الرأي

إلى أين نحن ذاهبون؟

محمد سليم قلالة
  • 3980
  • 12

“إلى أين نحن ذاهبون” سؤال يطرحه كل من يريد أن يصوغ رؤية استشرافية، إما ينطلق من معطيات الحاضر لتصور السيناريو المستقبلي الذي ينتظره، وتُسمى هذه المنهجية بالاستشراف الاستكشافي، أو يقوم بصياغة تصور محتمل للمستقبل، ويعود من خلاله إلى الحاضر ليعرف كيف ينبغي عليه أن يعمل، وتسمى هذه المقاربة بالاستشراف المعياري، فهل يبدو من خلال الواقع الذي نعيش أننا نقوم بهذه أو تلك لرسم معالم المستقبل؟ أم نحن بعيدون كل البعد عن كليهما ونسير على غير هدي باتجاه المجهول؟

مهما حاولنا أن نجد عناصر تفكير تقول بأننا ننطلق من معطيات الحاضر لنرسم بدائل المستقبل، ومهما حاولنا أن نجد العكس أي مكونات صورة عن ما نريد بهذه البلاد، ونسعى للتأثير في الحاضر لأجل بلوغ ذلك، تكون محاولتنا عبثية، لأن كل المؤشرات تدل أن ليس هناك من يمتلك لا هذه المنهجية ولا تلك المقاربة، إلا إذا كان في حدود أهداف محددة تتعلق بمصالح آنية غالبا ما تكون ذات علاقة بامتلاك الثروة أو السلطة أو النفوذ. لا نتصور أن هناك من كلف نفسه عناء جمع كافة عناصر ومكونات المشهد المستقبلي للبلاد، انطلاقا من معطيات الحاضر أو من تصور للمستقبل يمتلكه مهما كان مثاليا…

في السنوات الأولى للاستقلال كانت لدينا تطلعات، مهما اختلفنا بشأنها، كنا نسعى من خلالها لبناء الدولة الاشتراكية التي”لا رجعة فيها”، وكان لهذا الطرح خلفياته الإيديولوجية وتقاطعاته السالبة والموجبة مع تراثنا التاريخي، وكانت هذه التطلعات مرتبطة بقيادة كانت لديها مصداقية مستمدة من تاريخيها الثوري النظيف يرمز لها الرئيس الراحل هواري بومدين.. لماذا فشلت هذه التطلعات؟ لماذا كانت أطروحاتها لا تستطع تقديم  إجابة صحيحة عن سؤال أين نحن ذاهبون؟

  يبدو أن تفسير ذلك يعود إلى أن الخيار الاشتراكي كان منضويا تحت إطار سياسات ردة الفعل، لم يكن استباقا أو استحداثا له، كان نتيجة رفضٍ آلي للنظام الرأسمالي الذي عانى منه الشعب الجزائري في شكل استعمار استيطاني دام أكثر من قرن وثلاثين سنة.. ولأن الخيار اندرج استراتيجيا ضمن ردود الأفعال، لم يكن أمامه سوى أن يفشل بانتهاء الفعل الدافع له أو ضعفه مع مر الأيام، وهو ما حدث في الواقع، فبمجرد أن بدأت منظومة الدول الاشتراكية تتهاوى، بدأت انعكاسات ذلك تتجلى لدينا، إلى أن انتهى الأمر بالتراجع النهائي “الذي لا رجعة فيه” عن الخيار الاشتراكي الذي نص أول دستور لنا أنه غير قابل للتعديل.

ولعل ما حصل بالأمس يتكرر اليوم مع الديمقراطية، فهي خيار آخر”لارجعة فيه”، جدواها للمجتمع مسألة غير قابلة للمناقشة، هل من يجرؤ الآن على  جعل الديمقراطية محل سؤال؟ هل يُقبل من أي كان أن يجهر بالقول أنه يعتبر الخيارات الديمقراطية خيارات فاسدة؟ ولو كما قال أفلاطون ذات يوم إنها “نظام فاسد” لأنها تسمح لعديمي الكفاءة من الرعاع للوصول إلى سدة الحكم، التي ينبغي أن تبقى من اختصاص أهل الحكمة والفلاسفة؟ لا أظن أن ذلك ممكنا، وإن حدث على الصعيد المحلي فسيواجه بكل قوة على الصعيد العالمي قد تصل إلى درجة الحرب.

فهل نحن بصدد الإجابة عن ذات السؤال إجابة خاطئة مرة أخرى؟ هل الخيارات اليوم التي نعلن أنها خياراتنا، ولو شكليا:”الديمقراطية، حقوق الإنسان، حرية التعبير…” لن يكون مصيرها سوى مصير الاشتراكية لأنها هي الأخرى مندرجة ضمن ردود الفعل، لا الاستباق والاستحداث؟

التحليل الموضوعي يقول بذلك: أن خياراتنا اليوم، بما في ذلك الديمقراطية والتعددية والليبرالية، وما ارتبط بها من قيم… ليست خيارات مبنية على استشراف استكشافي أو معياري نتج عن إرهاصات فكرية وسياسية نابعة من الداخل، إنما هي خيارات فرضت نفسها كردود أفعال لتطور حاصل في النظام العالمي الرأسمالي الغربي، ليس لنا إسهام حقيقي فيه، ولذلك تجدها لا تعرف التبني الحقيقي والتفاعل اللازم من قبل الناس، وهي باستمرار محل سؤال: ماذا أفادتنا وإلى أين ستقودنا؟ ومن ثم فلا اندماج حقيقي معها إلا من حيث الصورة والشكل ومسايرة العالم في ما يفعل.

وهو ما يتجلى بوضوح في شعورنا بأننا لا نعيش الديمقراطية حقيقة، ولا الليبرالية حقيقة، ولا أي نظام آخر حقيقة، إنما نحن تائهون بين خيارات تتبدل أمامنا بالقدر الذي يؤثر فيها الآخرون، وفي ظل ذلك لا يبقى أمامنا سوى أن نغتنم اللحظة ونعيشها كما هي من غير أية اعتبارات أخلاقية أو قيمية أو دينية. وهو ما يحدث على أكثر من صعيد: صاحب المال لا يدري الغاية من الحصول عليه، والذي ينجز المباني لا يستطيع أن يعطيها الروح التي يريد، والقائم على التعليم لا يحس بأنه مندرج ضمن مشروع رؤية، وقس على ذلك الطالب، وهو يدرس أو الفلاح وهو يزرع أو العامل وهو ينتج.. تحس أنهم جميعا إنما يشتغلون في نطاق ما سماه مالك بني نبي رحمه الله بـ”التكديس”: تكديس الثروة والمباني والسيارات والطلبة والتلاميذ في الأقسام والنواب في البرلمان والأحزاب والوزراء في الحكومة وما إلى ذلك… من غير ديناميكية تربط بينهم في نطاق مشروع مستقبلي يسعى المجتمع والدولة لبلوغه، لأن هذا المشروع غير موجود بالأساس.

وعليه فإننا ينبغي أن لا نستهين بالإجابة عن هذا السؤال: إلى أين نحن ذاهبون؟ وينبغي أن يتحمل من وضعوا أنفسهم في المستويات العليا من اتخاذ القرار مسؤولية ما يقومون به من تسيير لردود أفعال لمدة تزيد عن الخمسين سنة دون إدراك، في غالب الأمر، أنهم يقومون بذلك، ويمنعون المجتمع والدولة من أن تخطو خطوات ثابتة مندرجة ضمن رؤية إستراتيجية مدروسة ومحددة المعالم وقائمة على مشروع مستقبلي نابع من الفعل الداخلي لا من ردود الأفعال الخارجية.

وهو ما ينبغي علينا اليوم المشاركة جميعا في صوغه، إن مشكلتنا في الجزائر ليست في نقص الإمكانيات أو القدرات أو الوسائل المادية إنما في عدم قدرتنا على تجميع عناصر رؤية مستقبلية إن كانت استكشافية أو معيارية، لا يهم، المهم أن تكون الرؤية التي نصوغها هي رؤيتنا الفاعلة وليست القائمة على الاستجابة لحاجات الآخرين، إننا نعلم أن قوى دولية كبرى لن يخدمها أن نتحرك وفق هذه المنهجية المستقلة، وقد تستشعر الخطر من ذلك، ولكن مصالحنا تقتضي أن لا ننحاز إلا لهذا الطرح إذا أردنا أن نستعيد مكانتنا كدولة، لا أن نتحوّل إلى إقليم يشكل امتدادا لمصالح عدة دول.. وإذا أردنا أن نحافظ على شخصيتنا المحلية والإقليمية، وعلى عمقنا التاريخي وامتدادنا الحضاري، لا أن نصبح ذلك الشعب الممسوخ الذي لا هُوية له المنسلخ عن جلده، كما يسعى البعض إلى أن نكون.

 

وأظن أننا نمتلك كل المؤهلات التي تمكننا من أن نحدد بأنفسنا الطريق الذي نسير فيه، فقط المطلوب هو أن نتحرك كفاعلين في أي مستوى نكون، لا كمستجيبين لأفعال الآخرين.. ولدينا في دول عدة المثال الحي على أنها استطاعت أن تكون كما أرادت، لا كما أراد لها الآخرون أن تكون (الصين، ماليزيا، إيران، جنوب إفريقيا…الخ) لأنها أجابت بوضوح عن السؤال الآنف الذكر من غير غش أو نقل أو تقليد…

مقالات ذات صلة