جواهر
وجهات نظر

الأم التي انتهت صلاحيتها!

سمية سعادة
  • 5027
  • 20
ح.م

كانت تقف بإحدى محطات الحافلات بساحة الشهداء، وقد أنهكتها السنوات الطويلة التي قضتها في تربية البنين والبنات، وتجاعيد وجهها تحكي سبعة عقود من الزمن تركت جراحا عميقة في قلبها المكسور.

ظلت تلك العجوز تشكو لامرأتين كانتا تنتظران معها قدوم الحافلة الرابطة بين ساحة الشهداء وابن عكنون بحرقة شديدة ولم تستطع أن تحبس دموعها وهي تروي تفاصيل معاناتها بعدما طردها ابنها، فلذة كبدها، من المسكن واستحوذ عليه رفقة زوجته، وكأن صلاحيتها كأم انتهت بعدما تزوج ابنها، ومن الغريب في الوقت ذاته، أن تنتقل هذه العجوز للإقامة بمفردها في شقة مؤجرة، لم تكشف لجليساتها، من أين تأتي بالمبالغ التي تدفعها مقابل استغلال تلك الشقة.

وعندما سألتها إحدى المرأتين عن سبب عدم إقامتها عند إحدى بناتها، لم تمهلها المرأة الثانية حتى تجيب فردت بدلا عنها قائلة: “إذا كان ابنها لم يقبلها، فكيف يقبلها صهرها؟!”.

ولأن الجرح كان عميقا، فإن العجوز لم تستطع كبح جماح لسانها، وواصلت حديثها، واسترسلت تشكو تلك الآلام التي تعانيها بسبب عقوق أبنائها، ثم غادرت تحمل حقيبتها مستقلة الحافلة إلى ابن عكنون.

تتكرر مثل هذه القصص المؤلمة عن عقوق الوالدين في الجزائر، وديار الرحمة تعج بمختلف الحكايات التي يندى لها الجبين، أبطالها أبناء لم يراعوا حرمة وقدسية رابطتي الأبوة والأمومة، التي لولاها لما رأوا نور الحياة.

قبل تطور المجتمع الجزائري معرفيا وماديا، كانت المنظومة الأخلاقية تراهن في الأساس على قداسة مكانة الوالدين، فتضعهما في أعلى المراتب، وتقرن طاعتهما بطاعة الله ورسوله، امتثالا لأوامر الإسلام الذي شدد على ضرورة برهما من طرف الأبناء تحت كل الظروف.

غير أن انتشار التعليم، فيما يبدو، ليس معناه بالضرورة انتشار محاسن الأخلاق، ذلك أن القصص المروعة التي تطالعنا بها الأخبار بشكل مستمر تدل على أن العلاقات الاجتماعية، التي كان يسودها الاحترام بين أفراد الأسرة، وأيضا بين مختلف الفئات الاجتماعية الأخرى، كالجيران والأقارب، صارت تتغير شيئا فشيئا، لتصبح أقرب إلى العداوة والبغضاء، وهو الأمر الذي ينذر بمزيد من التفكك الاجتماعي والأسري، إذا لم تكن هناك عمليات إصلاح تربوي تقوم بها مختلف المؤسسات الاجتماعية، بداية من الأسرة، ومرورا بالمدرسة ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية، التي يقع على كاهلها تقويم السلوكات المنحرفة وتصحيحها.

وحتى في أسوأ الظروف الاجتماعية التي مرت بها الجزائر، لم نكن نسمع عن قصص يتم فيها ضرب الوالدين أو سفك دمائهما، وهذا ما يجعل من التحجج بسوء الأوضاع الاجتماعية الحالية كمبرر لارتكاب تلك الفظائع، أمرا غير مقبول، لأنه مهما كانت قسوة الأحوال الاقتصادية في زمننا، فلن تكون مثل تلك التي قاساها المسلمون الأوائل، ومع ذلك فقد ضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين، ويكفي أن نعود إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام لنقف على مئات من القصص الرائعة عن حسن الخلق وآداب المعاملة، التي ينقصنا أن نقتدي بها لتحسين حياتنا التي نحياها اليوم في نكد وحزن ومشقة.

مقالات ذات صلة