع عشر جوان الماضي من المجلة الأسبوعية: ” Le Point” الفرنسية، وهي مجلة يصنف اتجاهها ضمن كتلة اليمين الوسط، وتحت عنوان استفزازي هو: “لماذا أخطأت الجزائر باستبدال الفرنسية بلغة القرآن؟”، كتب اللغوي الفرنسي المذكور مقالا أظهر فيه  تأسُّفه لاختيار الجزائر اللغةَ العربية في مدرستها بديلةً عن اللغة الفرنسية الدخيلة، ورفضت الاستفادة من غنيمة ملغمة.
بعد أن لمّح إلى قضية مقطع النشيد الوطني الجزائري الذي أعيد تثبيتُه بعد حذفه لتهز أبياته آذان الحاقدين وتُرعش طبلاتها، انتقل إلى الحديث عما يقلقه أكثر، ويرهق ذهنه وأعصابه في الليل والنهار، ويطرد السهاد من عينيه، وهو قضية لغة التعليم في المدرسة الجزائرية، وحشر أنفه في قضية لا تعنيه إطلاقا. وكتب ما يلي: (بداية، أريد التأكيد، حتى أبعِد أي شك بشأن الاستعمار الجديد، أنني لو كنت وزيرًا للتربية والتعليم في الجزائر، في فجر استقلالها، لكنت قررت من دون أدنى تردد أن تصبح اللغة العربية لغة التعليم والإدارة في البلاد، كانتقام عادل من التاريخ الاستعماري، ومن أجل رغبة عادلة في تكييف مدرسة مع لغة متعلميها ومواطنيها وثقافتهم. لكنني كنت سأختار الدّارجة الجزائرية لغةً للتعليم، لغةَ الشعب، وليس اللغة العربية الفصحى، أي لغة القرآن!).
لم يتوقف آلان  بنتوليلا الناصح غير الأمين عند حدود هذه “الفكرة” التي تفوح برائحة قذرة، وإنما تعدّاها ليحمّل اختيارَ اللغة العربية الفصحى لغة للتدريس في المدرسة الجزائرية أوزار الوصول إلى نتيجتين كارثينين، حسب رأيه. وتتمثل المضرة الأولى في دفع الطلاب الذين يتحدثون اللهجة العربية فقط أو البربرية إلى مدرسةٍ استقبلتهم باللغة العربية الكلاسيكية “الفصحى” التي لم يكونوا يفهمونها أثناء التخاطب بها. وأما النتيجة الثانية، فكانت أكثر خطورة وفداحة، هكذا ينظر هذا العالم اللغوي إلى هذا الاختيار، وتوهم، في رأي انطباعي أبتر وأجذم، أنه باختيار لغة القرآن، يكون المتعلم في المدرسة الجزائرية قد انحاز إلى تصور لغة تعليم تحرمه من حقه الأساسي في الفهم والتفسير، وتحصر حقه في القراءة؟.

 من أجل تكثيف الطعون للتشكيك في حضور اللغة الفصحى في المدرسة الجزائرية منذ السنة الأولى التي يلتحق فيها المتعلمون بمقاعدها، يزعم آلان  بنتوليلا أن الوصول إلى المدرسة في سن الخامسة أو السادسة والتواصل فيها بلغة لم يتعلمها من والدته هو “عنف لا يطاق بالنسبة للطفل”؟!.

يعلق أحدهم شارحا كلام آلان بنتوليلا قائلا: (أنه من خلال جعل اللغة العربية الحرفية لغة المدرسة الجزائرية، فبذلك تكون قد أقامت حاجزا يمنع التلاميذ من الإلمام بمضامين النصوص المقررة، ففرضُ لغة غير معروفة لأبنائها، يعني توجيه تعلّم القراءة نحو التلاوة ومن ثمة منعهم من التساؤل وخلق معنى النصوص. وتحوّل الاحترام العادل الناجم عن النص إلى خُنوع مخيف، إذ يصبح الفهم ذاته جريمة. وهكذا تم استبعاد التفسير من المدرسة الجزائرية ومعه النقد الهادئ والموضوعي للنصوص والخطابات سواء كانت علمانية أو مقدَّسة). وأردُّ من جهتي قائلا: ولو إطَّلع هذا اللغوي الفرنسي غير المنصف على مناهج التعليم في المدرسة الجزائرية لأدرك، لو كان حصيفا وعادلا، أن المقاربات المعتمدة قد تخطت الفهم بأميال وقفزت حتى وصلت إلى تخوم التفكير النقدي.
يرى صاحب المقال المسموم في تجريحه لهذا الاختيار الوطني أنه من خلال فرض اللغة العربية الفصحى، لم يتم تقديم لغة وطنية للشعب الجزائري كهدية للاستقلال، بل كانت نيرًا (النّير هو الخشبة المعترضة التي توضع فوق عنق الثور لجرّ المحراث أو العربة التقليدية) جديدًا فُرض عليه، ولا يستحي من القول: (استُبدلت لغة المستعمِر بلغة الدين، مع العواقب الكارثية نفسها على التكوين الفكري للشاب الجزائري. وباختصار، فقد أكملت اللغة العربية الفصحى “العمل القذر” الذي بدأته الفرنسية: فقد استثنت الفرنسيةُ لعقود جزءًا كبيرًا من المواطنين من مسارات النجاح الأكاديمي). ولنا أن نسأل: كيف عمَت عينا ألان بنتوليلا عن رؤية آلاف الخريجين الأكْفاء (بتسكين حرف الكاف وليس بكسْرها) من المدرسة الجزائرية الذين أثبتوا جدارتهم في كثير من البلدان أمام نظرائهم في كل الميادين بما في ذلك مجال الطب والرياضيات وعلوم الأحياء والإعلام الآلي وكل فنون التكنولوجيات الحديثة.

  .. ويواصل مجاهرا بالفحش في قوله: (إن العربية الجزائرية “الدّارجة” التي تزداد استقرارًا، وتعدّ أكثر تنظيماً، تستحق فرصة احتلال مناطق إدارية وتعليمية وسياسية وإعلامية بشكل كامل وفعّال). ولما يصرح بذلك في وقاحةٍ تتنكر للتاريخ، فإنه ينسى أو يتناسى عمدا المحاولات المتكررة للمربّين الفرنسيين بتوطين اللهجة الدارجة في المدرسة إبان فترة الاستعمار وتأليف كتبٍ كلماتها دارجة شعبية نُحتت بحروف عربية في حيلة لم تنطل على فطنة الجزائريين.

من أجل تكثيف الطعون للتشكيك في حضور اللغة الفصحى في المدرسة الجزائرية منذ السنة الأولى التي يلتحق فيها المتعلمون بمقاعدها، يزعم آلان  بنتوليلا أن الوصول إلى المدرسة في سن الخامسة أو السادسة والتواصل فيها بلغة لم يتعلمها من والدته هو “عنف لا يطاق بالنسبة للطفل”؟!.
يردف آلان بنتوليلا قائلاً: (إن البطاقة الفائزة للمدرسة الجزائرية اليوم هي التي تجمع، في تكامل يمحو دموع التاريخ، الدّارجةَ الجزائرية والفرنسية؟!). ويواصل مجاهرا بالفحش في قوله: (إن العربية الجزائرية “الدّارجة” التي تزداد استقرارًا، وتعدّ أكثر تنظيماً، تستحق فرصة احتلال مناطق إدارية وتعليمية وسياسية وإعلامية بشكل كامل وفعّال). ولما يصرح بذلك في وقاحةٍ تتنكر للتاريخ، فإنه ينسى أو يتناسى عمدا المحاولات المتكررة للمربّين الفرنسيين بتوطين اللهجة الدارجة في المدرسة إبان فترة الاستعمار وتأليف كتبٍ كلماتها دارجة شعبية نُحتت بحروف عربية في حيلة لم تنطل على فطنة الجزائريين. إلا أن هذه المحاولات البائسة والرثة أفضت إلى نتيجة معكوسة للأهداف المرسومة لها، وانتهت إلى خسران وضياع ما لهما نظير.
لم يعد خافيا أن نصيحة آلان بنتوليلا ترمي إلى فسح المجال أمام اللغة الفرنسية لكي تجد المجال مفتوحا حتى يطول ويعمّر وجودها في أرض الجزائر مما يسهِّل خدمة الاستخراب الثقافي في كل مجالات الحياة الاجتماعية، وتسود لغته في الإنتاج الفكري والأدبي والثقافي بصورة عامة. ولا يتورع كاتبُ المقال من القول بلا حشمة أو حياء: (يمكن أن تصبح الفرنسية بالنسبة لجميع الجزائريين لغة الانفتاح على الفضاء الأوروبي). وهذا هو بيت القصيد ومكمن الهدف الرئيس المتوخى، أي إبقاء السّرر (السرر هو الحبل السُّري في لغة الأقدمين) موصولا بعدو الأمس.
يعتبر رأي آلان  بنتوليلا أن الجزائر شريكٌ يجب أن تتم معه إصلاحاتٌ عميقة لتعلُّم واستخدام القراءة والكتابة من أجل تكوين “قرَّاء مقاومين” يعرفون كيفية ممارسة حقوقهم والاضطلاع بواجباتهم. وحسبه، فإن التعلم يمر من خلال تمييز واضح بين لغة التعلم ولغة القرآن، وبين لغة الفكر الحر ولغة الخضوع، وبين تربية الفهم ولغة فك الشفرات واستنطاق الترميزات. ومقابل هذه الشطحات، ندرك شدة قِصر ذاكرة صاحبها. ولا أحد يجيز له نسيان أن كبار المقاومين الذين أذلوا فرنسا الاستخرابية في الثورة التحريرية قد تخرّجوا من كتاتيب القرآن الكريم والمساجد والزوايا ومدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وهي قلاع تربية وتعلم كانت تسود فيها اللغة العربية الفصحى، ولا أثر فيها للّهجة الدارجة أو للّغة الفرنسية، فكم يحتاح آلان بنتوليلا إلى استدراكات لإعادة تلقينه أبسط دروس التاريخ القريب. ولكن العقل الاستخرابي المثقوب هو عقلٌ بليد وجاف، ولا يقدر على اقتباس العبر والعظات من التاريخ على الوجه السليم.

  لا يتورع كاتبُ المقال من القول بلا حشمة أو حياء: (يمكن أن تصبح الفرنسية بالنسبة لجميع الجزائريين لغة الانفتاح على الفضاء الأوروبي). وهذا هو بيت القصيد ومكمن الهدف الرئيس المتوخى، أي إبقاء السّرر (السرر هو الحبل السُّري في لغة الأقدمين) موصولا بعدو الأمس.

من حق السيد بنتوليلا أن يدافع عن اللغة الفرنسية، وأن يعمل بكل جهده وطاقته الفكرية في سبيل ترقيتها في المخاطبة والاستعمال اليومي، وأن يحث على النهوض بها كلغة تعليم في المدارس والجامعات الفرنسية، ولكن ليس من حقه أن يتدخل فيما لا يعنيه ولو من باب تقديم النصيحة إلى القائمين على شؤون المدرسة الوطنية الجزائرية.
على السيد بنتوليلا أن يعلم أن وزارة التربية في الجزائر لم تتنازل عن صفة “الوطنية” التي لازمت تسميتها كالوشمة منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا. وظلت تسمى “وزارة التربية الوطنية”. وتعني صفة “الوطنية” أنها مدرسة أصيلة، وراسخة الجذور، وضاربة في عمق أعماق التاريخ، ومتشبِّثة بكل المقوّمات التي تؤكد تمايزها واستقلالها، وترفض كل وصاية أو إملاء ولو غُلفت بغلاف النصيحة البراق لتمريرها؛ لأنها تعرف أن عدو الأمس الظلوم الذي اقترف في حقنا كل الجرائم لا يمكن أن يغيِّر جلده، وأن يصبح بين عشية وضحاها صديقا حميما يحب لنا الخير ويوجِّهنا إلى مكامنه.
على السيد بنتوليلا، إن كان رجل علم بحق، أن يخجل من نفسه، وان يراجع أقواله، وأن لا يتردد في تقديم اعتذاره عن هذه الإساءة البالغة، وأن يلتزم حدوده، وأن يمضمض فاه سبع مرات آخرها بالتراب أو بالرماد قبل أن يتحدث عن المدرسة الوطنية الجزائرية. وأما إن تمادى في غيِّه في بلاهة كالبلهوان الطائش أو كالأحمق النزق، فإننا سنظل نردد على مسمعه ما أغاظه وفجَّر مكنون غضبه، وهو مقطع نشيد “قسما” الخالد:
(يا فرنسا قد مضى وقت العتاب.. وطويناه كما يطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب.. فاستعدي وخذي منا الجواب..
إن في ثورتنا فصل الخطاب.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر).
وليعلم أن وجود اللغة العربية في قلب وجوارح المدرسة الجزائرية هو جزء من حياة الجزائر كلها. وعاش من عرف قدره.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!