الرأي

الأستاذ محمد علي دبوز

ح.م

منذ تسع وثلاثين سنة، وفي مثل هذا اليوم انتهت حياة أحد أبناء الجزائر، الذين عرفوا قيمتها فوقفوا عليها حبّهم وحياتهم، فعرّفوا بها، وأشادوا بتراثها، وافتخروا بأمجادها، وتأسّوا برجالها، وخدموها في ميدان قلّ فيه الخادمون، ولا يقدر على خدمتها فيه إلا صنف من الرجال يتحلى بثلاث صفات هي العلم، والعزم، والصبر على تكاليف العمل في ذلك الميدان المادية والمعنوية..

فأما الميدان فهو “التاريخ”، وقد عشق هذا الابن البار تاريخ الجزائر، وعرف ما يحتويه من أساطين العلم، وأبطال الوغى، فراح يطبق على ذلك التاريخ المجيد ما قاله شاعر العربية وحكيمها في التاريخ المعاصر، أحمد شوقي:

                   غال بالتاريخ، واجعل صحفه          من كتاب الله في الإجلال قابا

                   قلّب الإنجيل، وانظر في الهدى                 تلق للتاريخ وزنا وحسابا

إن التاريخ – إن أحسن توظيفه – يؤدي دورا هاما في حياة أي شعب، وتلاحم أبنائه، ودفعهم إلى أن يسترخصوا كل نفيس في سبيل الذود عن وطنهم وشعبهم.

وكان من أبرز الأسلحة وأشدها التي استخدمتها فرنسا ضد الشعب الجزائري، سلاح التاريخ، فجنّدت من أجل تدمير “العقل الجزائري” ومحو “الأمة الجزائرية” جيشا لا يحمل البنادق لقتل الأجسام، ولكنه يحمل الأقلام لقتل الأرواح والأحلام، أو لشلّها عن كل فعل مضاد للمخطط الفرنسي الخبيث، وهو ما أطلق عليه بعض الدارسين “نزع السّلاح المعنوي” للجزائريين (le désarmement moral des Algériens)، وماتزال فرنسا مصرّة على السير في هذا الميدان، ولا أدل على ذلك من “استبسالها” في الاحتفاظ بما سرقته مما يتعلق بتاريخ الجزائر وتراثها المادي والمعنوي.

وأما هذا الابن البار الذي “جاهد” في هذا الميدان لوحده، من غير مؤازرة، فلا يكاد يعرفه إلا قلة من الجزائريين، لأن هناك “إرادة” لتجهيل الجزائريين بـ”الخلّص” من جنودهم، الساهرين على حدودهم الحضارية، المتصدّين لأعدائهم الحقيقيين، هذا الابن هو الأستاذ محمد علي دبوز، الذي رأى النّور في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي في مدينة بريّان من ولاية غرداية..

بعد دروسه الأولى في بلدته التحق بمعهد الحياة في القرارة، ثم توجه إلى تونس، ومنها إلى مصر – مشيا على الأقدام – ليتزود مما حرمته منه فرنسا في وطنه، وهو العلم، فنال منه – بجدّه – الشيء الكثير، وإن لم ينل أي شهادة، ورجع في نهاية الأربعينيات إلى القرارة لينضم إلى هيئة التدريس في المعهد الذي درس فيه، فأفاد فائدة اعترف بها طلابه ومسيّرو المعهد، ويشهد عليها تراثه المطبوع وغير المطبوع، وأهم ما طبع “تاريخ المغرب الكبير” في ثلاثة أجزاء، و”نهضة الجزائر وثورتها”، و”أعلام الإصلاح”.

يعتبر الأستاذ دبوز حلقة وسطى وصلت بين رواد المدرسة التاريخية الجزائرية (الميلي، المدني، الجيلالي)، وبين جيل المؤرخين الأكاديميين مثل سعد الله، واقبال، وبلحميسي ومن تخرج على أيديهم، وصاروا من ابرز المؤرخين الجزائريين. إن الأستاذ دبوز بدأ معركة تحرير تاريخ الجزائر مع استرجاع الاستقلال قبل أن يكتب الأستاذ محمد شريف الساحلي كتابه الذي دعا فيه إلى تحرير التاريخ.

مقالات ذات صلة