الرأي

“إنه عمر..”

في الأول من شهر أوت الفارط توجهت – صحبة الفاضل الأخ الأستاذ عبد الله عثامنية- تلقاء مدينة سطيف، تلبية لدعوة كريمة من إخوة كرام بررة في جمعية “الإخاء العلمي”، وهي جمعية نوى الإمام ابن باديس تأسيسها عام 1924، وعهد إلى أخيه الإمام الإبراهيمي بإعداد “قانونها الأساسي” ففعل، ولكن هذه الجمعية لم تظهر، ولكل أجل كتاب.. كان سبب الدعوة هو حضور ملتقى هذه الجمعية، وتكريم عالم قدير ومُربّ جليل هو الأستاذ بلحاج شريفي، نجل الشيخ “عدون”، وقابض قبضة من أثر الشيخ بيوض، أحد ركائز جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، رحمهم الله جميعا.

بعد الانتهاء من مراسم التكريم، والقيام بالأمرين اللذين لم يُعصيا كما يقول الإمام الإبراهيمي، وهما :”كُلوا واشربوا”، قمت وصاحبي في السفر بعد الله تعالى بجولة في الشارع الرئيس في المدينة، فوجدنا مكتبة فدخلناها، فوقعت عيناي على  كتاب للأستاذ الفاضل لحسن ابن علجية عنوانه: “الشيخ عمر دردور: سيرة ومسيرة”، فاشتريته، لأنني أعرف قيمة الكاتب والمكتوب عنه، وقد شغلني عن الكتابة عن الكتاب أمور، منها ما يشغل الناس جميعا من الهمّ في طلب العيش، ومنها التفكير في مستقبل بلدنا، الذي “يلعب” به من يحسبون أنفسهم على شيء، وهم – في الحقيقة – “كبار في العمر، صغار في العقل”. ونسأل الله – العلي القدير- أن يحفظ الجزائر من مكرهم وعبثهم… لأن لهم عيونا لا يبصرون بها ما يجري عن أيماننا وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، ولأن لهم آذانا لا يسمعون بها ما يقع في محيطنا، ويستهدف بلدنا، ولأن لهم “عقولا” لا يفقهون بها.. وهم يتصارعون على “وسخ الدنيا”، يحسبون أن ما أخذوه يُخلدهم، حتى إذا جاءهم اليقين، قالوا لله – عز وجل-: “أخرنا نعمل صالحا”.. والأستاذ لحسن ابن علجية هو”ناسك” عين التوتة في ولاية باتنة، وهو عن اللغو معرض، يعمر وقته بكل ما هو مفيد له ولبلده، ومنه التنقيب عن علماء الجزائر، والتعريف بهم، ليثبت بهم “أبناءها” الذين “يحڤروا سلعتها” كما يقول الشيخ أحمد حماني.. لم ألتق بالشيخ عمر دردور إلا مرات قليلة، وقد رأيت صورته وهو شاب في مجلة البصائر، إشادة به من الإمام ابن باديس، وتأملت محيّاه، فارتحت إليه، وأحببته..

لقد حبّب إليّ الشيخ عمر دردور أمور منها:

* انه “منتوج باديسي”، حيث قبض قبضة من آثر الإمام ابن باديس العلمي والعملي، فقد تلقى العلم عنه، ثم اصطفاه الإمام ليساعده في التدريس للأقل سنا وعلما، كما اختاره الإمام “نقيبا” على طلبة الأوراس، ثم عهد إليه بتكوين شُعب لجمعية العلماء في الأوراس، وكان في كل ما عُهد إليه به نعم “الجندي” لنعم القائد.. وقد بقي وفيا لإمامه، ولحركته الإصلاحية إلى أن لقي ربه. وتبدو قيمة الشيخ عمر دردور عند الإمام ابن باديس أنه ذات مرة استفسر زملاءه فلم ينبئه عنه أحد، فغضب الإمام وصرخ قائلا: “إنه عمر دردور” وكررها عدة مرات، ثم قال لهم:”أريد أن تكونوا جميعا مثل عمر دردور”. (لحسن ابن علجية: الشيخ عمر دردور: سيرة ومسيرة. ص 50).

* جانبه الوطني، فهو ككل أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يمزجون الدين بالوطن، ولو اقتصر عملهم على تعليم “الأمور الدينية” كما تفهمها فرنسا والسابحون في بحرها المسبحون بحمدها لما أصابهم ما أصابهم من بطشها، من ذلك سجنه في باتنة لأنه حرّض الناس على عدم الخوف من الموظفين الفرنسيين وأعوانهم الخونة، واصفا إياهم بأنهم “كلاب، وأكبر الكلاب هو حاكم أريس” (المرجع نفسه. ص 45).

وقد تنقل الإمام ابن باديس من قسنطينة إلى باتنة لحضور محاكمة الشيخ عمر…كما كان للشيخ عمر شرف دخول سجن “الكدية” في قسنطينة في 1937.

وعندما أزفت ساعة فرنسا باندلاع الجهاد كان الشيخ عمر من أول النّافرين في سبيل الله، وما كان لشخص مثل الشيخ عمر لينجو من سلطات فرنسا المجرمة، وقد نجاه الله ـ عز وجل ـ إلى أن انتقل إلى مصر عبر فرنسا، التي حفظه الله من كيدها وكيد الميصاليين.. وفي مصر ـ التي وصلها في جانفي 1956 ـ ألحق بمكتب الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني بالقاهرة “مكلفا بالمحاسبة والمالية”، وقد علق الدكتور سعد الله على نشاط الشيخ دردور قائلا:”لم يكن ـ الشيخ عمر ـ سياسيا محترفا، ولكن ظروف الثورة جعلته ينشط سياسيا، كان ابن الجزائر الأصيل، ونِتاج ابن باديس المصلح”. (المرجع نفسه. ص 60). وأحب أن أنبه إلى أن ثقة جبهة التحرير الوطني في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أوكلت إلى عضوين من أعضائها هما عباس التركي وعبد الرحمان اليعلاوي الإشراف على ماليتها عندما نقلت مركزه من القاهرة إلى دمشق.

وقد زادني معرفة بالشيخ عمر دردور نجله الأخ عبد السلام دردور، الذي أمضيت معه حولا ونصفه في غرفة واحدة في مدرسة تكوين الضباط الاحتياطيين بالبليدة في إطار الخدمة الوطنية.. وأشهد أن الأخ عبد السلام كان أعجوبة في الأخلاق الطيبة إلى درجة أنه لا يشعل المذياع إلا بعد استئذاني حتى لا يزعجني، وكان لا يراه الرائي إلا باسم الثغر، ضاحك القسمات، وضاح الجبين.. وكان كلامه أقرب إلى الهمس، كان تخصصه في المحركات النفاثة، ولكن “الأمخاخ” رأوا أن يعيّنوه قائد فصيلة من مهامه تدريب الطلبة: “نكب سلاحك، قدّم سلاحك، إلى الخلف در، إلى الأمام سر…”. ولما ولم تستفد منه الجزائر، قدم طلبا إلى كندا فأخذته “غنيمة باردة”، فتحية ـ عبر المحيط الأطلسي ـ أيها الأخ الأصيل، والصديق النبيل… وآخر ما سجلته للشيخ عمر دردور وقوفه ـ رغم الكبر والأمراض ـ مساندا للأخ العالم المجاهد الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في”الانتخابات الرئاسية، التي سيأتي يوم تكتب حقائقها غير المزورة…رحم الله الشيخ الجليل عمر دردور يوم ولد (1913)، ويوم أماته الله (2009) ويوم يبعث حيا. 

مقالات ذات صلة