-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

ابن باديس: الرجل الذي جمع بين ثورة الأفغاني وحكمة محمد عبده

ابن باديس: الرجل الذي جمع بين ثورة الأفغاني وحكمة محمد عبده

كتب كثيرون عن الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله وتباينت نظرتهم إليه، فمنهم من نظر إليه على أنه مصلح ديني، همُّه إصلاح عقيدة الناس على منهاج الكتاب والسنة وإبعادهم عن مسالك الطرقية والصوفية بعد أن طغى فقه العوائد والموائد على فقه العقائد، ومنهم من نظر إليه على أنه مصلح اجتماعي همُّه إصلاح حال المجتمع الجزائري ودك حصون الجهل التي أقامها الاستعمار الفرنسي، ومنهم من نظر إليه على أنه زعيمٌ وطني جاء في زمن كانت الجزائر فيه بحاجة ماسة إلى زعيم يجدد في أهلها إرادة أسلافهم ويحيي فيهم نخوة أجدادهم.

إن الشيخ بن باديس رحمه الله –في اعتقادي- هو هذا الكل، فهو مصلحٌ ديني واجتماعي وزعيم وطني، وهذا الكل هو الذي جعل منه نموذجا فريدا لرجل أحيا أمة بأكملها بعد أن أماتت فيها السنون العجاف كل مظاهر قوتها؛ فابن باديس هو الرجل الأسطورة الذي جاء على فترة من المصلحين محاكيا الأفغاني في ثورته ومحمد عبده في حكمته، لقد أخذ ابن باديس عن الأفغاني صلابته في مقاومة الاستبداد وأخذ عن محمد عبده طريقته في تنوير العقول فاستحق بذلك ما قاله الشاعر محمد العيد آل خليفة وهو يقف على قبره:

بعث الجزائرَ بعد طول سباتها

فالشعب فيها بالحياة بصير.

حاكى الشيخ بن باديس رحمه الله جمال الدين الأفغاني في  ثوريته، فكانت له نبرة قوية تجاه المستعمِر، ويمكن أن نستشف هذا من مقولته المشهورة: “لو قالت لي فرنسا قل لا إله إلا الله ما قلتها”، ومقولته: “إن الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد، في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطنٌ معيَّن هو الوطن الجزائري”.

إن رجلا هذه عقيدته وهذا موقفه من فرنسا لا يمكن أن يُتَّهم بمهادنة فرنسا أو مقايضة مستقبل الأمة بودِّ فرنسا، وأشجِّب في هذا السياق ما جاء في مقال بعنوان: “شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب: السياق التاريخي والتوظيف السياسي” لمصطفى صامت الذي ينتمي إلى ما يسمى “مجموعة الشباب المتطوعين لخدمة القضية الأمازيغية والفكر الحر والديمقراطية في دول شمال إفريقيا”، فقد حذر الكاتب من التوظيف السياسي لسيرة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولكن يبدو أنه أولى بالتحذير من هذا النوع من التوظيف من غيره؛ إذ عمد إلى تفسير بعض مقولات الشيخ تفسيرا مزاجيا مؤسَّسا على خلفية فكرية غير بريئة تجاه ابن باديس وتجاه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد زعم أن ابن باديس الذي حارب الإدماج في رده على فرحات عباس قد كان اندماجيا مهادنا لفرنسا، ففي مقال مصطفى صامت كثيرٌ من الأفكار الملغمة والمثيرة للجدل وكثير من التشويه لشخصية بن باديس، ومن أقوال ابن باديس التي ساقها الكاتب لتمرير هذه الأفكار ما أورده عمار طالبي في كتابه: “ابن باديس: حياته وآثاره”: “ولأننا مستعمَرة من مستعمرات الجمهورية الفرنسية، نسعى لربط أواصر المودة بيننا وبين الأمة الفرنسية وتحسين العلائق بين الأمتين المرتبطتين بروابط المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة من الجانبين، تلك الروابط التي ظهرت دلائلُها وثمراتها في غير ما موطن من مواطن الحرب والسلم”. يقول مصطفى الصامت تعليقا على هذه العبارة: “تجدر الإشارة إلى أن السخط الذي مارسه ابن باديس على نخبة الشبان الجزائريين المتجنسين الاندماجيين في الحركة الوطنية كما أسلفنا، قابله ترحيبٌ ودعم ومهادنة غريبة منه لسياسة فرنسا الاندماجية، يبرِّرها البعض بكون الجمعية دعوية إصلاحية وليست حزبا وأنها الطريقة الوحيدة للبقاء والاستمرار”.

يبدو أن مصطفى الصامت قد أصابه داء العشى الليلي فأصبح لا يفرِّق بين الاندماج كقضية مرفوضة ومنتهية لأنها تناقض أصول الدين ومبادئ الوطنية وبين إقامة العلاقات التي تكون بين الشعوب كما بين الدول وهذا أمر لا غبار عليه، فقد صالح الرسول صلى الله عليه وسلم المشركين وحاورهم وجادلهم وليس في ذلك ما يسيء إلى مكانته النبوية. إن ليَّ أعناق النصوص لتبرير موقف أو تمرير فكرة يعدُّ عملا مخالفا للاحترافية والموضوعية.

وحاكى الشيخُ عبد الحميد بن باديس رحمه محمد عبده في حكمته فكانت الحكمة ضالته، و”الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها”. لقد كان رحمه الله ثائرا ولكنه لم يكن متهورا، كان حريصا على حياة الأمة وحياة الجمعية أن تمتد إليهما يد الاستعمار فتعبث بهما أو تضع خلالهما تبتغي الفتنة والتفرقة. إن الحكمة  منحة لا يُعطاها إلا من هم أحق بها وأهلها ممن يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة اقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي خاطبه ربه سبحانه وتعالى بقوله: “ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين”(النحل 125). إن الحكمة في زمن الفتنة فنٌّ لا يُحسنه إلا من استوعب هدي القرآن وحقائق التشريع وغاص في تجارب الأمم، ونحسب الشيخ بن باديس من هذا الصنف النادر.

لا أدري لماذا يقحم الدكتور عبد الله حمادي نفسه في الجدل الذي يثيره بعض خصوم ابن باديس وخصوم الجمعية الذين استهواهم النبش في تاريخ العائلة الباديسية فجانبوا الصواب وجاءوا بإفك عظيم؟ لقد قال حمادي إنه استقى المعلومات حول تاريخ هذه العائلة من مصادر لا يرقى إليها الشك ثم تبيَّن أن هذه المصادر لا  ترقى إلى أقل درجات اليقين، إذ كيف نأمن المستشرق الفرنسي إدمون غوفيون وزوجته مارثا.

ومن حكمة الشيخ بن باديس رحمه الله مشاركته مع وفد الجمعية في “المؤتمر الإسلامي” الذي عُقد بباريس في جويلية 1936، ومن الحكمة أيضا مقابلته رئيس الحكومة الفرنسية وبعض الوزراء والأحزاب الفرنسية. لقد قرر الشيخ بن باديس المشاركة في المؤتمر الإسلامي –كما قال مولود عويمر في مقاله المعنون: “الإمام عبد الحميد بن باديس المصلح الثائر”، والمنشور في موقع الشيخ عبد الحميد بن باديس- لأنه رأى فيه إجماعا للجزائريين، ورافق الوفدَ الجزائري إلى باريس لتقديم مطالبه مباشرة للسلطة العليا الفرنسية بعد فشل كل المحاولات السابقة مع ممثليها في الجزائر.

إن حكمة الشيخ بن باديس هي التي جنّبت الجمعية مغبة الوقوع في المصيدة الاستعمارية التي تستهدف الجمعية ورجالها داخل الوطن وخارجه. لقد نجح اين باديس فيما فشل فيه كثيرٌ من الدعاة المصلحين الذين اختاروا المغالبة وهم فئة غضّة فتيّة فجرفها التيار ووقعت في أحابيل الاستعمار وأصبحت أثرا بعد عين. إن الحكمة لا تعني الخضوع والخنوع أو بيع القضية كما يتصوره بعض قصيري النظر، بل تعني التفكير في الآليات والمآلات التي تخدم قضيتك وتمكّنك من عدوّك وتكون سدا منيعا تمنع تيارات الشر من أن تنال منك أو تفكّك أوصالها أو تهتدي إلى سرِّ قوّتك فتميل عليك ميلة واحدة.

إن الحكمة ليست ضربا من النفاق، بل هي شكلٌ من أشكال التحقق والتثبّت التي توصلك إلى هدفك بأقصر الطرق وأقل الخسائر، فالمواجهة ليست مرغوبة إلا ما اضطررنا إليه وخاصة حينما لا نأنس من أنفسنا قدرة على هذه المواجهة التي تتحول في هذه الحالة من كونها عاملا من عوامل المباغتة إلى شكل من أشكال المغامرة غير محمودة العواقب.

وأنا أتحدث عن شخصية الإمام بن باديس رحمه الله، فإنني ألفت النظر إلى سلسلة مقالات بعنوان: “نقد ورد على كتاب الدكتور عبد الله حمادي” ابن باديس: سيرة ومسيرة”، الذي قالت عنه بعض الصحف إنه كتاب يميط اللثام عن كثير من أسرار ابن باديس ويقدِّم سيرة ملغمة للإمام المصلح!. لا أدري لماذا يقحم الدكتور عبد الله حمادي نفسه في الجدل الذي يثيره بعض خصوم ابن باديس وخصوم الجمعية الذين استهواهم النبش في تاريخ العائلة الباديسية فجانبوا الصواب وجاءوا بإفك عظيم؟ لقد قال عبد الله حمادي إنه استقى المعلومات حول تاريخ هذه العائلة من مصادر لا يرقى إليها الشك ثم تبيَّن أن هذه المصادر لا  ترقى إلى أقل درجات اليقين، إذ كيف نأمن المستشرق الفرنسي إدمون غوفيون وزوجته مارثا في كتابهما: “أعيان المغاربة” على كتابة سيرة موضوعية للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!