-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

إلى أين نحن ذاهبون؟

محمد سليم قلالة
  • 3977
  • 12
إلى أين نحن ذاهبون؟

“إلى أين نحن ذاهبون” سؤال يطرحه كل من يريد أن يصوغ رؤية استشرافية، إما ينطلق من معطيات الحاضر لتصور السيناريو المستقبلي الذي ينتظره، وتُسمى هذه المنهجية بالاستشراف الاستكشافي، أو يقوم بصياغة تصور محتمل للمستقبل، ويعود من خلاله إلى الحاضر ليعرف كيف ينبغي عليه أن يعمل، وتسمى هذه المقاربة بالاستشراف المعياري، فهل يبدو من خلال الواقع الذي نعيش أننا نقوم بهذه أو تلك لرسم معالم المستقبل؟ أم نحن بعيدون كل البعد عن كليهما ونسير على غير هدي باتجاه المجهول؟

مهما حاولنا أن نجد عناصر تفكير تقول بأننا ننطلق من معطيات الحاضر لنرسم بدائل المستقبل، ومهما حاولنا أن نجد العكس أي مكونات صورة عن ما نريد بهذه البلاد، ونسعى للتأثير في الحاضر لأجل بلوغ ذلك، تكون محاولتنا عبثية، لأن كل المؤشرات تدل أن ليس هناك من يمتلك لا هذه المنهجية ولا تلك المقاربة، إلا إذا كان في حدود أهداف محددة تتعلق بمصالح آنية غالبا ما تكون ذات علاقة بامتلاك الثروة أو السلطة أو النفوذ. لا نتصور أن هناك من كلف نفسه عناء جمع كافة عناصر ومكونات المشهد المستقبلي للبلاد، انطلاقا من معطيات الحاضر أو من تصور للمستقبل يمتلكه مهما كان مثاليا…

في السنوات الأولى للاستقلال كانت لدينا تطلعات، مهما اختلفنا بشأنها، كنا نسعى من خلالها لبناء الدولة الاشتراكية التي”لا رجعة فيها”، وكان لهذا الطرح خلفياته الإيديولوجية وتقاطعاته السالبة والموجبة مع تراثنا التاريخي، وكانت هذه التطلعات مرتبطة بقيادة كانت لديها مصداقية مستمدة من تاريخيها الثوري النظيف يرمز لها الرئيس الراحل هواري بومدين.. لماذا فشلت هذه التطلعات؟ لماذا كانت أطروحاتها لا تستطع تقديم  إجابة صحيحة عن سؤال أين نحن ذاهبون؟

  يبدو أن تفسير ذلك يعود إلى أن الخيار الاشتراكي كان منضويا تحت إطار سياسات ردة الفعل، لم يكن استباقا أو استحداثا له، كان نتيجة رفضٍ آلي للنظام الرأسمالي الذي عانى منه الشعب الجزائري في شكل استعمار استيطاني دام أكثر من قرن وثلاثين سنة.. ولأن الخيار اندرج استراتيجيا ضمن ردود الأفعال، لم يكن أمامه سوى أن يفشل بانتهاء الفعل الدافع له أو ضعفه مع مر الأيام، وهو ما حدث في الواقع، فبمجرد أن بدأت منظومة الدول الاشتراكية تتهاوى، بدأت انعكاسات ذلك تتجلى لدينا، إلى أن انتهى الأمر بالتراجع النهائي “الذي لا رجعة فيه” عن الخيار الاشتراكي الذي نص أول دستور لنا أنه غير قابل للتعديل.

ولعل ما حصل بالأمس يتكرر اليوم مع الديمقراطية، فهي خيار آخر”لارجعة فيه”، جدواها للمجتمع مسألة غير قابلة للمناقشة، هل من يجرؤ الآن على  جعل الديمقراطية محل سؤال؟ هل يُقبل من أي كان أن يجهر بالقول أنه يعتبر الخيارات الديمقراطية خيارات فاسدة؟ ولو كما قال أفلاطون ذات يوم إنها “نظام فاسد” لأنها تسمح لعديمي الكفاءة من الرعاع للوصول إلى سدة الحكم، التي ينبغي أن تبقى من اختصاص أهل الحكمة والفلاسفة؟ لا أظن أن ذلك ممكنا، وإن حدث على الصعيد المحلي فسيواجه بكل قوة على الصعيد العالمي قد تصل إلى درجة الحرب.

فهل نحن بصدد الإجابة عن ذات السؤال إجابة خاطئة مرة أخرى؟ هل الخيارات اليوم التي نعلن أنها خياراتنا، ولو شكليا:”الديمقراطية، حقوق الإنسان، حرية التعبير…” لن يكون مصيرها سوى مصير الاشتراكية لأنها هي الأخرى مندرجة ضمن ردود الفعل، لا الاستباق والاستحداث؟

التحليل الموضوعي يقول بذلك: أن خياراتنا اليوم، بما في ذلك الديمقراطية والتعددية والليبرالية، وما ارتبط بها من قيم… ليست خيارات مبنية على استشراف استكشافي أو معياري نتج عن إرهاصات فكرية وسياسية نابعة من الداخل، إنما هي خيارات فرضت نفسها كردود أفعال لتطور حاصل في النظام العالمي الرأسمالي الغربي، ليس لنا إسهام حقيقي فيه، ولذلك تجدها لا تعرف التبني الحقيقي والتفاعل اللازم من قبل الناس، وهي باستمرار محل سؤال: ماذا أفادتنا وإلى أين ستقودنا؟ ومن ثم فلا اندماج حقيقي معها إلا من حيث الصورة والشكل ومسايرة العالم في ما يفعل.

وهو ما يتجلى بوضوح في شعورنا بأننا لا نعيش الديمقراطية حقيقة، ولا الليبرالية حقيقة، ولا أي نظام آخر حقيقة، إنما نحن تائهون بين خيارات تتبدل أمامنا بالقدر الذي يؤثر فيها الآخرون، وفي ظل ذلك لا يبقى أمامنا سوى أن نغتنم اللحظة ونعيشها كما هي من غير أية اعتبارات أخلاقية أو قيمية أو دينية. وهو ما يحدث على أكثر من صعيد: صاحب المال لا يدري الغاية من الحصول عليه، والذي ينجز المباني لا يستطيع أن يعطيها الروح التي يريد، والقائم على التعليم لا يحس بأنه مندرج ضمن مشروع رؤية، وقس على ذلك الطالب، وهو يدرس أو الفلاح وهو يزرع أو العامل وهو ينتج.. تحس أنهم جميعا إنما يشتغلون في نطاق ما سماه مالك بني نبي رحمه الله بـ”التكديس”: تكديس الثروة والمباني والسيارات والطلبة والتلاميذ في الأقسام والنواب في البرلمان والأحزاب والوزراء في الحكومة وما إلى ذلك… من غير ديناميكية تربط بينهم في نطاق مشروع مستقبلي يسعى المجتمع والدولة لبلوغه، لأن هذا المشروع غير موجود بالأساس.

وعليه فإننا ينبغي أن لا نستهين بالإجابة عن هذا السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ وينبغي أن يتحمل من وضعوا أنفسهم في المستويات العليا من اتخاذ القرار مسؤولية ما يقومون به من تسيير لردود أفعال لمدة تزيد عن الخمسين سنة دون إدراك، في غالب الأمر، أنهم يقومون بذلك، ويمنعون المجتمع والدولة من أن تخطو خطوات ثابتة مندرجة ضمن رؤية إستراتيجية مدروسة ومحددة المعالم وقائمة على مشروع مستقبلي نابع من الفعل الداخلي لا من ردود الأفعال الخارجية.

وهو ما ينبغي علينا اليوم المشاركة جميعا في صوغه، إن مشكلتنا في الجزائر ليست في نقص الإمكانيات أو القدرات أو الوسائل المادية إنما في عدم قدرتنا على تجميع عناصر رؤية مستقبلية إن كانت استكشافية أو معيارية، لا يهم، المهم أن تكون الرؤية التي نصوغها هي رؤيتنا الفاعلة وليست القائمة على الاستجابة لحاجات الآخرين، إننا نعلم أن قوى دولية كبرى لن يخدمها أن نتحرك وفق هذه المنهجية المستقلة، وقد تستشعر الخطر من ذلك، ولكن مصالحنا تقتضي أن لا ننحاز إلا لهذا الطرح إذا أردنا أن نستعيد مكانتنا كدولة، لا أن نتحوّل إلى إقليم يشكل امتدادا لمصالح عدة دول.. وإذا أردنا أن نحافظ على شخصيتنا المحلية والإقليمية، وعلى عمقنا التاريخي وامتدادنا الحضاري، لا أن نصبح ذلك الشعب الممسوخ الذي لا هُوية له المنسلخ عن جلده، كما يسعى البعض إلى أن نكون.

 

وأظن أننا نمتلك كل المؤهلات التي تمكننا من أن نحدد بأنفسنا الطريق الذي نسير فيه، فقط المطلوب هو أن نتحرك كفاعلين في أي مستوى نكون، لا كمستجيبين لأفعال الآخرين.. ولدينا في دول عدة المثال الحي على أنها استطاعت أن تكون كما أرادت، لا كما أراد لها الآخرون أن تكون (الصين، ماليزيا، إيران، جنوب إفريقيا…الخ) لأنها أجابت بوضوح عن السؤال الآنف الذكر من غير غش أو نقل أو تقليد…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
12
  • عبدالرزاق

    سؤال أين نحن ذاهبون؟ / سؤال نرويه في دكرى وفات هواري بومدين رحمه الله , بوتفليقة كان في جولة بالعاصمة مع هواري بومدين في سيارة كان هو السائق ولما وصل الى مفترق الطريق ساْل بوتفليقة هواري بومدين الى اين سندهب ؟ اجابه هواري بومدين ... ضع مؤشر السيارة نحو اليمين واتجه نحو اليسار .
    اتمنى ان تكون الفكرة وصلت

  • SLIM

    تائهون ، و سنبقى تائهين ما دمنا نطبق الأنظمة التي يؤثر فيها الأخرون وبالمقابل لا نؤمن بأي مشروع مهما كان نوعه .

  • محمد النذير

    سيدي الكريم أقول لك مثال بسيط ، أنا معلم في الإبتدائي منذ أكثر من ربع قرن كل الندوات التي حضرتها أو أطرتها وكل زيارات التفتيش و المراقبة تحث وتلح على ضرورة التحضير ضرورة حتمية والتحضير هو في الحقيقة رسم خطة مسبقا لكل درس تريد تقديمه لتلاميذك وأساس كل خطة هو : المنهجية و الهدف ، كان لدينا مفتش رحمه الله يقول دائما : إذا لم تحضر درسك جيدا تلبس مأزرك وتقف أمام تلاميذه و كأنك تقود سيارة بدون مقود، لأنك في الحقيقة تقود سيارة في طريق غير معلوم و لا تعرف الى أين تتجه يعني معدوم الخطة و الهدف مبهم .

  • نبيل

    إلى أين نحن ذاهبون؟
    الإجابة:
    نحن على متن مركبة تسير في منحدر بسرعة فائقة دون قائد قادر ولا محرك ولا حتى مكابح. هناك منعرجات خطيرة في المنحدر وهاوية سحيقة، لن نسلم إلا بمعجزة من عند الله.

  • قادة

    ما دام نعيش في سياسة اعطيني فاهم والله لا قرى و الاهتمام بالجلد المنفوخ اكثر من اصحاب العقولمن العلماءفي امور الدنيا والدين.بلاد يمكن فيها لاشباه مثقفين ينشؤون وزارةالاستشراف وبعد بضعةاسابيع تعدل الحكومةوتصبح تلك الوزارة في خبركان.نعيش تحت نظام لا يعطى ادنى احترام للتربيةوالتعليم والتي اصبحت حقل تجارب النشأفئرانه جرب فيها كل شيءعدا هل هي تنتج حقيقةالانسان المواطن الصالح المتعلم الذي يمكننا به نستشرف المستقبل؟اما"إلى أين نحن ذاهبون"فبهذا الفكرالغير سليم سذهب من دون شك باتجاه مجهول

  • بدون اسم

    للأسف نحن نسير "دعوها فإنها مأمورة"...كما قال عليه الصلاة و السلام عن الناقة في الهجرة نحو المدينة...

  • ناصر التميمي

    السلام عليكم و رحمة الله و بركاته. هل انتم مستعدون لمعرفة الجواب ان كان كذالك فتلميذكم مستعد لمناقشة دراسة علمية واقعية بادلة دامغة بعيدة عن الديماغوية و البراغماتية السلطوية و الحزبية . و يكفي ان تضغطوا على ازرار هاتفكم لتحددو موعدا يناسب اجندكم لعرضها خدمة للوطن و الامة . نسال الله ان يلهمنا رشدنا و عم ديننا و يسدد خطانا انه على دلك قدير و بالاجابة جدير و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

  • ناصر التميمي

    السلام عليكم سيدى .. هل انتم مستعدون لمناقشة دراسة مستقبلية بادلة دامغة شرعية و واقعية بعيدة عن اللافتراضية و اليماغوجية و كذا البراغماتية سواء حزبية او سلطوية او ما شابه . تلميذكم فى خدمتكم و خدمة وطنه و امته لا تجهد نفسك يكفى ان تضغط عاى ازرار هاتفك لترتيب موعد يناسب اجندتك على رقم 0791679924. الكرة فى مرماكم و السلام

  • محمد

    والله كلام علمي جميل جدا، فلابد ان يعلم اي مواطن جزائري ان اي انسان على هذه الارض يسال نفسه الى اين يريد الوصول وبالتالي ماذا يجب فعله وما هي الخطة المتبعة للوصول الى الاهداف فما بالك بالدولة، فحسب اعتقادي الدول المتقدمة لم تكن لتتطور لولا الاداف والخطط الاستراتيجية للمستقبل -هندسة المستقبل- فنحن في الجزائر تائهون كلنا وهذه محاولة مني للاجابة على سؤال مقدمتك، وسؤالي لك استاذي المحترم هو إلى متى ونحن تائهون؟ فهل هو قدر علينا؟ ام نحن من نريد ان نبقى تائهين....فلمصلحة من؟ شكرا استاذ على المقالة .

  • ابراهيم طوبال معمر

    باسم الله اما بعد باختصار شديد انت يا اخي العزيز سليم و الهرم العملاق المنسى قد اجبتما عن سؤلكم.المشروع المستقبلي غير موجود بالاساس.يكفي هذا

  • االطاهر

    من ينتبه الى ما تقول يا سيدي..العوام ام النخب التي اسلمت امرها..فغدا الجميع في سلة المهلات الحضارية....الا ترى معي اننا لا نحسن الا سرد المشكلات ..كم هي ممتعة ثرثراتنا ونحن نرتشف فناجيين القهوة...! لكننا عاجزون تماما عن ايجاد الحلول..اما النهوض بها فتلك اكبر من اختها....هذا حالنا..وان شئت اعد قراءة مقالك..سرد المشكلة استهلك المقال كله...اما حلها فلا يزال يستدعي التفكير...
    شكرا لك ....

  • الجزائرية

    "من غير ديناميكية تربط بينهم في نطاق مشروع مستقبلي يسعى المجتمع والدولة لبلوغه، لأن هذا المشروع غير موجود بالأساس."نعود دائما السيد قلالة إلى نفس الفكرة و هي أن السياسي يحسم المواقف وفق القضايا المطروحة سلبا أو إيجابا حسب ما تقتضيه الظروف الآنية .أما صياغة المشروع المجتمعي المتكامل حضاريا و تحديد الإستراتيجيات الداخلية و الخارجية للأمة و التفاف الكل من أجل تحقيقها فتعود للمثقفين و المفكرين و ما يقدمونه من خلالمنظومة فكرية متسقة بعيدة عن الصراعات الضيقة و الولاء الحزبي بل أكاديمية محايدة .