-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأخضر الإبراهيمي في حواره المطول للشروق اليومي (3)

الشروق أونلاين
  • 2771
  • 0
الأخضر الإبراهيمي في حواره المطول للشروق اليومي (3)

م. ش. مصباح:لكن، لن نكتفي بذكر مساركم الشخصي في خدمة الجزائر أو المسائل المتصلة بالدبلوماسية الجزائرية على العموم. لقد خضتم أيضا تجربة دولية رائعة تسمح لكم، لاشك في ذلك، بإبداء رأيكم حول بنية نظام العلاقات الدولية الذي هو بصدد القيام. يبدو الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، وكأنه يطعن في الوضع الاستراتيجي السائد حاليا، معتبرا إياه متعارضا مع مصالح بلده إلى درجة أنه حاول القيام من جديد بتدخلات على مستوى ما أصبح يعرف بـ “الخارجي القريب” لروسيا. وعليه، هل تعتقدون أن الحرب الباردة انتهت إلى الأبد ؟ ل. ابراهيمي: لقد انتهت الحرب الباردة، لاشك في ذلك، والأدلة كثيرة لعل في مقدمتها ذلك التوجه الذي تنتهجه حاليا ما كان يعرف، في السابق، بأوروبا الشرقية. إن حلف وارسو، الذي كان يجمع هذه البلدان بالاتحاد السوفييتي، لم يزُل فقط وإنما هناك العديد من بلدان أوروبا الشرقية التي انضمت إلى حلف الناتو. ثم إن هذا الحلف الأخير ذاته، وبعد زوال إطار الحرب الباردة المعهود، يجد صعوبة في تحديد علل وجوده في ظل الأوضاع المستجدة. أما الاتحاد السوفييتي، فلم يعد له وجود وصارت روسيا أمام صعوبات جمة في إيجاد صيغة عادية لتنظيم علاقاتها بباقي الجمهوريات المؤلفة للاتحاد السابق. انظروا إلى تلك العداوة التي تكنها بلدان البلطيق نحو موسكو وتلك الانقسامات الخطيرة التي تعانيها أوكرانيا منذ مدة وتلك المشكلات العويصة التي تعرفها جورجيا وذلك النزاع القائم بين أرمينيا وأذربيجان. ثم انظروا إلى أبعد من ذلك، نحو الشرق فستجدون باكستان تلاقي متاعب كبيرة في إيجاد الأسس الاستراتيجية التي تقوم عليها في إطار الوضع الدولي الجديد الذي هو بصدد التبلور. في السابق، كانت إسلاماباد تحت حماية أمريكية تامة لمواجهة الخطر الهندي الذي كانت ترى فيه تهديدا استراتيجيا ضد وجودها. بينما كان الأمريكيون، من جهتهم، يرون، في اعتمادهم على باكستان، فائدة بحكم أن هذا البلد قريب من الحدود الجنوبية للاتحاد السوفييتي. أما اليوم، فقد صار بين الهند والولايات المتحدة الأمريكية مجاملات وصارت العلاقات بينهما تتضاعف بسرعة إلى درجة أن أمريكا تبرم اليوم عقودا في مجال التجهيز والتكنولوجيات النووية مع الهند وترفضها لباكستان. الرئيس الباكستاني، مشرف، يسعى، من خلال حركات بهلوانية، إظهار بلاده في دور الحليف الذي لا يستهان به في إطار ما تصفه الولايات المتحدة الأمريكية بـ “الحرب الشاملة ضد الإرهاب”.

روسيا، من جهتها، هي اليوم بصدد الخروج، وإن ببطء، من حالة الضعف المهينة التي فرضت عليها نتيجة انحلال الاتحاد السوفييتي. وعليه، فإن موسكو تتطلع إلى استعادة دورها كاملا كما كان عليه الحال في زمن الحرب الباردة. غير أنني أعتقد أن القادة الروس هم على قدر من الواقعية ما يجعلهم يدركون جيدا أن ذلك النظام الذي نصّب قوتين عظميين على رأس الهرم الدولي لا يمكن إعادة إحيائه من جديد. لعل الصين كعضو في مجلس الأمن لا تسمح بذلك. كما أن هناك الهند واليابان اللذين يظلان يطرقان باب مجلس الأمن. أضف إلى ذلك ألمانيا – سواء بمفردها أو في إطار الاتحاد الأوروبي – بل والبرازيل أيضا، إفريقيا الجنوبية وربما إندونيسيا غدا… ومهما يكن من أمر، فإذا كان عهد الحرب الباردة قد ولى إلى غير رجعة، إلا أنه من غير الممكن القول اليوم إن نظاما دوليا جديدا قد حل محل النظام السابق. فمنذ سقوط جدار برلين سنة 1989 وتفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1992، دخل العالم في مرحلة انتقالية طويلة. وعليه، لسنا اليوم بصدد “نهاية التاريخ” التي تغنى بها فرانسيس فوكوياما ومن تبعه في اعتبار أن الطريقة التي انتهت بها الحرب الباردة إنما تبين، بشكل نهائي وشامل، تفوق النمط السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية على غيره من الأنظمة ؛ مما يجعل هذا النمط، من دون سواه، في صورة حتمية يتطلع إليها كل بلد.

م .ش مصباحبالفعل، انهيار الكتلة الشرقية هل يبدو لكم أنه جاء نتيجة لتفسخ النظام الشيوعي من الداخل، أي لتناقضات داخلية، أم نتيجة لضربات القوى الغربية من الخارج ؟
ل. ابراهيمي: تتعدد المواقف وتتباين في هذا الشأن. لقد سمعت، مؤخرا، أحدا يقول إن أب نظرية “الاحتواء” (containment) الشهيرة، ألا وهو السفير الأمريكي George Kenan، صرح فور صعود مكاييل غوربتشاف إلى الحكم أن “الرجل كان بصدد تفكيك الاتحاد السوفييتي”. فلو استمعتم إلى اليمين الأمريكي اليوم سيقول لكم إن الانتصار في الحرب الباردة يعود الفضل فيه إلى الرئيس ريغن وحده. ولعل كيسينجر سيوحي لكم، هو الآخر، أنه هو الذي أشار على الرئيس نكسون بالعمل على “إنهاك الاتحاد السوفييتي في سباق للتسلح لا رحمة فيه” ؛ وهي إشارة تكررت في ما بعد في ما يخص الرئيس ريغن. أما في ما يخص الأفغان الطيبين، فسيقولون لكم، كرجل واحد، إن بلدهم هو الذي قُبر فيه الاتحاد السوفييتي بفضل الكفاح البطولي الذي خاضه الشعب الأفغاني ضد الغازي طيلة الثمانينيات. وكما هو الحال في معظم الأحيان، هناك شيء من الصحة في كل رأي على أن يبقى كل رأي غير كاف، بمفرده، في تفسير ذلك الزلزال الحقيقي الذي غير وجه العالم. ضربات الغرب، كما تقولون، كان لها أثر من دون شك. ومن دون شك أيضا أن استماتة روانلد ريغن في سعيه للقضاء على الشيوعية خاصة – ينبغي ألا ننسى ذلك – لاسيما وأنه وجد نفس العزيمة لدى مرغريت تاتشر التي ساعدته بكل قوة من أجل إضعاف الاتحاد السوفييتي. أضف إلى ذلك الأخطاء التي ارتكبها غوربتشاف نفسه. بل وحتى بوريس يلتسين كان له دور في هذا المجال. لكن ما هو واقع هو أن الاتحاد السوفييتي زال ففقد العالم ذلك التوازن الذي كان يقوم عليه إلى درجة كبيرة ولم يجد عوضا له، على الأقل إلى حد الآن…

م. ش. مصباح: بطبيعة الحال، إعادة بناء نظام العلاقات الدولية، كما تجري حاليا، تؤكد، بما لا يدع أي مجال للشك، فشل حركة عدم الانحياز التي عرفتم، شخصيا، سنوات مجدها الأولى بكل من باندونغ، بلغراد، الجزائر وغيرها. لنفترض، على مستوى المذهب وموازين القوى الدولية الحالية، أن هذه الحركة قد فشلت، هل معنى ذلك أنه لم يبق لدول العالم الثالث حل آخر سوى الدخول في فلك الولايات المتحدة من دون أي تردد ؟
ل. ابراهيمي: سموا ذلك حنينا إلى الماضي إن شئتم، لكن يبدو لي أنه وإن كان صحيحا تماما أن حركة عدم الانحياز قد اعتراها ضعف كبير، بل وربما خارت قواها، إلا أنه من الواجب التأمل، نوعا ما، في ما تسمونه بمذهبها. فلو اعتمدنا تحليلا سريعا بعض الشيء لوجدنا أن هذه الحركة لا تعدو أن تكون مجرد عبارة عن موقف “وسطي” أراد أصحابه أن يتخذوه في التعامل مع الحلفين على قدم المساواة. وبعد زوال أحد هاذين الحلفين يبدو هذا الموقف لا معنى له وهذا المذهب عبارة عن مجرد قوقعة فارغة لا تنفع في شيء. لقد كان Foster Dulles، وزير الخارجية في عهد الرئيس أيزنهاور، يقول : “إن عدم الانحياز مناف للأخلاق”. وستجد من يقول إن الحركة لا تعدو أن تكون مجرد انتهازية ذليلة الهدف منها الحصول على أكبر قدر من الاستفادة باللعب على ضرب حلف بالآخر. لكن اقرأوا أو عودوا إلى قراءة تلك الخطب “الكلاسيكية” التي ألقاها كل من سوكارنو، نيهرو، عبد الناصر، بن بلة، بومدين، ونكروما فستجدون فيها رؤية متماسكة ومقنعة في الدعوة إلى استقلال البلدان وسيادة الدول وفي صالح المساواة بين جميع دول العالم وتعاون نافع لجميع الأطراف وسلم عالمي قائم بكل قوة على قانون دولي ومنظمة أممية متوفرة على الإمكانيات التي تسمح لها بالإسهام في تطور الأسرة الدولية نحو تحقيق هذه الأهداف. إن عدم الانحياز لم يكن رفضا لاتخاذ موقف في صالح هذا الحلف أو ذاك وإنما كان رفضا للانحياز الآلي لمواقف حلف ضد حلف. لقد كان عدم الانحياز يعارض بشدة الأسلحة النووية ويرفض حق عدد قليل من البلدان في التحول إلى “ناد نووي مغلق”. وفي رفضها لتوازن الرعب، كانت الحركة تدعو إلى نزع تدريجي للأسلحة. وعليه، فإن عدم الانحياز يمكن أن يوصف بكل النعوت ماعدا كونه “منافيا للأخلاق”، كما أن فشله في ظل المحيط الدولي الحالي مصدره عوامل أخرى. ومن غريب الأمور حقا أن نجد نجاح بعض بلدان عدم الانحياز وإخفاق بعضها الآخر قد أسهما، حسبما يبدو، في إضعاف الحركة. فالهند لم تعد مهتمة إلا بأفق عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وبتعزيز قدرتها الاقتصادية. يوغسلافيا لم تعد موجودة. مصر لم يستقم لها حال بعد هزيمة 1967. أما الجزائر، فلم تعرف كيف تدير مرحلة ما بعد بومدين فسقطت في هوة سنوات التسعين السوداء. ومع ذلك، الهوان الذي أصاب حركة الانحياز واقع لا يمكن نكرانه. تسألون هل الخيار الوحيد الذي بقي هو الركوع أمام القوة الأمريكية. طبعا، كلا ! حتى ولو سلمنا بأن ما نسميه اليوم بـ “العالم الأحادي القطب” هو عالم غير مشروع، فذلك لا يكفي مادامت هناك دائما إمكانية لأن يكون لكل بلد شخصيته وحقه في الدفاع عن مصالحه وفي الدعوة إلى قيم المساواة، العدالة، التعاون والسلم. لقد تعرض محمد حسنين هيكل لانتقاد شديد بسبب ما كتبه، سنة 1969، حينما دعا إلى عدم محاولة الدخول في مواجهة مباشرة مع أمريكا. لقد كان هيكل على صواب في تلك الفترة ولا زال رأيه هذا صالحا إلى اليوم. غير أن تفادي المواجهة المباشرة مع أمريكا، بل وحتى السعي للتعاون معها لا يعنيان الركوع أمام واشنطن. تفادي هذه المواجهة لا يعني المباركة وقول “آمين” في كل ما تريد الولايات المتحدة الأمريكية فرضه عليك. تلك الكلمة الشهيرة التي قالها عبد الناصر : “ارفع رأسك..أخي !” تبقى صالحة اليوم مثلما كانت بالأمس. أقول صالحة مادام ممكنا مقاومة الضغوط التي تريد أمريكا ممارستها على بلداننا خدمة لمصالحها على حساب مصالحنا. ينبغي ألا نتردد في إدانة تصرف الولايات المتحدة الأمريكية عندما تقوم بغزو سافر على العراق أو عندما تمنع صراحة مجلس الأمن من اعتماد لائحة يدعو فيها إلى وقف تلك الحرب الفتاكة التي شنتها إسرائيل على لبنان السنة الفارطة. كما يجب الوقوف، صراحة وبكل قوة، ضد الانحياز الصارخ لسياسة أمريكا في النزاع العربي الإسرائيلي.

موازاة مع ما تقدم، لا أرى سببا لقبول إملاءات صندوق النقد الدولي في مجال السياسة الاقتصادية. في الكثير من الأحيان، لا تستهدف توصيات هذه المؤسسة المالية الدولية إلا قيام نظام علاقات اقتصادية لا يخدم إلا مصالح البلدان المتطورة. ومع ذلك، لا يمكننا، بحجة مقاومة الإمبريالية الأمريكية، مواصلة سياسات اقتصادية أثبتت إخفاقها بصورة باتة. كما لا يمكننا في الوقت ذاته، عبر لهجة تقدمية مزعومة، محاولة تمويه ممارسات مقيتة مثل الرشوة التي صارت آفة حقيقية تنخر جسم الكثير من البلدان. أظن أنه سبق لي أن أشرت إلى أننا نمر بمرحلة انتقالية وأننا لا زلنا نبحث عن صيغة لإقامة نظام دولي جديد بعد فترة الحرب الباردة. ليس قدرا محتوما على بلدان العالم الثالث أن تبقى مكتوفة الأيدي تنتظر من قوى العالم أن تقرر في مكانها؛ فما عليها إلا أن تعيد تنظيم صيغ التضامن بينها من جديد وتطالب – ولا أقول تفرض – بأخذ مصالحها في الحسبان. في شهر أفريل 2005، استضافت إندونيسيا ندوة لإحياء الذكرى الخمسين لمؤتمر باندونغ، وقد تحدث عنها الأوروبيون موحيين أنها ستكون ندوة من دون نتائج في المستقبل. أما الأمريكيون، فلم يتحدثوا عنها على الإطلاق. يبدو أن غيرنا لا يأخذنا على محمل الجد وما علينا إلا البرهنة له على خطئه في الاستمرار في تجاهل وجودنا.

م. ش. مصباح: أرجو منكم أن تجيبونني بكل صدق عن هذا السؤال : انطلاقا من تجربتكم الميدانية في إدارة الأزمات عبر العالم، هل ما سُمّي بـ “واجب التدخل الإنساني” هو مجرد ذريعة لتسهيل التدخل في النزاعات الداخلية التي تعرفها بلدان العالم الثالث ؟ أم هو، حقيقة، وسيلة لإقامة العدالة واستعادة السلم عبر ربوع العالم ؟
ل. ابراهيمي: حول هذه المسألة، لدي موقف “عالم ثالثي” تقليدي، أي أنني لا أحب كثيرا نظرية التدخل هذه. لكن لنتناولها عن قرب. من الملفت للانتباه أن الحديث كان في البداية لا عن “واجب” وإنما عن “حق التدخل الإنساني”. لكن سرعان ما اكتشف أن هذه الطريقة لا يمكن الدفاع عنها. وبالفعل، إذا تحدثتم عن “الحق” فإن أول من تفكروا فيه هو المتدخِّل. أما إذا تحدثتم عن “الواجب”، فأول من تفكروا فيه ربما هو الطرف الذي هو في حاجة إلى مساعدة فتفرضون على من له الإمكانيات واجب تقديم هذه المساعدة. إلا أن هذه الصيغة ذاتها لم تكن آنذاك “مقبولة سياسيا” بصورة نهائية ؛ مما حدا باللجنة – التي أنشأتها كندا وكان على رأسها شخصيتان، ألا وهما الوزير الأسترالي السابق للخارجية، Gareth Evans والأخ محمد سحنون – إلى إيجاد صيغة ذكية جاءت هكذا : “مسؤولية الحماية”. كانت “لجنة إيفانس-سحنون” قد قامت بمشاورات واسعة قادتها من القاهرة إلى كايب تاون ومن نيودلهي إلى بيكين وطرحت المسألة بشروط نالت موافقة بلدان العالم الثالث كقاعدة للنقاش.وقد حصل هذا النقاش بمناسبة انعقاد قمة رؤساء الدول ورؤساء حكومات العالم سنة 2005 وأفضى، أساسا، إلى تكريس القانون الدولي كما تجسد في ميثاق الأمم المتحدة وتم تأكيد مبدأ السيادة الوطنية. وقد حصل الاتفاق على أنه في حالة ما إذا كان سكان بلد ما – كلهم أو جزء منهم – عرضة لعنف ثابت وخطير، فإن عبء حماية هؤلاء يقع على حكومة بلدهم. أما إذا تبين أن هذه الحكومة لا تستطيع أو لا تريد مد العون إلى سكانها، يصبح، حينئذ، من واجب المجموعة الدولية التدخل لتعويض النقص. إلا أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا بقرار من منظمة الأمم المتحدة، أي من مجلس الأمن أو، في بعض الأحيان، طبقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة على أساس صدور لائحة من الجمعية العامة. لكن حتى في هذه الحالة، لا يمكن اللجوء إلى استعمال القوة إلا بعد استنفاد مؤكد لجميع السبل السلمية المتاحة. هكذا، استطاعت أن تطمئن تلك البلدان التي كانت تساورها شكوك حول إمكانية انتهاك سيادتها الوطنية.

فهل يعني ذلك أن دعاة “واجب” أو، ما هو أسوأ، “حق التدخل الإنساني” قد خسروا المعركة ؟ كلا، أبدا ! تبقى البلدان القوية دائما عاجزة عن مقاومة نزعة فرض “قانون الأقوى”، من دون أن تجد حرجا في مواصلة الحديث عن تلك المبادئ الأخلاقية والإنسانية النبيلة. لعل في ما يقع بالعراق اليوم فيه ما يهدئ من الحماسة. موازاة مع هذا العمل، تواصلت الجهود التي توجت بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي تحاول أن تجد علة لوجودها ومجالا لنشاطها. من الملفت للانتباه أن الولايات المتحدة على الخصوص – دون أن ننسى الصين وروسيا – لا تنوي قط الانضمام إلى المعاهدة التي تأسست بموجبها هذه المحكمة. أكثر من ذلك، نرى أمريكا تمارس ضغوطا قوية على كل الدول تقريبا لتلتزم عدم إلقاء القبض على أي مواطن أمريكي تولت أمره المحكمة وذلك مهما كانت الظروف.على أية حال، يجب تفادي وضع الجميع في نفس الخانة. هناك، بطبيعة الحال، الكثير من الناس عبر العالم ممن لهم مشاعر إنسانية صادقة، من دون خلفيات ومن دون انحياز. يتعلق الأمر برجال ونسوة لا يحدوهم إلا الحرص على مساعدة القريب المحتاج. بعض الحكومات تنتمي إلى هذا الصنف من الناس مثل السويد وغيرها من البلدان الإسكندنافية من بينها هولندا التي تخصص 1 % من دخلها القومي الخام للمساعدة الإنسانية. هذه البلدان غالبا ما تحاول تقديم العون في كنف الاحتشام ومن دون أية مصلحة خاصة ترجى من ورائه. هناك لجنة سويدية تنشط بأفغانستان منذ نحو ثلاثين سنة، وهي ممولة نصفا من طرف الحكومة ونصفا عن طريق التبرعات التي يقدمها المواطنون. تستخدم هذه اللجنة 8000 أفغاني من طبيب، مدرس، مهندس وما إلى ذلك بحيث لا يتجاوز عدد المستخدمين السويديين عشرة أشخاص. كما هو واضح، يتعلق الأمر هنا بتضامن حقيقي لا صلة له به بالتدخل ولا يمكن أن نصف به التدخل الأمريكي في العراق الذي خلق وضعا “إنسانيا استعجاليا” باسم الرغبة في معالجة وضع آخر. ثم إنه لمن حقنا المشروع تماما التنديد بنفاق بعض الحكومات وبعض المنظمات التي تغير مبادئها بحسب المقام. إنك لتجد هذه الحكومات والمنظمات ترثى لحال المواطنين في كوبا بينما تغض الطرف عما يحدث في فلسطين !

III. الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوى عظمى

م. ش. مصباح: لنفترض أننا متفقين مع بعض المختصين في الفكر الاستراتيجي. العالم حاليا هو بصدد إعادة تشكله حول بلد واحد بوصفه المركز الفريد لاتخاذ القرار، ألا وهو الولايات المتحدة الأمريكية التي صارت أكبر قوة عظمى في العالم. ومع ذلك، فإن في هذه النظرة اختصارا للأمور لأنها لا تبدو متفقة مع واقع العالم كما هو فعلا مادامت هناك مراكز تواصل مساعيها من أجل إقامة عالم متعدد الأقطاب. كيف تتبدى لكم الأمور على العموم ؟
ل. ابراهيمي: بالفعل، أمريكا هي اليوم، كما عبر عن ذلك الوزير الفرنسي الأسبق للخارجية، Hubert Vedrine، حينما وصفها بـ “hyper-puissance”، أي القوة الكبرى في العالم. ينبغي، أولا، أن نتذكر أن أمريكا لم تعد قوة عظمى منذ البارحة فقط إذ تعود هذه القوة على الأقل إلى أواخر الحرب العالمية الأولى لتتأكد أثناء الحرب العالمية الثانية. في هذه الحرب، الأسلحة التي خرجت من المصانع الأمريكية كانت، بكل بساطة، مذهلة، كما ونوعا. الروس وفروا العدد (20 مليون قتيل !) والأمريكيون وفروا العدة ؛ هكذا تحقق النصر في الحرب العالمية الثانية. منظمة الأمم المتحدة ذاتها كانت من إنشاء أمريكا وبمبادرة من رئيسها، فراكلين روزفلت، على وجه التحديد، الذي لقي التأييد من أقرب حليف له، ألا وهو وينستن تشرشل. أهم الأفكار الواردة في ميثاق الأمم المتحدة كانت، تقريبا كلها، متضمنة في الميثاق الأطلسي. العالم الذي ظهر إثر الانتصار على ألمانيا واليابان سرعان ما تبوأت فيه الولايات المتحدة الأمريكية مركز الصدارة. وقد كان لها من التأثير ما جعلها – رغم الخلافات مع الاتحاد السوفييتي والتوترات الخطيرة في أوروبا وحرب كوريا – في غير حاجة إلى استعمال حق الفيتو إلى غاية 1960 تقريبا. بالعكس، ممثل الاتحاد السوفييتي الذي غالبا ما كان بلده ضمن الأقلية هو الذي صار معروفا باسم « M. Niet ! » (أي “السيد لا”! ).

أمريكا بلد فتي، سعيد بثرواته وبكونه قويا حريصا على إظهار ما يملكه من هذه الثروات وهذه القوة. أثناء التسعينيات، انصب أحد النقاشات الأكثر جدية بواشنطن – والذي برز فيه ما يسمى بالمحافظين الجدد – على معرفة سبل احتفاظ الولايات المتحدة الأمريكية بسيطرتها على العالم إلى الأبد. وقد كتب بعضهم يقول إن أمريكا كان عليها أن تستعمل جميع الوسائل لمنع أي بلد آخر من أن يصبح قوة قادرة على الطعن في الزعامة الأمريكية أو على محاولة تقاسمها معها. هذا هو السبب الذي جعل أمريكا، وعلى الرغم من انتهاء الحرب الباردة وقيام كافة القوى الأخرى بتقليص نفقاتها العسكرية، تواصل تسلحها ليبقى لها التفوق العسكري. اليوم، الميزانية العسكرية للولايات المتحدة الأمريكية تفوق، في هذا المجال، جميع ميزانيات بلدان العالم مجتمعة! أما في ما يخص اقتصادها، علما أن عدد سكانها لا يتعدى 5  من مجموع سكان المعمورة، فيمثل ثلث اقتصادات العالم. التقدم الذي ما انفكت تحرزه الصين التي صارت، من سخريات القدر، تقرض أمريكا أموالا ؛ التطور الذي تشهده كل من الهند والبرازيل بالإضافة إلى استيقاظ روسيا أمور من شأنها كلها أن تزعزع، بعض الشيء، روح تفاؤل الأمريكيين وثقتهم في أنفسهم في مجال التنمية الاقتصادية والتبادل التجاري العالمي. البلدان التي سبق ذكرها تمثل تحديا بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تماما مثلما كان اليابان في السبعينيات والثمانينيات ؛ هذا إذا بدا لنا أن الاتحاد الأوروبي لا يشكل، في الظرف الراهن، أي خطر على أمريكا في هذا المجال.

على الصعيد العسكري، العراق هو الذي يثير الشكوك حيث هناك أسئلة صارت تطرح في واشنطن وفي الجامعات الأمريكية حول ما أصبح يعرف بـ “المواجهة غير التناظرية” (assymétrique)، أي الحرب ما بين قوة عسكرية ضخمة وعدو غير تقليدي لكنه لا يقل قدرة على الإقناع. على أية حال، القوة، بل وحتى القوة الفائقة (hyper-puissance) التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية ستظل معطى أساسيا في عالم اليوم وغدا. لكن “القوى الصاعدة”، كما نسميها، تتزاحم اليوم من أجل أن تجد لها مكانا، وينبغي أن يُسمح لها بذلك. لذلك لا أرى كيف يمكن أن يظل بلدان مثل الهند واليابان وقتا أطول محرومين من عضوية مجلس الأمن لو أريد لمنظمة الأمم المتحدة أن تبقى – أو تعود من جديد – كمنظمة ممثلة وفعالة ولو قليلا.وكما سبق القول، الحرب الباردة انتهت ولم يعد في الإمكان الرجوع إلى نظام كان موجودا قبل سقوط جدار برلين. لكن، ترى، ما هي الصورة التي سيكون عليها عالم متعدد الأقطاب غدا ؟ الأمر متوقف على الكثير من العوامل، لاسيما طبيعة العلاقات التي ستقيمها القوى العظمى الجديدة (والقديمة) ببعضها البعض وبالولايات المتحدة الأمريكية. ليس من المستبعد، على الأقل لفترة ما، أن تفضي حالات التردد هنا وهناك – حتى لا نقول أكثر – بين الصين واليابان والشكوك التي تحوم حول العلاقات بين بكين ونيودلهي إلى الاحتفاظ بالقوة الأمريكية كاملة. بطبيعة لحال، هناك أيضا متغيرات أخرى…

م. ش. مصباح: يُنسب إلى ما يسمى بـ “المحافظين الجدد” في أمريكا، أي إلى مدرسة أيديولوجية معينة، تأثير مبالغ فيه في تحديد السياسة الخارجية الأمريكية. بصرف النظر عن الاختلافات الشكلية التي تزيد أو تقل أهمية، هل تعتقدون، فعلا، أن السياسة الخارجية الأمريكية تدخل في تحديدها اعتبارات أخرى غير المصالح العليا للولايات المتحدة الأمريكية ؟
ل. ابراهيمي: كلا ! افتراضكم فيه شيء من التجاوز لأن المحافظين الجدد قاموا، فعلا، بدور مهم جدا داخل الإدارة الأمريكية الحالية. بطبيعة الحال، لم يكن ذلك من شأنه ألا يفضي إلى عواقب على باقي بلدان المعمورة. ومع ذلك، أنتم على حق عندما تقولون إن هناك ثابتا يشكّل دوما أساسا في تحديد الخيارات الأمريكية في مجال سياستها الخارجية. فعلا، هذا الثابت هو المصلحة الوطنية إلى درجة أن السياسيين الأمريكيين لا تسمع منهم حديثا إلا عن هذه المصلحة. ذلك هو ثمن القوة بحيث يتخذون من سياستهم الداخلية سياسة خارجية أيضا. غير أن المحافظين الجدد قد أعطوا محتوى أو معنى أكثر وضوحا لمفهوم لمصلحة الوطنية غالبا ما يكون متعارضا مع ذلك التصور الذي دأبت الإدارات السابقة على اعتماده. في الواقع، الكثير من الأمريكيين اليوم يعتقدون أن المحافظين الجدد قد تسببوا في ضرر خطير جدا للمصلحة الوطنية، وبالذات بسبب إقحامهم البلد في حرب، تلك الحرب الفتاكة في العراق ونشوء انشقاقات خطيرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها حتى غدا الرئيس بوش مكروها في الأوساط الشعبية أكثر من أي رئيس سبقه، سواء على مستوى العالم أو داخل أمريكا ذاتها.

بطبيعة الحال، القضية العراقية هي التي تسيطر الآن على الساحة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد جعل منها المحافظون الجدد شغلهم الشاغل. هذا، وينبغي الإشارة إلى هدف آخر يجمع، هو أيضا، بين هذه الجماعة، ويسمونه، بكل بساطة، “دعم دولة إسرائيل”. هذا الهدف يظل، بدوره، أحد الثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية، غير أنه لم يبلغ أبدا ذلك الحد من الإطلاق الذي بلغه في ظل الإدارة الحالية. في الواقع، العديد من الشخصيات التي شغلت (أو مازالت) مناصب نافذة في البيت الأبيض والبانتاغون هم من المناصرين العلنيين لبن يامين ناتنياهو. المدير السابق لديوان كولين باول لم يتردد في القول إن اثنين من هؤلاء “يحملان بطاقة حزب الليكود الإسرائيلي”. لكن مذهب المحافظين الجدد هو الآن بصدد فقدان المصداقية وبدأ يتخلى عنه بعض من أشهر المدافعين عنه في السابق مثل فرانسيس فوكوياما الذي صدر له، منذ بضعة أشهر، كتاب يشجب فيه الشطط المرتكب باسم هذا المذهب.

م. ش. مصباح: في السياق ذاته، مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يفترض دمقرطة البلدان العربية والإسلامية للقضاء على الأسباب “الموضوعية”، كما يُزعم، للعنف والإرهاب، هل يبدو لكم حقيقية نابعا من انشغالات أيديولوجية فقط ؟
ل. ابراهيمي: يتهيأ لي أننا نمر بفترة من التردد في هذا المجال. الفشل الذريع الذي منيت به السياسة الأمريكية في العراق لا يترك وقتا كبيرا للقيام بعمل آخر في واشنطن. لكن ينبغي ألا ننسى أن الدعوة إلى الحرية والديمقراطية خطاب قديم لدى الأمريكيين وقد صار، بصيغ تختلف بعض الشيء، أحد ثوابت سياسة البلدان الغربية تجاه العالم الثالث، لكن أيضا تجاه ديمقراطيات أوروبا الشرقية سابقا. أما في ما يخص مدى صدق هذه الدعوة، فيختلف بحسب الحال ويبدو الأمر مندرجا في سياق التدخل الإنساني. بعض الطرق تبدو أكثر صدقا وأخرى أكثر نفاقا، كما يبدو بعضها أكثر واقعية وبعضها مغرضا خسيسا. في ما يتعلق بحالة “الشرق الأوسط الكبير” على وجه التحديد، لا يخفي المحافظون الجدد، بل والكثير من الأمريكيين، أن الهدف الأساسي، إن لم يكن الوحيد، هو مصلحة دولة إسرائيل. حسب هذا التصور، يتمثل الهدف في التوقف عن الحديث عن عالم عربي للحديث عن “شرق أوسط كبير”. هكذا، تدرج ضمن المنطقة المعنية كل من تركيا وإيران. بالنسبة إلى البعض، ينبغي أن تشمل هذه التسمية أفغانستان والباكستان. بطبيعة الحال، إسرائيل تكون ضمن هذه المنطقة على قدم المساواة مع غيرها. وعليه، فإن الغرض من التشجيع العلني للديمقراطية إنما يهدف، ضمنيا، إلى التأسيس للسلم مادامت الأنظمة الديمقراطية لا تشن الحروب.. أليس كذلك ؟ وفق هذا التصور، ستنعم المنطقة بالسلم بين العرب وإسرائيل، لكن من دون الأخذ بعين الاعتبار القضية الفلسطينية ! في سياق ذات التصور دائما، اعتُبر نجاح أول تجربة من هذا النوع في العراق سيكون مثالا أو نموذجا للمنطقة بأسرها. كما هو معلوم، العراق غني بثرواته الطبيعية ورجاله. وعليه، الخزينة الأمريكية لن تكون مضطرة إلى صرف أموال من جيبها ؛ مما سيسهل إقامة “دولة نموذجية” بسرعة. هكذا كانت النظرية ؛ أما الواقع، فهو شيء آخر تماما. ومع ذلك، يظل المتطرفون من المحافظين الجدد يزعمون أن تقدما ملحوظا يحصل كل يوم في العراق وأن الديمقراطية هي قاب قوسين أو أدنى بالمنطقة !

م. ش. مصباحلكن، هل يمكن أن نعتبر أن السلطات الأمريكية قد تخلت عن هذا المشروع ؟
ل. ابراهيمي: كما أشرت منذ حين، لم يتم التخلي عن هذا المشروع من طرف آخر مربع للمحافظين الجدد، غير أن معظم الأمريكيين لم يعودوا يثقون كثيرا فيه.

القسم الثاني من الحوار
IV. الدروس المستخلصة من التجربة الدبلوماسية
م. ش. مصباح: تجربتكم الدبلوماسية الدولية لاشك أنها تسمح لكم بإبداء جملة من الآراء حول بعض التواريخ الكبرى في تطور العالم، لاسيما المتعلقة منها بمسار فض الأزمات الدولية. لنبدأ السؤال، إذا سمحتم، باتفاقيات الطائف التي تحمل بصماتكم، لا ريب في ذلك. هذه الاتفاقيات التي على الرغم من أخذها بعين الاعتبار تنوع الشعب اللبناني لم تستطع، في ما يبدو، الصمود أمام عراقيل من كل نوع. هل سبب إخفاقها يعود، في نظركم، إلى التأثير السوري على مجرى الحياة السياسية في لبنان ؟ أم إلى عجز مزمن لمكونات الشعب اللبناني عن التوصل إلى اتفاق ؟ ثم ما هو أثر التاريخ والتشكيلة الاجتماعية، بالإضافة إلى أثر الجانب الجيو-استراتيجي، في استمرار الأزمة الداخلية في لبنان ؟

ل. ابراهيمي: لبنان بلد متميز في الكثير من الجوانب. شعبه شعب جذاب ومبدع. إنه أيضا بلد ينعم بتنوع لا وجود لنظير له على الإطلاق. بطبيعة الحال، هناك تاريخ مضطرب ولم تهتد طوائف البلد بعد إلى سبيل للتعايش السلمي. كما أن البيئة الجيوسياسية المحيطة ذاتها ليست بسيطة ولا سهلة. لقد شهد لبنان حربا أهلية قاسية دامت نحو سبع عشرة سنة وهناك العديد من الأسئلة التي تظل من دون جواب.إن اللبنانيين، أو على الأقل الكثير منهم، يطيب لهم أن يقولوا إن هذه الحرب الأهلية كانت، في الواقع، “حربا للغير”، أي حربا خاضها الفلسطينيون، السوريون، العراقيون، الإسرائيليون، وغيرهم على أرض لبنان بحيث لا تجدهم يقرون أنه كانت هناك، على أية حال، مجموعات لبنانية شاركت في هذه الحرب.اسمحوا لي بالإشارة في هذا السياق إلى أنني سمعت مثل هذا القول تقريبا في جميع الأزمات التي وجدت نفسي أمامها. في اليمن، أثناء قيام محاولة انفصال الجنوب سنة 1994، في أفغانستان وفي العراق. من الصعب على أي امرئ أن يعترف أن أقاربه، أصدقاءه، جيرانه، مواطنيه يتقاتلون بتلك الطريقة لأسباب محلية بحتة. لكن ذلك لا ينفي أن الحرب كانت لها أبعاد جهوية، بل ودولية، قوية جدا.

ومهما يكن من أمر، لقد جاء اتفاق الطائف، وعلى أساس هذا الاتفاق استطاع اللبنانيون تضميد جراحهم وإعادة بناء بلدهم. على الصعيد المادي، لقد كانت الجهود المبذولة في سبيل إعادة البناء مهمة بل وعظيمة. أما على الصعيد السياسي، فقد بُذلت جهود مضنية لم تعقها سوريا في جميع الأحوال. صحيح، لعل معظم اللبنانيين يبدون اليوم حكما قاسيا على دور سوريا في لبنان. بل إن بعضا من اللبنانيين ممن تعاونوا بقوة مع السوريين طيلة الثلاثين سنة الماضية سيقولون لكم إن تواجد هؤلاء بلبنان كان سلبيا للغاية. لاشك في أن السوريين لم يسمحوا بتطبيق صريح وصادق لجميع جوانب اتفاق الطائف. لقد تجاهلوا، على وجه الخصوص، وبكل بساطة، حكم الاتفاق القاضي بالبدء في سحب قواتهم سنة أو سنتين بعد دخول اتفاق الطائف حيز التطبيق. كما أنهم مارسوا سياسة التدخل في جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان. ولا أظنني مفشيا أي سر إن قلت إن الكثير من الضباط السوريين العاملين في لبنان قد جمعوا ثروات فاحشة و شجعوا على الفساد كثيرا. لا يتردد البعض اليوم في القول إن المسؤولين السوريين انتهى بهم المطاف إلى الاقتناع أنهم كانوا موجودين بلبنان إلى الأبد وكان في استطاعتهم مواصلة التصرف كما لو كانوا ببلد محتل إلى غير رجعة. كما أن هناك من يقول إن سوريا لقيت تشجيعا على التصرف بتلك الطريقة من طرف الولايات المتحدة الأمريكية إثر القرار الذي اتخذه الرئيس حافظ الأسد بالمشاركة في الحرب ضد العراق سنة 1991 بعد احتلال الرئيس صدام حسين للكويت.وفي ما يخصني، أقول إن الطريقة التي تصرف بها السوريون كانت، نوعا ما، ذات الطريقة التي تصرف بها المصريون في اليمن بعد سقوط نظام الإمام أحمد وإعلان الجمهورية من طرف عبد الله سلال في 1962، وكذا ما قام به المصريون في سوريا ذاتها، من 1958 إلى 1961، أثناء فترة “الجمهورية العربية المتحدة” القصيرة العمر. في الحقيقة، من الصعب دائما تأدية دور الشقيق الأكبر بصورة جيدة في مثل هذه الحالات وأنا متيقن من أن الكثير من السوريين يعترفون اليوم أن مسؤوليهم، بصفة عامة، وممثليهم هناك، بصفة خاصة، قد كانت لهم “يد من حديد” حقا في لبنان. وفي الأخير، أقول إنه على السوريين أن يفهموا اليوم أنهم لن يعودوا أبدا إلى لبنان وأن “لبنان بابا مات”. كما عليهم أن يطمئنوا اللبنانيين من هذا الجانب كي يتسنى للبلدين الشروع في إقامة علاقات حسن جوار لا يمكن لأي منهما الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال.

على الصعيد الداخلي، يبقى تطبيق اتفاق الطائف ناقصا لاسيما في ما يخص نقطة معينة أساسية. كما هو معلوم، كان من المفروض أن يفضي اتفاق الطائف إلى نهاية نظام الطوائف. لكن ما حدث، للأسف، هو العكس إذ أن هذا النظام لايزال قائما ويتقوى أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك، يدرك اللبنانيون اليوم ألا قاعدة أخرى يمكن أن ينطلقوا منها غير اتفاق الطائف من أجل الحفاظ على وحدة البلد واستعادة استقراره. وحسب علمي، هذا هو موقف الجميع اليوم في لبنان، بما في ذلك الجنرال ميشال عون الذي عارض الاتفاق بشدة في عهده. بطبيعة الحال، الأوضاع بالمنطقة لها تأثير قوي في الأحداث على الساحة اللبنانية ويمكن القول إن الإسرائيليين قد كان لهم دور في نشوء الحركة الشيعية “حزب الله” بعد الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان ابتداء من سنة 1978، أي نفس السنة التي انتصرت فيها الثورة الخومينية بإيران. كما أن إسرائيل هي التي أعطت نفسا جديدا لهذا التنظيم عندما منحت له فرصة المقاومة العنيدة التي كنا كلنا شهودا عليها في صائفة السنة الماضية.

إيران، من جهتها، تمارس تأثيرا في حزب الله، باعتراف الجميع ؛ مما يتسبب في مشكلات للبنان كما لباقي بلدان المنطقة، لاسيما بسبب تلك الأزمة الخطيرة التي تشهدها الساحة العراقية حاليا. يقول لي أصدقاء نافذون في بيروت إن الحرب الأهلية الدائرة رحاها بالعراق كانت على وشك الامتداد إلى لبنان لتنشب، لأول مرة، بين السنة والشيعة في بلد لم يكن البتة في حاجة إلي ذلك. كما أسمع أيضا، ولحسن الحظ، أن هذا الخطر لم يعد واردا، على الأقل في الظرف الراهن.هناك الكثير الكثير مما يمكن قوله بشأن لبنان والآثار التي يمكن أن تنجر عن الأزمة الداخلية ومشكلات المنطقة في الاتجاهين. أخشى أنني أفضت في الكلام وأملى أنني وُفِّقت في إعطاء نظرة شاملة حول المعضلات المطروحة في هذا البلد وفي المنطقة بأسرها.

م. ش. مصباح: مؤخرا، وافق مجلس الأمن على إنشاء محكمة دولية لمحاكمة المتهمين باغتيال رفيق الحريري. هل ستستطيع هذه المحكمة القيام بمهمتها ؟ وهل هذه المهمة من شأنها أن تعقِّد الأمور أم ستفضي إلى حل للأزمة اللبنانية ؟
ل. ابراهيمي: إنشاء هذه المحكمة هو في صلب الأزمة. الكثير من اللبنانيون سيقولون لكم إن معارضة السوريين الشرسة لإنشاء هذه المحكمة ومن يساندونهم لعلها أحسن دليل على ضلوعهم في اغتيال الحريري وكل الاغتيالات الأخرى التي تحزن، من حين إلى آخر، شعبا بأكمله.للأسف، هناك عدم ثقة عميق وانقطاع في الاتصال بين بيروت ودمشق، وحتى بين الأطراف اللبنانية ذاتها. إن الخلاف في لبنان لا يخص هذه المحكمة وحدها. فهناك موعد الانتخابات الرئاسية الذي يقترب بسرعة. إن عهدة الرئيس أمين لحود على وشك الانتهاء ويفترض في البرلمان اللبناني أن ينتخب خليفته قبل أكتوبر كأقصى حد. الكثير من المواقف والمناورات والتحالفات تأخذ بعين الاعتبار هذا الموعد. الطائف كانت ممكنة لأننا استطعنا من أن نجند وراء اللجنة الثلاثية العليا (الجزائر، العربية السعودية والمغرب) كل الدول العربية والمجموعة الدولية برمتها. نحن، كما ترون، أبعد مما نكون عن ذلك حاليا.

م. ش. مصباح: نهاية “الأبارتايد” بإفريقيا الجنوبية قد شكل، وبكل بساطة، مرحلة حاسمة في تاريخ البشرية. حسب رأيكم، ترى هل حل الأزمة – الذي تم هناك بطريقة مثالية – جاء نتيجة لإدراك “المعمرين البيض” استحالة استمرار نظام “الأبارتايد” أم لكفاح المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) الذي حظي بتعاطف كبير على مستوى الساحة الدولية ؟
ل. ابراهيمي: الوضع في إفريقيا الجنوبية سنة 1994 كان، بكل بساطة، وضعا سحريا. لقد كان، إن سمحتم لي بالقول، من أحدِّ الحلقات وأسعدها في مسيرتي الدبلوماسية كلها وأنا أشاهد آخر معقل للاحتلال الأوروبي لأفريقيا ينهار أمام الأعين. لقد كان هذا الاحتلال من أبشع أنواع الاحتلال حيث كان يشبه، في الكثير من جوانبه، ما عانيناه في بلادنا حتى وإن كان أكثر تجذرا هناك.لاريب في أن نيلسن مانديلا كان واحدا من عمالقة القرن العشرين. يا له من قدر ! رجل اعتقل وعمره ثماني وأربعون سنة ليخلى سبيله، بعد معاناة وإهانة طويلتين، وعمره خمس وسبعون سنة. ورغم ذلك، ظل محتفظا بطيبته، بصبره وبتسامحه ولم تبرحه روح النكتة ولا فقد فصاحته. في الطرف الآخر، كان فريدريك دوكلار، ذلك الرجل الذي كان منذ سنوات فقط من بين أشد العنصريين تطرفا، هاهو اليوم يتغير رأسا على عقب، بصورة لم تكن متوقعة، فيقبل، بطيبة خاطر، بوضع نهاية لنظام “الآبارتايد” ويرضى بالإسهام في بناء إفريقيا جنوبية جديدة. عند هذا الحد، أرجو منكم أن تسمحوا لي بإفاضة صغيرة أود أن أستعرض، من خلالها، بعضا من خصال مانديلا. عندما زرته لأودعه، دعاني برفق إلى غداء عنده بالبيت على انفراد. أول ما قام به هو تقديم طباخته لي، وكانت مناضلة سابقة. أثناء تناول الغداء، بدأ يحدثني عن زيارته إلى المغرب فترة قصيرة قبل التوقيع على اتفاقيات إيفيان. لقد كانت قدرته على تذكر الأسماء والأماكن خارقة. بعد ذلك، سألني عن أخبار نور الدين جودي الذي رافقه إلى معسكر لجيش التحرير الوطني أيام الحرب. كما حدثني عن “ممثل الجزائر بالرباط، الدكتور مصطفي، على ما أظن” كما قال (بطبيعة الحال، كان يقصد الدكتور شوقي مصطفاي) وروى لي أنه قال له آنذاك كلاما لم ينسه أبدا وتذكره عند الشروع في المحادثات مع بريتوريا. وإليكم النصيحة التي نصحه بها الدكتور مصطفاي كما رواها منديلا : “وأنا رهن الاعتقال، كنت أظن أن الكفاح كان، بطبيعة الحال، أمرا ضروريا. إلا أنني كنت أيضا أدرك أن إنهاء الحرب يستدعي الكلام أي التفاوض…”. هذه الإشارة إلى الأخ شوقي مصطفاي مذكورة في السيرة الذاتية لمانديلا إلا أنه لا زال دائما يقول “الدكتور مصطفى” !ترى، كيف انتهى نظام الميز العنصري ؟ كفاح المؤتمر الوطني الإفريقي كان حاسما، طبعا. لكن لاشك أن في أن الدعم الخارجي والرفض الشبه التام على الساحة العالمية لهذا النظام قد أتيا أكلهما في نهاية الأمر. لقد ظل الغرب الرسمي، أعني حكومات بلدانه، فترة طويلة، مؤيدا لنظام البيض في سياق الحرب الباردة. بالنسبة إليهم، كان من الضروري معارضة المؤتمر الوطني الإفريقي لأنه كان شيوعيا في رأيهم وكذا معارضة حركات التحرر في المنطقة لأنها كانت قادرة على التحالف مع الاتحاد السوفييتي. لكن سياسة غورباتشوف بعد وصوله إلى الحكم طمأنت، شيئا فشيئا، واشنطن، لندن وحلفائهما. أضف إلى ذلك ارتفاع سمعة المؤتمر الوطني الإفريقي لدى الرأي العام الدولي، كما ظلت مقاطعة النظام العنصري تزداد محققة انتصارات. أضف إلى ذلك أن فئة السود، لاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، صارت مجندة أكثر فأكثر لصالح المؤتمر الوطني.هكذا بدأ الغرب بإجراء تغيير في سياسته وأخذ يتراجع، تدريجيا، عن دعمه لبريتوريا. تلك هي الظروف التي بدأت فيها مجموعة من البيض التفكير في التغيير. كان دوكلار مترددا إلا أن الأمر انتهى به إلى الموافقة على إجراء محادثات مع منديلا بسجنه. البقية، تعرفونها…

م. ش. مصباح: هل تعتبرون أن مسار المصالحة في إفريقيا الجنوبية يشكل قدوة ومصدر إلهام أو على الأقل تجربة تستحق التأمل فيها ؟
ل. ابراهيميهناك الكثير مما يمكن تعلمه من تجربة إفريقيا الجنوبية. غير أنه يتهيأ لي أن منظمة الأمم المتحدة حاولت، في بعض الأحيان، نقل هذه التجربة كما هي إلى حالات مختلفة تماما، لاسيما تلك المبادرة الشهيرة التي تمثلت في “اللجنة من أجل الحقيقة والمصالحة” فظهرت لجان كثيرة من هذا النوع في كل مكان تقريبا. حسب علمي، اللجنة الوحيدة التي استطاعت أن تحقق بعض النتائج هي تلك التي تم إنشاؤها بغواتيمالا. كما أعلم أن اللجنة التي أنشئت بهايتي لم تفد في شيء.من بين الدروس التي استخلصتها من تجربتي الشخصية بإفريقيا الجنوبية وأماكن أخرى هو أن ليس هناك أزمة تشبه أخرى. وعليه، لا وجود لحل جاهز يمكن تطبيقه، بصورة آلية، في كل مكان.

م. ش. مصباح: من الثابت أن منظمة الأمم المتحدة صارت تتوفر على نموذج قائم في ما يخص استعادة السلم بالاعتماد على آلية دولية للتسيير الإداري، الأمني، والعسكري للأوضاع السائدة في البلدان المعنية. انطلاقا من حالتي هايتي وأفغانستان، ما هو تقديركم لفعالية المنظمة الدولية ودورها في هذا المجال، وكذا فعالية الآلية المذكورة ودورها ؟
ل. ابراهيمي: أولا، هناك نقطة ينبغي توضيحها. لست أدري ما إذا كنتم تقصدون بـ “الآلية الدولية الإدارية، الأمنية والعسكرية” الإشارة إلى حالتي كوسوفو وتيمور الشرقية على وجه التحديد. فإذا كان ذلك هو المقصود، فإن منظمة الأمم المتحدة قد أشرفت، فعلا، على الإدارة المباشرة لهاذين الإقليمين. في تيمور (“Leste” كما صارت تسمى)، انتهت هذه الإدارة المباشرة، عكس كوسوفو التي تعرف صعوبة في إيجاد حل يمكن المنظمة من إسناد المهمة إلى غيرها. اسمحوا لي بالقول إنني كنت، ولازلت، أعارض بشدة مثل هذه الممارسة، لذلك رفضت رئاسة بعثة الأمم المتحدة إلى كل من هاذين الإقليمين. في التقرير المعروف بـ “تقرير ابراهيمي” الذي قد نعرض له في ما بعد، قلنا إذا كانت منظمة الأمم المتحدة تنوي تعميم هذه الممارسة لتحيي، نوعا ما، نظام “الوصاية” القديم، فما عليها إلا أن تعلن ذلك صراحة وتطلب بعده عهدة واضحة من الجمعية العامة. في هذه الحالة، ستكون البلدان العضوة في حاجة إلى تزويد منظمتها بالأدوات الضرورية التي تفتقر إليها اليوم. إن تيمور وهايتي إقليمان صغيران جدا، غير أن منظمة الأمم المتحدة وجدت صعوبات جمة في إدارتهما بصورة مرضية ؛ فما بالك لو تعلق الأمر بإقليم أكبر وبعدد من السكان أكثر أهمية ؟ المجال الذي تتوفر فيه منظمة الأمم المتحدة على أداة كافية نوعا ما – تقريبا في مستوى ما هو مطلوب – مع تجربة بدأت تُأخذ بعين الاعتبار هو مجال “عمليات السلام” كيلا أستعمل عبارة أقل دقة بعض الشيء، ألا وهي العبارة المستعملة عادة “عملية حفظ السلام”. تشرف منظمة الأمم المتحدة حاليا على ما لا يقل عن 18 عملية من هذا النوع وبتعداد يبلغ نحو 100.000 شخص من بينهم حوالي 80.000 جندي ونحو من 8.000 إلى 10.000 آلاف شرطي، والباقي مدنيون. من أجل ذلك، وضعت تحت تصرفها ميزانية تبلغ نحو 06 مليارات دولار، أي أزيد من ضعف المبلغ المتبقي للأمانة العامة. في هذا النوع من المهمات، منظمة الأمم المتحدة لا تدير الإقليم وإنما تقدم دعما للسلطات المحلية المتمخضة عن عملية سلم تكون المنظمة الأممية وراءها في الكثير من الأحيان، لكن ليس في جميع الأحوال. في هذه الحالة، يتعلق الأمر، أساسا، بمرافقة السلطات المحلية أثناء قيامها ببلد غالبا ما يكون قد تعرض لتخريب واسع النطاق بعد سنوات من النزاعات الداخلية.

عمليات السلام التي تشرف عليها منظمة الأمم المتحدة تكاد تكون مفيدة في جميع الأحوال، وتارة استطاعت أن تحقق نتائج لا بأس بها مثلما هو الحال بالنسبة إلى الموزمبيق، أو ناميبيا مثلا. وفي حالات أخرى، تجد المنظمة صعوبات كبيرة وترتكب أخطاء حتى وإن استطاعت أن تحقق بعض النتائج في نهاية الأمر. انظروا إلى أنغولا، سيرا ليون، بل وحتى ليبيريا وكمبوديا. في كثير من الأحيان، تستعجل منظمة الأمم المتحدة وأعضاؤها الأمور بإعلان النصر فيقع الانسحاب. لكن سنوات من بعد – عادة من سنتين إلى خمس سنوات – يحيى النزاع من جديد، كما حدث في هايتي، وربما سيحدث في أفغانستان. في صنف آخر من الحالات، ارتكبت منظمة الأمم المتحدة أخطاء جسيمة، كما هو الشأن في ما يخص كلا من البوسنة ورواندا. لقد مثلت هاتان الحالتان حرجا شديدا للمنظمة بسبب أعمال التقتيل التي وقعت بسبرينتشا (البوسنة) والإبادة في رواندا. وهناك حالة الصومال كمثال، لم ينتشر لحسن الحظ، والذي كان عبارة عن إخفاق فظيع لمنظمة الأمم المتحدة والمجموعة الدولية بشكل عام.

لقد صدر العديد من الكتب، وبكل اللغات، حول مشكلات “الدول الفاشلة (أو ‘العاجزة‘)” – إن كانت هذه الترجمة صحيحة للعبارة الإنجليزية “Failed States” – وحول “حفظ السلام”، “عمليات السلام” وما إلى ذلك من التسميات. معنى ذلك أن هناك الكثير مما يمكن قوله حول هذا الموضوع. ولو أردنا أن نختصر الحديث، يمكن القول، على أية حال، إن منظمة الأمم المتحدة تقوم بعمل مفيد في هذا المجال حتى وإن كانت هناك نقائص عديدة وثغرات كثيرة ينبغي سدها. ثم علينا ألا ننسى أبدا، في هذا السياق كما في غيره، أن منظمة الأمم المتحدة ليست الأمين العام ومن يشاركه عمله في بعض الأحيان، مثلي أو مثل الأخ محمد سحنون، وإنما الدول العضوة ذاتها لاسيما أقواها وبصفة أخص الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الذين هم أصحاب القرار. الإرادة السياسية لهؤلاء هي التي تفضي إلى قرار ترتيب عملية سلام ما، مواصلتها أو إنهائها أو حتى رفضها أصلا منذ البداية. إنها البلدان العضوة هي التي توفر العدد والعدة، أفراد الشرطة والعاملين المدنيين، بالإضافة إلى التمويل طبعا. هذا، ومن الواضح أن هذه الدول لا تتوانى في نسب الفضل إليها في حالة النجاح وتلقي باللائمة على “منظمة الأمم المتحدة” في حالة الإخفاق متهمة “بيروقراطيي” (بالمعنى السلبي للكلمة) الأمانة العامة بالقصور. كثيرا ما كنت أقول لزملائي إن من بين وظائف هذا الجزء من المنظمة الأممية (أي الأمانة العامة) هو، بالذات، القبول باللوم بسبب أخطاء ارتكبتها الدول العضوة.

م. ش. مصباح: في العراق على وجه التحديد، يمكن القول إنه وقع استبعاد لمنظمة الأمم المتحدة من تسيير الأزمة الداخلية في هذا البلد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!