-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أسرار من حياة أكبر عالم في تاريخ الجزائر

ابن باديس يكشف دسائس اليهود بعد فاجعة قسنطينة

ابن باديس يكشف دسائس اليهود بعد فاجعة قسنطينة

رغم أن الشيخ ابن باديس لم يعش أكثر من خمسين سنة، إلا أنه عاصر الكثير من الأحداث المحلية والعالمية. وكان لا يترك حدثا أو مناسبة إلا وأدلى بدلوه فيها، كما كان شاهدا على أحداث مثيرة، وأخرى دامية، حدثت في مدينته قسنطينة، منها المعركة التي كان طرفا فيها وشاهدا وصحافيا أيضا، التي دارت رحاها في شوارع المدينة، بين الأهالي القسنطينيين ويهود المدينة.. وهو الصدام الأكثر دموية في القرون التي تواجد فيها اليهود في الجزائر.

صلى في القدس وكشف دسائس اليهود للعالم
توفي الشيخ عبد الحميد بن باديس ثماني سنوات قبل نكبة 1948، التي غرست دولة الكيان في قلب فلسطين، وهو الذي في سفريته الطويلة لأداء فريضة الحج، قبل أن يقدم درسا في الحرم المكي، كان قد عرج إلى فلسطين، وصلى في القدس، كما كانت عادة كل الجزائريين، إلى غاية نكبة 1967. وتوفي الشيخ عبد الحميد بن باديس بعد ست سنوات، من معركة الحجارة الأولى، التي دارت بين أهله من القسنطينيين وجيرانهم اليهود، الذين كانوا يقطنون في حي القصبة، حيث مسكنه العائلي. لأجل ذلك، كان ابن باديس مهتما بالشأن المحلي وأيضا العربي والإسلامي العام، قبل قيام دولة الكيان. ولم يحدث أن تصادم الشيخ مع اليهود، أو كتب مقالات مطوّلة عنهم، ماعدا القليل منها.. ولكن القدس كانت دائما في كتاباته، عندما تحدث عن الشيخ طاهر الجزائري، أو عندما تكلم عن كمال آتاتورك.

لم سمّى معركة اليهود بفاجعة قسنطينة؟
الأستاذ عبد الحق بن باديس، أكد لنا أن حسن الجوار كان السمة التي ميزت علاقته باليهود، لأن غالبية جيرانه من اليهود. كما أن الشيخ ابن باديس صادف أن حضر أعراسا كان من الذين أحيوها المغني اليهودي الشهير ريمون، الذي هو صهر الفنان أونريكو ماسياس. كما أخبرنا الشيخ أحمد بن عبد الرحمان، الذي جاوزت سنه التسعين، وهو ابن قسنطينة، الرئيس الشرفي لجمعية مسجد الأمير عبد القادر، عن ذكريات الطفولة، عندما كان يصطف رفقة الأطفال في منطقة الشارع لتحية الشيخ عبد الحميد بن باديس، وكان العشرات من أطفال اليهود أيضا يقدمون له التحية. فوقار الرجل جعل الجميع يحترمه، إلى أن حدثت المعركة الأولى والصدام الأعنف في تاريخ تواجد اليهود في الجزائر، في عام 1934، وقدم ابن باديس في بادئ الأمر تغطية مختصرة عن المعركة، التي سماها الفاجعة، ولكنه عاد بعد ذلك، ليخصص عددا كاملا للمعركة بكل تفاصيلها. وهو المرجع الأهم للتأريخ لهذه الأحداث، التي مازالت في الذاكرة، وجعلت اليهود جميعا يساندون فرنسا ويساهمون في الكثير من المجازر. وقال ابن باديس، في عدد الشهاب، الصادر في 11 ديسمبر 1934، إنه استجاب للأهالي والقراء، فقدّم القصة الكاملة للفاجعة.

أول إساءة إلى خاتم الأنبياء في حضرة العلامة
شرارة الأحداث، اندلعت في الجامع الذي كان يلقي به ابن باديس دروسه، وهو جامع الأخضر بقسنطينة، عندما اقتحمه في ليلة جمعة أثناء صلاة العشاء، يهودي سكران، وراح يسب قرابة اثني عشر من المصلين، ويزعم أنه شاهد عوراتهم، فحاولوا تفاديه، ولكن هذا اليهودي، المدعو إلياهو خليفي، راح يسبّ النبي- صلى الله عليه وسلم-. وبالرغم من الشكوى التي أودعها المصلون لدى مصالح الأمن، إلا أن اليهودي رفض الامتثال للاستدعاء، وواصل استفزازه للجميع، رفقة زوجته، في حي رحبة الصوف، حيث راحا يطلان من النافذة ويسبان النبي- صلى الله عليه وسلم- وتجمهر الناس ليلا، وبدأ البعض يدعو إلى مهاجمة البيت وحرقه بمن فيه.
فقام رجال الشرطة بحراسة بيت اليهودي. وهنا، انضم بقية اليهود، خاصة أنهم في حيّهم ومعقلهم، برمي المتجمهرين بالبيادين وغيرها من الأواني والقاذورات، فاندلعت حرب الحجارة، حيث رشق المتجمهرون منازل اليهود، فاستخرج بعض اليهود بنادقهم ومسدساتهم وأطلقوا الرصاص. وحاول رجال الدين المرسّمون من طرف الاستعمار، منهم مفتي قسنطينة، إقناع المسلمين بالعودة إلى بيوتهم، ولكنهم طردوه واعتبروه سببا في الإهانات التي تصلهم من اليهود. الشيخ ابن باديس، في تغطيته الأحداث، لم يكتف بسرد الوقائع، بل كان يعود ليقدم استنتاجاته، فكان يذكّر الناس بخصال اليهود، مثل الغرور والاستمتاع بإيذاء المسلمين، ويذكّرهم أيضا بأن الشرطة الفرنسية تحمي اليهودي إن أخطا وترمي المسلم في السجن إن أخطأ.
حدث هذا كله والشيخ ابن باديس لم يعلم إلا في صبيحة اليوم الموالي، عندما توجه إلى مكتبه بجريدة الشهاب، ليجد استدعاء بلغه من شرطي فرنسي، يدعى فيزرو، طلب من الشيخ أن يطفئ نار الفتنة، وكان ابن باديس رفقة مترجمه السيد أحمد يحيى، لأن ابن باديس رغم إتقانه اللغة الفرنسية، إلا أنه كان يرفض التحدث بها، وشرح لرجل الأمن أن المسلمين يرفضون إيذاء نبيهم، وحتى المسؤول عن المدينة الأول بمقام الوالي وكان يدعى لينديل، وعد المسلمين في خطاب أمام الناس بمحاسبة اليهودي إلياهو خليفي. وردّ عليه الشيخ ابن باديس قائلا إن المسلمين لا يمكنهم الصبر دائما على التعدّي على أمر دينهم. وقال كلمة زلزلت الجميع: “نستطيع أن نمسك بغضب المسلمين، إلا إذا أهينوا في دينهم، فإن الأمر حينئذ يصعب علينا”.. ثم خاطب الوالي الفرنسي اليهود. وهنا، أيضا، تدخل الشيخ ابن باديس، وراح يعدّد الكثير من الاعتداءات التي قام بها اليهود تجاه العائلات القسنطينية، حيث تعرض تلميذ من عائلة بلبجاوي لكسر خطير، بعد أن هاجمه أطفال يهود.
وأشار ابن باديس إلى اعتداء تعرض له هو ومدير الشهاب، السيد أحمد بوشمال، وقال إنه ستر الواقعة حتى لا تندلع أحداث دامية. وهو الاعتداء الذي لم يعد إليه ابن باديس ولا المرحوم بوشمال، فدفنا تفاصيله معهما. وطالب أيضا بنزع السلاح الذي أدخل الغرور في قلوب اليهود. ولم يكتف ابن باديس بذلك، بل دعا الناس إلى الحضور بقوة إلى الجامع الكبير بشارع طريق جديدة، وطالبهم بالهدوء، رغم أنهم جاؤوا ثائرين يريدون الانتقام، لأن اليهود واصلوا استفزازهم وتهديهم بالسلاح الناري. وظن الشيخ في اليوم الموالي أن النفوس هدأت، ولكنه عندما كان يقدم محاضراته اليومية، سمع دوي الرصاص، واتضح أن النار قد اشتعلت، فأوقف محاضرته، ووجد قرب مكتبه مجموعة من العسكر، أجبروه على التوجه إلى بيته بحي القصبة.. وحتى الصحافة الفرنسية، منها “لاكسيون فرانسيز”، قالت إن اليهود هم أول من أطلق النار، وبدأ الطلق من محل يهودي للمصوغات، وأصيب العشرات من الأهالي بجروح متفاوتة الخطورة.
وانتشر خبر الاعتداء في قسنطينة، فحدث الهجوم الكبير على أنهج اليهود ودكاكينهم، فحطموها وأحرقوا السلع الموجودة فيها، من دون نهب، وسقط، بحسب الشيخ ابن باديس، أكثر من عشرين قتيلا من اليهود. وبحسب الصحافة الفرنسية، ثلاثون. وحمّل ابن باديس المستعمرين تبعات ما حدث، لأنه طالب بنزع بنادقهم وقوبل طلبه بالرفض. وتساءل ابن باديس في استنتاجاته عن تمكّن اليهود من موقع القرار، وتمكنهم من كل الوظائف المهمة والعادية، وضرب مثلا عن وجود قرابة أربعين من موزعي البريد من اليهود، بينما لا يزيد عدد الفرنسيين عن خمسة، وموزع بريد واحد من المسلمين.
وسقط من اليهود خمس نسوة وستة من الصبيان، اعتبر الشيخ دماءهم في رقبة السلطة، التي تركت الشرارة تتحول إلى لهيب. ورد الشيخ على الذين حجّموا خسائر المسلمين بالقول إن دكاكينهم قليلة وبضاعتهم أيضا قليلة، وهلك من المسلمين، بحسب ابن باديس، رجلان تلقيا طلقات نارية بالرصاص، وجرح أربعة أطفال بالرصاص، بينما سقط كل اليهود قتلى بالعصي، ليعلن الوالي الفرنسي بعد ذلك، حالة الحصار على المدينة قاطبة. وراح اليهود ينتقمون في العديد من المدن، ومنها عين البيضاء، حيث أطلق شرطي يهودي النار على طفل صغير، توفي في مستشفى قسنطينة، فانتقل الشيخ ابن باديس، رفقة الشيخ بن الموفق، إلى عاصمة الحراكتة لتهدئة النفوس.
وواصل اليهود في ليلة الاثنين هجومهم على المساجد، وانتقلت الإهانات إلى مسجد سيدي الكتاني، فخرّبوا أثاثه، وكسروا كل ما فيه. وواصل ابن باديس مساعيه لإطفاء الفتنة، وكان رفقة والده، السيد محمد المصطفى، الذي شرح المظالم التي يعاني منها المسلمون. وتجوّل ابن باديس في الأنهج، وألقى أكثر من عشر خطب على الأهالي. ولولا ذلك، لكانت المجزرة أكبر. ويشهد التاريخ على أن معركة قسنطينة، أو فاجعة قسنطينة، هي الحادثة التي ألهبت العداء بين اليهود والمسلمين في الجزائر. فوقف اليهود ضد الثورة، وغادروا قسنطينة قبل الاستقلال بسنوات، ولم يبق منهم فرد واحد.

رجال دين هاجموا ابن باديس لأنه رثى أتاتورك
الذين ينتقدون الشيخ ابن باديس وكل علماء جمعية العلماء المسلمين، يرجعون إلى كتابات وردت في المنتقد، وأيضا في الشهاب، رغم أن الكتابات الصحفية في العالم بأسره تتطلب ممارسة السياسة بكل فنياتها، وعدم المباشرة، والشيخ ابن باديس كان صحفيا محترفا، يعلم بأن أي انتقاد مباشر من أول عدد لفرنسا يعني غلق جريدته، كما حدث مع دروسه التي علّقت بأمر إداري، وصار الشيخ يرضى بسفريات إلى وهران والعاصمة للحديث مع الناس على موائد الطعام وفي الحارات والجبال، بعد أن منع من إلقاء الدروس والمحاضرات سنوات طويلة.
وطال الانتقاد الأكبر الشيخ عندما بلغه وفاة الزعيم التركي كمال أتاتورك، في السابع عشر من رمضان، فخصه بمرثية طويلة جدا، في نوفمبر 1938، وصفه فيها بالقول إنه أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث. وهو ما ألهب الكثير من علماء مصر والحجاز، الذين أقاموا الأفراح بعد وفاة الزعيم التركي، ولكن ابن باديس دافع عن رأيه، وقال إن كمال هو قاهر الإنجليز.. وهو دليل على أن الشيخ كان يهمه من يقهر الدول الاستعمارية، حتى ولو كان ناقص دين، مثل كمال. وكان ابن باديس يرفض خلافة إسلامية يُسيّرها الاستعمار الإنجليزي، كما حدث مع آخر خلفاء الدولة العثمانية. الشيخ ابن باديس تحدث عن كمال أتاتورك بنظرة بعيدة المدى، فقال إن قلبه ينقبض عندما يذكر موقف كمال من الإسلام، ولكن شيوخ الدولة العثمانية أيضا أهانوا الدين بالخنوع للمستعمر. ويتعجب لماذا شيوخ الإسلام يعلنون الجهاد على كمال ولا يتجرؤون على فعله مع الإنجليز، وقال إن كمال ثار على الذين يسمّون بالمسلمين وليس على الإسلام، واعتبر سهره على ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية من أكبر الإنجازات التي قرّبت الأتراك أكثر من الدين.
ولا يترك ابن باديس شيوخ الأزهر الذين كفّروا كمال، ويسألهم عن سبب تعطيل الأحكام الشرعية في مصر، واتباع قانون نابليون بونابرت. وقدم نقدا لاذعا إلى الأزهريين، الذين لا يهمهم، بحسبه، سوى المذهب الحنفي، وهجروا بقية المذاهب. وبنظرة مستقبلية لا يمتلكها سوى الحكماء والعلماء والمفكرين، اعترف الشيخ ابن باديس بأن كمال أتاتورك حرم الأتراك من الأحكام الشرعية الإسلامية، التي كانت تطبق في عهد الخلافة الإسلامية، وقال إنه ليس مسؤولا لوحده عن هذا، لأنه رجل وحيد وسط الملايين من الأتراك. وقال إن بإمكانهم أن يسترجعوا الأحكام الشرعية متى شاؤوا وكيفما شاؤوا. وكان واضحا، أن الشيخ ابن باديس يريد من زعماء السياسة أن يردوا للناس حقوقهم، ولا يريدهم أن يكونوا فقهاء، لأن الدين علاقة بين الإنسان والله، والحاكم عليه أن يمنحهم الحقوق ويساعدهم على أداء الواجبات، لا أن يبقوا مثل شيوخ العثمانيين في آخر عهدهم، يحملون المسابح ويدعون إلى المشيخة ويشجعون الطرقية.
ابن باديس أبى في ختام مرثيته لكمال أتاتورك إلا أن يتحدث عن العلاقة التاريخية والنسبية بين الجزائر وتركيا، فقال إن أواصر الدين والدم والتاريخ والجوار تربطنا بتركيا. وقال إنها تركت لنا مساجد ومدارس. وقدم تعزية باسمه إلى الشعب التركي. وهي التعزية التي أثارت ضده المشايخ من كل مكان، واعتبروه ضد الخلافة الإسلامية، خاصة أن ما كتبه الشيخ ابن باديس في الشهاب كان من آخر ما كتبه إعلاميا في حياته.. هل أخطأ ابن باديس؟ هل كان سوء تقدير وابتعادا عن الحدث؟ أم إن ما قاله هو عين الصواب؟

هكذا كان يحتفل بمعتنقي الإسلام الجدد
في عام 1927، عندما أعلن الرسام التشكيلي الذي كانت تفتخر به فرنسا، آليون آلبان ديني، اعتناقه الدين الإسلامي، تزلزلت فرنسا، وحاولت طمس الخبر، لأن الرسام كان ظاهرة في العالم، وقيل إنه لو سُلمت نوبل في الرسم لتحصل عليها، ووقف الشيخ ابن باديس إلى جانبه بقوة، وأرسل وفدا إلى العاصمة لدعمه. وأسهم في استقباله في نادي الترقي، وقام بتغطية حفل إعلان الشهادتين إعلاميا في صحيفة الشهاب، ووصف اليوم بالعظيم وكان إلى جانب ابن باديس الشيخ العقبي.
الرسام الفرنسي غيّر اسمه إلى نصر الدين، وبنى لنفسه قبرا في مدينة بوسعادة، وترجّى معارفه أن يدفنوه في ذلك القبر، حتى ينام نومته الأخيرة مع المسلمين.. رجالات العلم، ومنهم المرحوم توفيق المدني، احتضنوا ديني، رغم أنه اتضح أنه اعتنق الإسلام سرّا قبل أربع عشرة سنة، أما ابن باديس، فوضع الخبر في الصفحة الأولى من جريدته ووصفه بالمشهد العظيم.

الرسام التشكيلي العالمي ألبان ديني يدين لابن باديس
وعندما كتب ابن باديس عن لوحات ديني، أبان أنه متذوق للرسم التشكيلي الراقي، حيث تحدث عن اللوحة الزيتة المسماة الإندوجين، وقال إنها رسمت استعباد الناس بطريقة فنية راقية، لم يكن الشيخ ابن باديس وحده من كتب عن نصر الدين ديني، فقد طلب من شيوخ جمعية العلماء، ومنهم البشير الإبراهيم والطيب العقبي، أن يسيروا على نهجه. فوجد نصر الدين ديني إلى جانبه علماء كبارا، فاطمأن على دينه، وتوفي مسلما ودفن في مقبرة بوسعادة، حيث يرقد الآن، بحضور الكثير من تلامذة الشيخ ابن باديس.
 يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!