-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الأرباح والخسارة في شراء “الحكم الراشد” من النصارى

حبيب راشدين
  • 6398
  • 1
الأرباح والخسارة في شراء “الحكم الراشد” من النصارى

بالاحتكام إلى ميزان الربح والخسارة، فإن الربيع العربي الذي أراد منشطوه “شراء” الحكم الراشد من النصارى يكون قد أفلس حتى قبل وصول السلعة إلى المرافئ، وكان كمن استجار من الرمضاء بالنار، ليقود شعوبا بأكملها إلى حتفها بظلفها، تستبدل نظما أهلية مستبدة فاسدة، بقيادات ينصبها علوج النصارى وأعاجم دار الإسلام.

ربما نحتاج إلى قدر من حسن النية، واستبعاد مفردات قد تنسب إلى نظرية المؤامرة، والاعتراف بأن الواقع المزري، الذي كانت تعيشه الشعوب العربية من البحر إلى البحر، كان كافيا لتحريك الشارع في اتجاه الاحتجاج والمطالبة بالتغيير، لم يلتفت إليه النظام العربي الرسمي، كما لم ينتبه إلى شواهد كثيرة، كانت تؤشر بوضوح لوجود حاجة لدى أقطاب القوى الغربية، وبعض الدول الإقليمية، إلى تحريك مياه العرب الراكدة.
وكيفما كان مقدار الجهل والتسيب الذي قد يوصف بهما النظام العربي الرسمي، فإنه لم يكن ليتجاهل استحالة الاستمرار في إدارة الشعوب العربية بمشهد سياسي مغلق بالكامل، يمنع الحد الأدنى من المشاركة الشعبية في إدارة الدولة، ومراقبة توزيع الثروة، أو يتجاهل استحالة المضي في التضييق على الحريات الفردية، والاستعمال المفرط للقوانين الاستثنائية، مع استهتار واضح بالدساتير حين توجد، وإقصاء آثم لشريحة الشباب المتعلم، من حق المشاركة.

.
 قرصنة غربية لحراك عربي مشروع
الإغلاق المحكم للمشهد السياسي كان وحده كافيا لتحريك الشارع العربي، فكيف وقد اقترن بفشل الأنظمة في إدارة التنمية وتحريك الاقتصاد، مع قصور فاضح في الاستجابة للحد الأدنى من الخدمات، في دول لم تكن تفتقر لا للموارد المالية، ولا للطاقة البشرية والكفاءات؟ وكيف لا نتوقع حراكا من شعوب، ثلاثة أرباع سكانها هم دون سن العشرين، وبمستوى تعليمي لا يسمح بالتغاضي عن استشراء الفساد.
ومع هذا الفشل على المستوى القطري، في إدارة الدولة وقيادة التنمية، والإخفاق في تحقيق قدر من العدالة في توزيع الثروة، والتعويل على المؤسسات القمعية في التعامل مع المعارضة، فإن الشعوب العربية كانت ستختار مسارات أخرى للتعبير عن الغضب، وعن مطالبها المشروعة في التغيير، لو لم يصدمها النظام العربي الرسمي بإخفاقات متلاحقة في ترقية العمل العربي المشترك، والقصور في الدفاع عن الحقوق العربية والإخفاق في انتزاع مكانة محمودة للأمة العربية بين الأمم، أضيف إليه، في العقدين الماضيين، التآمر الفاضح للعرب ضد دول وشعوب عربية، بدءا بالتآمر على القضية الفلسطينية ومسارات المقاومة، وأخيرا المشاركة في التمكين لاحتلال الغرب لبلد عربي بحجم العراق، وتدميره بالكامل.

.
 قفا نبكي على “غراوند زيرو” عربي
مجمل الإخفاقات العربية، في هذه المستويات الخمسة، كانت قد بلغت مع نهاية 2010 نقطة “الغراوند زيرو” مستوى الصفر، حيث يبدأ المستنقع، وتتراكم المياه، ويمتنع التمدد، ويزداد الضغط الذي ينتهي حتما بالانفجار كما تعلمنا الفيزياء، ويخبرنا علم الاجتماع والتاريخ. لأجل ذلك، يكون لزاما على كل عاقل منصف أن يقر بشرعية حراك الشعوب نحو تغيير مثل هذا الواقع، لولا العبث الغربي، والتآمر الإقليمي الذي سارع إلى اختطاف قيادة التغيير من الشعوب، ووضع الحراك على سكة تقود في النهاية إلى طريق مسدود، بعد أن يستوفي العابثون مآربهم، وينفذون برنامجهم المعلن سلفا في تفكيك العالم العربي، ومسخ هويته، وبناء شرق أوسط أمريكي على أنقاض نظام عربي متهالك.
 أحزاب بالجملة لديمقراطية تسوق بالتقسيط
فمع قدر من التجاوز والتأويل الإيجابي، وصرف النظر عن الفاعلين الحقيقيين في الحراك الذي أطاح ببن علي ومبارك، فإنه يتكشف في المشهدين، التونسي والمصري، جملة من المغانم التي لا ينبغي إنكارها، على الأقل في ذلك الانفتاح الحاصل في المشهد السياسي، بعد تفكيك الحزبين الحاكمين، واختفاء الرموز السياسية البارزة للنظامين، ومن ذلك الوقوف عند حركة تكوين وتشكيل الكيانات السياسية، الذي تجاوز عددها في تونس 111 كيان سياسي، ومثله في مصر، صاحبه انفتاح أوسع في المشهد الإعلامي بمختلف الوسائط.
 ومن المغانم أيضا، نشوء حالة من الزهو الوجداني، والإحساس بالقدرة على التغيير بعد دهر من اليأس والتشكيك في القدرة على التغيير، عند شعبين طالما عيرهما بعض الإعلام العربي والغربي بالاستكانة، وبالتحمل المشين لعبث أنظمة بوليسية.

.
 في انتظار شعار “ترحيل العسكر”
الوقوف على المغارم، أو على الأقل، استشراف حدود التغيير التي بدأت ترتسم، لم يكن من جهة الأطراف التي عارضت الحراك الشعبي، أو شككت في أصالته وبعده الشعبي، بل يأتي اليوم على لسان الجهات التي قدمها الإعلام، كقوى مفجرة للثورة، ونخب قائدة بالأصالة للربيع العربي، والتي قد تعود إلى ميادين التحرير بشعار يقول هذه المرة: “الشعب يريد ترحيل العسكر” أو الذهاب إلى ما ذهب إليه “المجتمع المستفيد” من فلول العلمانيين، في التسعينيات من القرن الماضي في الجزائر، ودعوة المؤسسات العسكرية في تونس ومصر إلى حماية الديمقراطية الناشئة من الإسلاميين “الظلاميين”
فالمؤسسة العسكرية في مصر وتونس، الماسكة بزمام الأمور، وبعد أن استعانت بالشارع لاقتلاع رأسي النظام، وتحقيق انقلاب أبيض، نراها قد دخلت في لعبة تفريق صفوف “الثوار” بتخويف العلمانيين بالإسلاميين، استباقا للحظة التي سوف تحتاج فيها إلى شارع يطالبها بتعطيل مسار انتخابي، وتخويف الإسلاميين من الإخوان بالقوى السلفية المدعومة من الخليج من جهة، وقوى ليبرالية علمانية تحظى بدعم غربي، لتحتفظ المؤسسة العسكرية بدور الحكم، وتسوق لدور محوري للعسكر في إدارة التغيير، خاصة وأن المؤسسة العسكرية، التي استجابت للشارع بمحاكمة بعض الرموز البارزة في النظام، نراها اليوم تعزز تحالفها العضوي مع المؤسسات الإدارية والبيروقراطية الموروثة عن النظام السابق، وتحميها من المضايقات ودعوات التطهير.

.
 مغارم شعب عند شعب مغانم
قد يكون من اللائق صرف النظر عن الكارثة الحاصلة في ليبيا، وامتناع التغيير في اليمن وسورية رغم الكلفة، لنتوقف قليلا عند مغارم الحراك الشعبي في تونس ومصر التي تبدو أكثر وضوحا، إذا ما قسناها بما تحقق في الجزائر والمغرب، حين التقى ذكاء النظامين مع توفر قدر من الحكمة والبراغماتية عند النخبة والطبقة السياسية في البلدين، وفطنة شعبية جنبت البلدين والشعبين الدخول في مغامرة الثورة المقرونة بالفوضى، وما يرافقها عادة من تدخل أجنبي، رأينا ماذا فعل بالشعب الليبي. فقد تخلص النظام في الجزائر في وقت مبكر من قانون الطوارئ، وأدخل تعديلات جوهرية على قانون الأحزاب، وخاصة تعديل قانون الانتخابات الذي سوف يضيق من هامش التزوير في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، واتخذ قرار فتح الفضاء الإعلامي السمعي البصري للمبادرة الخاصة، مع جملة من الإجراءات المرافقة على المستوى المعيشي ساعدت على تنفيس الاحتقان، وإجهاض تصدير ثورة الفيس بوك إلى بلد لم يكن بحاجة إلى تجربة المجرب.
نظام الحكم عند جيراننا المغاربة كان بدوره في الموعد، واستبق الموجة بتعديل دستوري، وضع المغرب على مشارف ملكية دستورية، قد ينتقل إليها المغرب بهدوء في العشر سنوات القادمة، ما لم تتدخل الأيادي الغربية العابثة، أو تنساق بعض القوى السياسية إلى بعض الإغراءات، كما حصل تحديدا للإخوان في مصر وسورية وليبيا واليمن.

.
 تقسيم المقسم في مشهد سياسي ملغم
وفي كل الأحوال، فإن الحراك الشعبي في تونس ومصر كان سياسيا أقل كلفة من الحراك في اليمن وسورية، وخاصة في ليبيا، التي تحولت إلى كيان يعبث به النيتو والجماعات المتطرفة ودويلة قطر. وفي أسوء الأحوال، فإن مغارم الحراك، الذي أطاح ببن علي ومبارك، سوف تكون له فاتورة مؤلمة على المستوى الاقتصادي والمعيشي، حتى لو صدقت نية نادي الثمانية في إسعاف البلدين بالقروض التي وعد بها. غير أن أخطر ما يتهدد الشعبين والبلدين، هو أن تتحول فيهما القوى الإسلامية إلى أدوات لصراع إقليمي بين تركيا الأردوغانية، التي تقاول من الباطن وبوضوح لحساب الأمريكيين، من أجل استنساخ نموذج تركي، يتحالف فيه الإخوان مع العسكر لبناء دول علمانية بمسوح إسلامية، والسعودية التي تشجع في الخفاء التيار السلفي، ليقوم بدور المعوق المزايد على الإسلاميين من الإخوان، والذي قد يوفر لها موطئ قدم، وأداة ضغط على النظام القادم في مصر.
 ومن أجل الاستعداد لهذه المواجهة، التي لها صلة بالتحكم مستقبلا في إدارة التغيير الحاصل في العالم العربي، تابعنا ذلك التوافق العجيب والغريب بين أقطاب الغرب الصليبي، وتركيا الإسلامية، وإمارات الخليج، من أجل إسقاط النظام الليبي بحرب مدمرة، سوف تترك ليبيا أرضا مفتوحة لجميع التيارات، وللأطراف التي تنوي لاحقا توظيف مجاميع مسلحة، كأدوات للتأثير على الأوضاع في تونس ومصر وبقية دول الجوار، توظف للضغط على النظم في ملفات إقليمية كثيرة، وتحديدا في الملف الفلسطيني.

.
  ثناء الغرب على الخيانة عند العرب
 عند هذا الحد من جرد الحساب، نكون قد وقفنا عند المستويين: الرابع والخامس، واعني تأثير الربيع العربي، سلبا أو إيجابا، على الفضاء العربي، وعلى العلاقات بين مكوناته، وعلى دوره المرتقب في الشرق الأوسط الجديد. وفي هذا السياق، سوف أتنازل عن الحق في التقييم للرئيس الفرنسي، الذي أشاد بالربيع العربي لأنه لم يظهر أي عداء للغرب ولإسرائيل، ونوه بدور الجامعة العربية، وبمشاركة ثلاث دول عربية في العدوان على ليبيا، فأكد من دون أدنى تردد: أنه لولا مشاركة قطر والإمارات والأردن لما أمكن للنيتو التدخل في ليبيا. ولنا أن نستعين بموقف الرئيس الأمريكي الذي عنف بلهجة عالية النبرة النظام المصري بعد حادث اقتحام السفارة الإسرائيلية، ولم يعر أي اهتمام لمشاعر شعب الربيع العربي، حين تعلق الأمر بحماية إسرائيل من قيام الدولة الفلسطينية، أو نستمع إلى قيادة النيتو وهي تتوعد الشعب الليبي بحضور عسكري دائم سوف يحول ليبيا إلى أفغانستان جديد، وينوه بدور مستقبلي للنيتو في توسيع جغرافية الربيع العربي.

.
  حرب المائة عام بين “الفرق الناجية”
خمسون ألف قتيل في ليبيا وحدها، وقرابة ثلاثة آلاف في سورية، والمئات من الضحايا في تونس ومصر واليمن، ناهيك عن خسائر مالية قدرت في ليبيا وحدها بمائتي مليار دولار، وبداية حرب أهلية في اليمن، وأخرى تسعر نيرانها في سورية، وتفجير صراعات من نوع جديد، تقسم الشعوب مجددا إلى فسطاط إسلامي، وخيمة لليبراليين والعلمانيين، وتقسم الإسلاميين إلى إخوان تحركهم تركية، وسلفية تابعة للسعودية، وباطنية صوفية تقاول من الباطن للتوغل الشيعي، حين يتعذر تقسيم المسلمين من العرب إلى شيعة وسنة، وتقسيم خيمة غير الإسلاميين إلى بقايا وفلول عميلة للنظم الساقطة، ومجاميع عميلة للغرب، ينافسها بعض الإسلاميين في “شرف” الاستقواء بالقوة الناعمة والخشنة للغرب.
وإذا كان هذا هو الثمن الذي دفعته الشعوب العربية لحمل رئيس عربي على الهروب، وإحالة زعيم آخر على المحاكم، قد يدركه ملك الموت قبل أن يدركه حكم القاضي، وتمكين ثالث من الانتقال إلى قيادة مقاومة لاحتلال أجنبي، مع خسارة مالية قد تفوق مرتين الدخل القومي الخام لدولة عربية كبرى بحجم مصر، فما هو الثمن الذي كانت ستدفعه شعوب العالم العربي للتخلص من 20 نظيرا غير مشع لبن علي ومبارك على مذبح كنيسة الديمقراطية التي يغري عليها الدجال الغربي؟

    أضف تعليقك

    جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

    لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
    التعليقات
    1
    • عبدالله

      ياليت قومى يفهمون
      ربنا ياخد بيدك ياحبيب