-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأحزابُ التقليدية.. إكرامُ الميِّت دفنُه

ناصر حمدادوش
  • 938
  • 0
الأحزابُ التقليدية.. إكرامُ الميِّت دفنُه

بالرَّغم من ذلك الارتباط التاريخي المفاهيمي بين الدولة والأحزاب والديمقراطية، فإنَّ ظاهرة ما بعد الأحزاب تعتبر من التحوُّلات السياسية الجارفة في العالم، وهي ظاهرةٌ سياسيةٌ عابرةٌ للدول والإيديولوجيات، وهي إرهاصاتٌ لانتهاء دورة حياة الأحزاب التقليدية المرهَقَة، للهبوط المريع لشعبيتها، والتآكل المستمرّ لرصيدها، والتراجع المخيف لدورها في المنافسة على التغيير والتمكين، ما يفرض عليها تفعيل قرون الاستشعار من أجل إعادة التجذُّر الشعبي عن طريق التفاعل القوي مع سُنَّة التغيير والتجديد والتطوير، وإعادة إنتاج حضورها السياسي ومضمونها الفكري وبُعدها البرامجي، لتجاوز عتبة نصاب البقاء، والارتقاء إلى الريادة في قيادة الشعوب والدول لتحقيق التنمية وصناعة النهضة وبناء الحضارة، فهي لن تخرج عن إحدى الحتميات: إمَّا أن تتجدَّد أو تتعدَّد أو تتبدَّد، ولن تنجو من مقصلة سُنَّة الاستبدال الثابتة: “وإنْ تتولوا يستبدل قومًا غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم..”(محمد:38).

نحن أمام مأزقٍ حقيقي بسبب اهتزاز الثقة في الديمقراطية التمثيلية عبر الأحزاب المرهَقة، والتذمُّر من الوجوه السياسية التقليدية الجاثمة على صدر الرأي العام لعقودٍ من الزمن دون جدوى سياسية لبقائها، والاتجاه رأسًا نحو التعبير السياسي الجماهيري المباشر، والذي يتجاوز الأحزاب التقليدية كأدواتٍ للتغيير وآلياتٍ للوصول إلى الحكم لتحقيق آمال وطموحات الأجيال الزاحفة.

في عصر التِّقنية والتدفُّق المعلوماتي والثورة المعرفية وشبكات التواصل الاجتماعي، لم يعد هناك ما يغري في السياسيين التقليديين، ولم يعد هناك ما يُقنِع بالأحزاب المرهَقة مادام الشباب الرقمي يملك من أدوات التعبير عن ذاته دون وسطاء سياسيين بيروقراطيين، ممَّا فرض عناوين جديدة لرموزٍ غير نمطية في الحياة السياسية.

لقد ارتبط الحديث عن الديمقراطية -سابقًا- بالحديث عن مؤسَّساتٍ دستورية هي: الجمعيات والأحزاب السياسية، والتي ظلَّت تنتج الإطارات والكفاءات التي تولَّت مسؤولية الدولة المعاصرة، إلاَّ أنَّ مدرسة الأحزاب بدأت تفقد دورها الوظيفي، وبدأ العالم يتَّجه إلى فكِّ الارتباط بين الممارسة الديمقراطية وبين الأحزاب السياسية، وأصبحت ظاهرة التذمُّر من الأحزاب المرهَقة ومن الأنظمة المتكلِّسة ومن السياسيين التقليديين سِمةً بارزةً في عالم ما بعد الحداثة، وشملت ظاهرة “موت الإيديولوجيا” منذ تسعينيات القرن الماضي كلَّ الإيديولوجيات التقليدية: الاشتراكية والقومية لتنتقل إلى الليبرالية المتوحِّشة، وتلتقي جميعًا عند مفهوم “الديمقراطية الاجتماعية”، وهي مدى قدرة الدولة الحديثة على تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ولو بسقوط ذلك الارتباط التقليدي للديمقراطية بالإيديولوجيا وبالأحزاب السياسية، إذ أنَّ حاجة الشُّعوب إلى التنمية هي الآن أكثر من مجرَّد حاجتها إلى الديمقراطية، وتُعدّ التجربة الصينية نموذجًا في قدرة الحزب الواحد على تحقيق ذلك.

وكما تراجعت المدرسة في احتكار التعليم، وتراجع المسجد في احتكار المرجعية الدينية، وتراجع الإعلام التقليدي في احتكار المعلومة، تراجعت الأحزاب السياسية في احتكار تكوين النُّخب والممارسة الديمقراطية والوصول إلى الحكم.

إنَّ فوز “ترامب” في أمريكا على حساب القيادات الحزبية التقليدية، وصعود “بوتين” استخبارتيًّا في روسيا من خارج الوعاء الحزبي، وفوز “ماكرون” في فرنسا على حساب الأحزاب القديمة، وفوز “زيلنسكي” الفكاهي في أوكرانيا على حساب الأحزاب المتجذِّرة، وفوز “قيس سعيَّد” في تونس على حساب الأحزاب النمطية، وفوز “تبون” في الجزائر على حساب المنظومة الحزبية المترهِّلة، وظهور قياداتٍ وأحزابٍ وحركاتٍ جديدةٍ تقود ثوراتٍ شعبيةً وتحقِّق صعودًا انتخابيًّا مفاجئًا هو أحد تجلِّيات السيولة السياسية الجديدة، وأحد المؤشِّرات الصارخة في وجه الأحزاب المرهَقة.
لقد أثبتت هذه التحوُّلات تمرُّدًا على الأحزاب التقليدية، وأنَّ المراهنة على هذه الهياكل الحزبية لم تعُد مجديةً في تحقيق الطموحات العالية للشعوب المتوثِّبة، وتجسيد الآمال العريضة للشباب الثائر.

ما بعد الأحزاب المرهَقة: لقد ملَّت الأجيالُ الجديدة من الإرث التاريخي المثخَن بالجراح لهذه الأحزاب المرهَقة، ومن الانتماء النخبوي الاستعلائي لقياداتها التقليدية، ولا يُعقل – في عالمٍ متغيِّرٍ ومتسارعٍ على مدار الثانية- أن تبقى هذه الأحزاب جامدةً على أدبياتٍ بالية، وعلى مواقف تقليدية، وعلى خيارات نمطية، وعلى وسائل للنضال متواضعة، وعلى أدواتٍ للتدافع تجاوزها الزمن.
رغم تضعضع الفعل الحزبي وفقدانه لجاذبيته لدى الكثيرين، لا يزال في أوطاننا واحدة من الأدوات المتاحة لأجل النضال والتغيير والتنافس للوصول إلى الحكم.

وبالرغم من هذا التوجُّه العامّ نحو “موت الأحزاب التقليدية” ومقولات “إكرام الميِّت دفنه”، ومع ذلك فإنَّ التوجُّهات الإيجابية التجديدية والشجاعة هي التي تعيد للعمل الحزبي الجادِّ والمسؤول شيئًا من قدرته على تأطير عمليات التغيير، وتفعيل طاقات المجتمع للمساهمة في التنمية الشاملة.

وهو ما يفرض على هذه الأحزاب ضرورات التجديد والتطوير على مستويات متعدِّدة، منها: – التجديد القيادي: وضمان الانتقال الديمقراطي والتداول السلس على القيادة، والمنافسة الداخلية على أساس الأفكار والبرامج، وتجاوز شخصنة الخيارات والمواقف، والتحرُّر من نرجسية القيادات وتضخُّم الأنا على حساب المؤسَّسات.

– التطوير القيادي: والانتقال من القيادات التقليدية التنظيمية إلى القيادات السياسية والمجتمعية، بالخضوع إلى دورات تدريبية وبرامج تكوينية إجبارية ومكثفة وعلى مدار المسار القيادي كأكاديميةٍ تخصُّصيةٍ في التأهيل القيادي.

– إداريةٍ وتنظيمية رشيقة، والانفتاح على مختلف الشرائح الاجتماعية، والمرونة في استيعاب الكفاءات التخصُّصية، والعمل على الانتشار الهيكلي، وخاصة في التجمُّعات الشعبية الكبيرة، والبلديات ذات الكثافة السكانية العالية، والولايات ذات الرمزية السياسية والتاريخية. – تجذير الآليات الديمقراطية الداخلية: وتحرُّر الأحزاب من هيمنة السلطة وتدخُّل الإدارة والخوف من الأجهزة وتأثير ذوي النفوذ، وبناء هذه الأحزاب بناءً مؤسَّسيًّا على قواعد التطوُّر العلمي في السياسة والإدارة والتسيير من أجل الحوكمة الرشيدة.

– الإبداع اللائحي في البناء التنظيمي للأحزاب: بما يضمن الشفافية في التسيير، والديمقراطية في صناعة واتخاذ القرار، والقوة في الرقابة والتدافع الداخلي، والصرامة في سيادة اللوائح وضمان الالتزام بقيم العمل الجماعي، كالانضباط والنزاهة والمصداقية والنضالية والتجرُّد والابتعاد عن مَواطن الشبهات والخلوّ من أشكال ومظاهر الفساد..

– تركيز الأحزاب على الوظيفة السياسية: الابتعاد عن النمط الشمولي في الممارسة الوظيفية والانتقال إلى الاستيعاب الاستراتيجي للمتغيِّرات في البيئة الداخلية الخارجية لها، والخروج من النشاطات الموسمية والحضور المناسباتي، ووضع البرامج التشغيلية على مدار السنة للنضال من أجل: الحريات والديمقراطية ونزاهة الانتخابات والتنمية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد ومراقبة الشأن العامّ ونشر الوعي السياسي وتفعيل الحياة السياسية بلديًّا وولائيًّا ووطنيًّا، والاشتغال اليومي على تكوين الإطارات السياسية للحزب، والتأهيل الدائم للمنتخَبين، والمرافقة اللصيقة للقيادات، والاستيعاب المستمرّ للمناضلين، والتأطير الدائم للشَّعب.

– اعتماد الأحزاب السياسية على مراكز الدراسات والتفكير الاستراتيجي في وضع برامجها القطاعية التنموية، وعلى تغذية عقلها الاستراتيجي، وعلى إنتاجها السياسي والفكري، وعلى الدراسات التخصُّصية للملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى تقدير الموقف في الملفات المطروحة على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية، وعلى التكوين الفكري والسياسي المتخصِّص لنخبها وإطاراتها وقياداتها التنظيمية والسياسية.

– اعتماد الأحزاب على سياسةٍ إعلاميةٍ متكاملة، وعلى منظومة اتصالية داخلية وخارجية فعَّالة، وعلى التقنية، وعلى التطور الرقمي، وعلى التكامل مع الإعلام البديل عبر شبكات التواصل الاجتماعي.

– التبنِّي العملي والفعلي لمبدأ الجزاء والعقاب، على قاعدة: نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، إذ لا يستوي الذين يعملون والذين لا يعملون، وفرض آليات صارمة وفعَّالة لاحترام المؤسَّسية وقواعد الانضباط، وخضوع الجميع إلى سيادة القوانين واللوائح، واعتماد نظامٍ قويٍّ للمتابعة والمحاسبة للارتقاء بالأداء إلى معايير الجودة.

– وضع منظومة علمية وواقعية للمنافسة الداخلية على مواقع المسؤولية التنظيمية داخل الأحزاب، وعلى مواقع المسؤولية السياسية والانتخابية في الدولة، والارتقاء إلى تكريس قواعد معيارية وأخلاقية لإدارة الخلاف، وتأطيره بصيغٍ عقلانية في إطار الثراء الفكري والتنوُّع القيادي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!