-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“إينوغيسن”.. البلدة التي لا تخشى الوادي

“إينوغيسن”.. البلدة التي لا تخشى الوادي

استودع الأوائل الذين قطنوا “إينوغيسن” بلدتهم منطقة الأوراس الأوسط بعد أن اقتطعوا من أرضه مساحة خصّصوها لها، وألزموها الجلوس فيها كوديعة كما تجلس العروس بأثوابها في خدرها. ومن شدة حيائها، رأوا أنه من الأنسب لها أن تحتجب بعد أن ألقي بها في وهدة ميزتها العزلة والانزواء وتحيط بها المرتفعات الشواهق من كل جانب. واكتفت هي أن ترشق جارتها بلدة “لمدينة” بنظرات الانبهار، وأن تتعجب من انتصابها سافرة ومكشوفة على ظهر ربوة شامخة في اعتلاء وزهو.

اقتنعت “إينوغيسن” أن تكون واحدة من بلدات الأوراس الجليل التي جحدت القاعدة المعتادة، وشقَّت عصا الطاعة على العرف الساري، وصدفت عن المتفق عليه بين الأوراسيين حتى تكسب لنفسها حظوة وانفرادا. ذلك، لأن معظم قرى الأوراس تبتعد عن حضيض الأراضي المستوية والمنبسطة وعن أحواض المنخفضات، وتتسلق المرتفعات في عناد وكبرياء، ولا يعبأ أبناؤها بالمشقّات التي تقترن بها الاختيار، وفضّلت الاستلقاء في منخفض حوضي يشبه قعر الصحن. ومن حيث ما جاءها زائرها سائرا أو راكبا، فإنه يجد نفسه دوما مُكبًّا بوجهه صوب الأسفل حتى يصل سرّتها. وأما من يمر بمحاذاتها وعلى مشارفها في الطريق المؤدية إلى “شليا” ذات الهامة المرفوعة، فلن يسعفه الحظ لرؤيتها، ولن يبصر منها سوى مدخلها المؤدي إليها. ولما أرادت أن تتمدد وتتوسع، استطالت وضمت أميالا من السفوح القريبة منها، وراح سكانُها يغزونها، ويشيدون عليها مساكن تسع الزيادة في عدد الأنفس، وتستجيب لتضاعف الأسر.

مع تعاقب القرون، استمر الأوراسيون يبنون تجمُّعاتهم السكانية وما يرافقها من حظائر وزرائب لحيواناتهم ومن قلاع وصوامع لتخزين مؤنهم في المرتفعات حتى يهنأوا من فعل الاعتداءات والمباغتات، ويظل كل قادم نحوهم، ولاسيما إن كان من أعدائهم العتاة، تحت مرامي أبصارهم الساهرة بالليل والنهار، فالمفاجأة التي يتحاشون الوقوع تحت طائلة غدرها تكلّفهم أتعابا، وتسبب لهم حرجا وجرحا، وتفسد سكينتهم، وتقلّب هدوءهم وراحتهم إلى اضطراب وانزعاج وبلبلة، وقد تجلب لهم عارا يخدش شرفهم ويبضع سمعتهم.

يقول أهل المشرق العربي، وهم أهل حكمة وصواب، في مروياتهم المتناقلة: (لو كانت حيفا تخشى البحر حقا ما جاورته). وحيفا تُكتب أيضا بحرف التاء المربوطة: “حيفة”، هي المدينة الفلسطينية التاريخية المعروفة التي تجلس على ضفة الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط من أرض فلسطين الطاهرة العزيزة. ويعبِّرون في قولهم المذكور عن مقدار التحدي الأكبر الذي يسكن قلب هذه المدينة الشجاعة، وقدرتها عن مقاومة مد وجزر البحر الذي يلامس أطرافها، والوقوف في وجه غضبات موجاته كلما اهتزت وارتجت مياهه في عنف وصخب. ولا أحد يدري ما عساهم أن يقولوا عن بلدة “إينوغيسن” لو رأوها عن قرب؟ فلا مراء، أنهم سيتساءلون عن قوة إرادتها الذي تحمّلت جلوسها على شفتي واد يهدد وجودها كلما سالت مياهه منثالة في قوة، وتصاعدت على طرفيه؟ وجريان المياه في أودية الأوراس لا يؤتمن غدرها، لأنها تزحف مندفعة في مجاريها المنحدرة بشدة جرّاء ارتفاع قوة الطاقة الحركية التي تحركها إلى حد أنها تجرف الصخور، وتزيحها من أماكنها أحيانا. ويكفي أن مياه هذه الوديان العملاقة تهيم في تخبط، ولا تجد لنفسها قرارات تستقرّ فيها إلا في أعماق الصحراء التي تبعد عن منابعها بمئات الأميال، وتشكل فيها الشطوط والمسطحات المائية.

لا شك أن السحنات المظهرية لمباني بلدة “إينوغيسن” قد تغيرت كليا، فطراز سكناتها العصرية اليوم يختلف كليا عن نمط نظيراتها التقليدية البسيطة بالأمس، واختفت معها الحجارة التي تُبنى بها الجدران واندثر القرميد الأحمر، ولم يبق منها سوى الأثر القليل كشاهد عن زمن غابر أدبر. ولما أراد أصحابُها تجديدها وتوسيعها، سمحوا لأنفسهم أن يلعبوا لعبة بهلوانية محمومة بالمخاطر. ولما كانوا غير مكترثين بعواقب مجازفتهم، زاحموا الوادي واخترقوا فضاءه وكأنَّهم رغبوا في التضييق عليه، ورموا في حجره بأجزاء من مساكنهم رميا متهوّرا. وقد يخطر ببال رائيها سؤالٌ محير يشاكس فضوله، وفحواه: كيف اطمأن هؤلاء السكان للوادي الذي تغذيه ثلاثة روافد تتلاقى في مدخل البلدة ولم يحسبوا حسابا لثورانه وهيجانه وغضباته في أي لحظة؟ أفلا يمكن أن يباغتهم بالتهديد والمصير النكد المتعبين من دون إنذار مسبق؟.

لم تتخلف بلدة “إينوغيسن” عن المشي في موكب الحركة الإصلاحية الباديسية التي انتابت الأوراس بكل مدنه ومداشره وقراه ونجوعه منذ انطلاقتها المبكرة، وحثَّت خطاها وأسرعت فيها حتى لا تفوتها الفرصة. وتأسَّس بها مسجد وناد ومدرسة، وبرز فيها رجالٌ احنوا أكتافهم لتحمُّل الأعباء الثقيلة في صبر على مدار هذه المسيرة المظفرة. ويشهد اليوم مسجدُها العتيق الشاهد على جزء من تاريخها توسيعا بعد أن جُدِّد بناؤه منذ سنوات.

لا خلاف، أن الوادي الذي يشق بلدة “إينوغيسن” هو شريان حياتها، ولولاه ما وُجدت، وربما يفرض عليها الاختفاء قسرا والاندثار اضطرارا؛ لأن استقرار الإنسان ومكوثه مكانيا مقرونان بوجود الماء. ومياهه الصافية القادمة من المنابع الموجودة في المرتفعات المحيطة بها ومن الثلوج التي تشرع في الذوبان مع ارتفاع درجة الحرارة تجري فيه بتدفقات مختلفة حسب أزمان الفصول وتبعا لمنسوب ما تسخو به السماء من تهاطلات في كل سنة. وفي السنوات الشحيحة، تقل وقد تنقطع تماما حتى يتعرى قعر الوادي وينكشف، وتطل صخوره براقة من كثرة الغسيل. وتُستعمل هذه المياه في الشرب وفي تلبية الحاجات المنزلية التموينية الضرورية.

وأما نصيبُها الأوفر فيذهب إلى سقي المساحات المزروعة حسب الأنصبة المحسوبة وبالقسمة التناوبية المتفق عليها والمتوارثة حتى يستفيد منها كل السكان بالعدل. وكانت كل أسرة تمتلك مساحة تستغلها في البستنة لزراعة الخُضر التي تحقق الاكتفاء الأسري الذاتي اعتمادا على منوال دورة زراعة مدروسة تتلاءم مراحلها مع حالة الطقس. وتتوفر هذه البساتين، أيضا، على الأشجار المثمرة وهي من أصناف منتقاة، وتمتاز بجودة ثمارها في الحجم والشكل واللون والذوق، ومنها التفاح والخوخ والكمثرى والتين والعنب والسفرجل. وتربتُها خصبة على الدوام بفضل تحوُّل الأوراق الساقطة خريفا إلى دبال طبيعي، وتحلُّلها بسرعة، وقلة انجراف التربة. وخدمة الأرض هي مورد العيش الأول سابقا، إذ لم يكن يخلو أي مسكن من منجل وفأس وقادوم ومسحاة ومجرفة ومقراض. ولا استبعد أن يكون التهجين الطبيعي البوهيمي أي غير المقصود قد سرى بين أزهار هذه الأشجار خِفية من دون أن يتفطن له أحد. وما يحز في النفس، هو أن هذه الجنانات الصغيرة قد انكمشت وتقلصت كثيرا أمام الزحف الأسمنتي الذي لا يرحم. وفي فصل الربيع ترتدي “إينوغيسن” بُردَتها الخضراء في زهو بعد أن تتفتق براعم أشجارها عن أوراق ناعمة عابقة، وتسري في جوِّها رائحة النباتات العطرية والورود، فتتحوّل إلى جنة ساحرة على الأرض، وتغفو في هدوء لا يقطعه سوى طنين النحلات التي تخرج في سباق باحثة عن رحيق الأزهار. ولهذا يعجز الوصف عن التغني بروعة بهائها ولو استنفد كل الكلمات.

لم تتخلف بلدة “إينوغيسن” عن المشي في موكب الحركة الإصلاحية الباديسية التي انتابت الأوراس بكل مدنه ومداشره وقراه ونجوعه منذ انطلاقتها المبكرة، وحثَّت خطاها وأسرعت فيها حتى لا تفوتها الفرصة. وتأسَّس بها مسجد وناد ومدرسة، وبرز فيها رجالٌ احنوا أكتافهم لتحمُّل الأعباء الثقيلة في صبر على مدار هذه المسيرة المظفرة. ويشهد اليوم مسجدُها العتيق الشاهد على جزء من تاريخها توسيعا بعد أن جُدِّد بناؤه منذ سنوات.

يتّصف أهل بلدة “إينوغيسن”، كبيرُهم وصغيرُهم، بالظرافة المطلقة وبحسن الجوار، وفيهم ميلٌ جبلي إلى نشر الدعابة المسلّية من غير مساس واعتداء على الآخر في براعة وخفَّة مع انحياز إلى التنكيت المضحك. ولكنَّهم متحفِّظون في أحاديثهم مع من لا يعرفون، ولا يجيبونه عن أسئلته إلا بمقدار ضئيل مفضلين اللوذ بالكتمان والتستُّر. ويملكون من سعة الآفاق ورحابة الصدور ما يجعلهم لا يتضايقون من الحكايات التي تُنسج حولهم بكل ما فيها من همز خفيف ولمز طريف. وعندما يذكرونها فيما بينهم يضحكون حتى تغمر عيونهم بالدموع وتغشاهم سعالات حادة. وذات مرة، حضرت مجلسا من مجالسهم أولمت فيه وليمة دسمة، ولم ينتبهوا لوجودي بينهم، وانطلقوا يستذكرون ما يُحكى عنهم في أريحية لم أر مثلها في غيرهم.

يبعدنا النظر في مزايا روح التسامح والتغاضي والميل إلى السِّلم التي فُطرت عليها أجيال من عمّروا “إينوغيسن”، يبعدنا عن الأخذ بأحد التأويلات المتاحة والمتداولة لسهولته، والذي يراد توظيفه لفك شفرة معنى اسمها. وذلك، لأن الخصام ليس طبعا راسخا من طباع أبنائها أو سجيَّة من سجاياهم. ويجد الاسم المتبنى لنفسه مقصدا ودلالة اشتقاقية أخرى هي أقرب إلى التصديق في قاموس اللهجة الشاوية المحلية القُحّة والأصيلة.

بالمختصر، هذه هي بلدة “إينوغيسن” التي لا يختلف حول جمالها الفتان اثنان، ولا تقبل أن يكون اسمُها قد سطع من بعد خصام أو عراك نشب بين اثنين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!