استعبادٌ باسم “تشغيل الشباب”
من الحيل التي “ابتكرتها” السلطة في بداية التسعينيات للالتفاف على المطالب المتصاعدة للشباب بضرورة توفير مناصب عمل له، ما يُعرف بجهازي “تشغيل الشباب” و”الشبكة الاجتماعية”، وكانت وزارة العمل تقول إنها أجهزة مؤقتة تمتص البطالة وتمهّد لاكتساب الخبرة المهنية ودمج الشباب في عالم الشغل، وغيرها من المبررات..
الآن وبعد مرور أزيد من عشريتين عن ابتداع هذه الصيغ التشغيلية، تبيَّن أن المؤقت قد تحوّل إلى دائم وأن وعود الحكومات المتعاقبة بترسيم مئات الآلاف من “عمال” جهازي “تشغيل الشباب” و”الشبكة الاجتماعية” في مناصب دائمة، قد ذهبت أدراج الرياح.
وعوض أن تعمل الحكومات المتعاقبة على دمج هؤلاء المهمّشين المستضعَفين، “ابتكرت” صيغة أخرى للتشغيل سمتها “عقود ما قبل التشغيل” وهي موجّهة للمتخرجين في الجامعة، قصد التمهيد لدمجهم في مختلف المؤسسات التي يشتغلون بها وفق هذه الصيغة، لكن الكثير منهم يشكو تعرّضه للاستغلال ردحاً من الزمن قبل الاستغناء عن خدماته.
اليوم فاض الكأس وخرج آلاف الشباب يحتجُّون على هذه الصيغ التشغيلية التي لم يروا منها سوى الاستعباد والاستغلال وامتصاص العرق والجهد بأبخس الأثمان، وإلا هل يُعقل أن يتقاضى رب أسرة أو أرملة لها عدة أطفال مبالغَ تتراوح بين 5400 و8000 دينار شهرياً في عام 2013؟ ماذا يمكن أن تسدّ هذه المبالغ الهزيلة من احتياجاتهم الملحّة؟ هل تسدّ نفقاتِ الغذاء والكساء والدواء والدراسة وفواتير الكهرباء والماء وغيرها من الضروريات؟
يحدث هذا، بينما تُرفع أجورُ النواب من 350 ألف دينار إلى 400 ألف دينار شهرياً وأجور الموظفين السامين للدولة إلى مستويات فلكية، أي عشرات أضعاف ما يتقاضاه “أشباه عمال” الشبكة الاجتماعية، دون أن تشعر الحكومة بأي خلل فيما تفعله.
أنْ يتعرّض العاملُ للاستغلال لدى الخواص، فهذا أمرٌ مفهومٌ؛ فاستغلال العمال ومنحهم أجورا بخسة لتقليل التكاليف ومضاعفة الأرباح من طبع الخواص منذ بدء الخليقة إلى الآن، ولكن أن تقوم الدولة نفسها باستغلال مئات الآلاف من أبنائها بأجور بخسة، فذلك هو العجب العجاب.
الدولة وضعت بنفسها قانوناً ينص بوضوح على أن أدنى أجر ينبغي منحه للعامل في الجزائر يجب أن لا يقلّ عن 18 ألف دينار شهرياً، ولكنها تشغِّل نحو نصف مليون من أبنائها بمبالغ شهرية تتراوح بين 5400 و8000 دينار، دون أن تشعر بالتناقض بين ما تشرِّعه من قوانين وما تمارسه في الواقع.
وفي ظل هذا الوضع، كيف يستقيم أن تقوم الدولة عبر مفتشي العمل بمراقبة الخواص وإلزامهم بتطبيق قانون الحد الأدنى للأجور، والحال أنها أول من يخرق هذا القانون الذي وضعته بنفسها، مع نصف مليون على الأقل من “عمالها”، إذا صحّ أصلاً أن نسميهم “عمالاًّ”؟
هذه الصيغ التشغيلية الاستعبادية التي تذكرنا بعهد “الخماسة” يجب أن تنتهي عبر إدماج كل المنتسبين إليها في مناصب عمل دائمة، وإلغاء هذه الأجهزة أو تطويرها بما يتوافق مع قوانين البلاد ومنع كل أشكال استغلال العمال وإذلالهم وسحق كرامتهم الإنسانية.
لم يعُد من المقبول تشغيل جزائريٍ بمبلغ 5400 دينار أو حتى بـ8000 دينار في سنة 2013 التي بلغت فيها أسعارُ المواد الأكثر استهلاكاً السقف. هذا الوضع البائس يجب أن ينتهي، وشعار “العزة والكرامة” يجب أن يبدأ بهذه الفئات المسحوقة بإعادة الاعتبار لها ودمجها في مناصب دائمة بأجور تحقق الحدّ الأدنى من احتياجاتها المعيشية.