الرأي

إنه الاقتصاد يا غبيّ!

ح.م

يعود عنوان هذه المقالة إلى الحملة الرئاسية الساخنة في أمريكا عام 1992، بين جورج بوش الأب، والذي طمح إلى نيل عهدة ثانية، ومنافسه بيل كلينتون، ذلك الشاب الديمقراطي المتطلع إلى دخول البيت الأبيض.

وتوقع الكثيرون وقتها فوز الأول بسبب خبرته الطويلة ومعايشته لتطورات سياسية مفصلية، مثل نهاية الحرب الباردة وحرب الخليج، غير أنّ كلينتون قلَّب المعادلة، بفضل قيادة مستشاره جيمس كارفيل للحملة بشعار “إنه الاقتصاد يا غبي”، كوْن بوش لم يولِ الملف اهتمامًا كافيًا، ما عرّض الاقتصاد الأمريكي لموجةٍ من الكساد.

اليوم، وفي غمرة الحملة الدعائية بين المترشحين الخمسة لموعد 12/12، يتذكر الجزائريون فحوى ذلك الشعار الشهير، لأنّ تطلعات المواطنين في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية مرتبطة ارتباطا وثيقا بتفعيل عجلة الاقتصاد وصناعة التنمية وتحقيق النمو وخلق الثروة.

وبهذا الصدد، يمكن تسجيل مسألة لافتة في البرامج الانتخابية، وهي أنّ البُعد الاقتصادي استحوذ على مساحة كبيرة منها، حتى قدّره خبراء بحدود 70 بالمائة من حجم الأفكار المعروضة على الناخبين، ولا شكّ أن ذلك يعد مؤشرا إيجابيّا، على الأقل من الجانب الشكلي، قبل الخوض في التفصيل.

وفي تقديرنا، فإنّ العناية بالملفات الاقتصادية في مخاطبة الناخبين من قبل فرسان السباق الرئاسي تعكس وعيًا برهانات المرحلة من جهة، واحتراما لذكاء المواطن الجزائري من جهة أخرى.

غير أن السلبية التي عكّرت صفو ذلك التطوّر هي تلك السطحية والإنشائية والعمومية وحتى الشعبويّة التي طغت على معظم الأفكار الاقتصادية، فقد جاءت في صورة مستهدفات وتطلعات هي أقرب إلى الأماني منها إلى الواقع.

لقد كان الأوْلى طرْح البرامج الاقتصادية ضمن سياسة واضحة المعالم ومندمجة الأبعاد، مبنية على الاستشراف الدقيق ولغة الأرقام والمؤشرات، وضمن آجال زمنية محددة للتنفيذ، تأخذ في الحسبان الموارد المادية والبشرية والمالية المتاحة وقواعد الحوكمة الإدارية الحديثة للتسيير الراشد.

لكن ما لاحظه الجميع هو الاتفاق على تشخيص الواقع الاقتصادي من المتنافسين، وتقديم جملة من الوعود المغرية لاستقطاب الناخب، من دون تفصيل في الآليات والإجراءات الكفيلة بتحقيق الإنجاز، وجعل المشاريع قابلة للتقييم والقياس لاحقا، فهي أهدافٌ هلاميّة وأحلام ورديّة.

ربما كان في وسع المتنافسين عرض عدد محدود جدا من الأفكار الواقعية والمفتاحيّة، لإحداث الإقلاع التنموي المنشود، ثمّ التركيز عليها، عوض التهافت الجماعي على الحشو الإنشائي واستنساخ كل ما يردُ على لسان الغير.

ولعلّ ذلك يترجم ضعف التجربة الديمقراطية والحزبية في بلادنا، حيث تتضاءل المقاربات العلمية والخطابات العقلانية، مقابل الطموح الجامح في بلوغ الحكم بدوافع غريزية، من دون امتلاك المنهجية والمقدرة على الاستجابة لتطلعات المواطنين وإيجاد حلول لانشغالاتهم اليومية.

كما تجسد العموميّات في مقاربة الوضع الاقتصادي هشاشة الرؤية الكليّة للملف، ناهيك عن افتقاد الممارسة السياسية للخبرة التخصُّصية أو ضعفها واعتمادها بشكل رئيس على المحيط التنظيمي، والأمر لا يقتصر على المتسابقين نحو المرادية، بل ينسحب كذلك على مسؤولي الدولة، فهم عادة متهمون من الخبراء بإدارة الشأن الاقتصادي وفق مقاربات سياسيّة وتهميش الرأي الآخر.

ومع النقص الفادح في رعاية الملفات الاقتصادية، فإنّ الاهتمام الشكلي بالموضوع خطوة على الطريق الصحيح، على أمل ترقيته مستقبلا بالتدقيق في الأولويات والتفصيل العملي.

قد تشفع للمرشحين الأزمةُ القائمة وحالة الانسداد التي تعيشها البلاد في بلورة خطابات تنزع نحو المناحي السياسية وتسليط الضوء على الإصلاحات القانونية والدستورية، باعتبارها سكّة الانطلاق الآمن لقطار التغيير، لأنّ فكّ عقدة الشرعية السياسية للسلطة هو المدخل الضروري لإصلاح كل القطاعات.

وفي كل الأحوال، فإنّ النأي الواضح بالنفس عن التراشق الإيديولوجي في الحملة، إلا في نطاق ضيِّق وضمن قضايا أساسية، يعدُّ كذلك مكسبًا في تطوير لغة التواصل السياسي وتنضيج التجربة الانتخابية، من خلال المنافسة الفكريّة بين التيارات والشخصيات المتسابقة، بعيدا عن منطق احتكار مقوِّمات الهويّة واستغلالها، سواء الدينية منها، أو الوطنية أو التاريخية.

مقالات ذات صلة