-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الإعلام التفاعلي.. هل يصلح بديلا علميا عن الاستبيان؟

الإعلام التفاعلي.. هل يصلح بديلا علميا عن الاستبيان؟

منذ ما يقارب العقدين من الزمن الدعوي والعلمي والمعرفي والثقافي والبحثي والمنهجي الفاعل بين مدرّجات ومكتبات الجامعات، تشرّفت بتكوين خيرة ونماذج طلبة دفعات الدراسات العليا من الناجحين في مسابقات الماجستير في قسم الدعوة والإعلام والاتصال، وفي أقسام علوم الإعلام والاتصال في رحاب بعض جامعات الشرق الجزائري، والذين هم اليوم يديرون المشهد العلمي والمعرفي والتكويني والبحثي بامتياز في أقسام الإعلام والدعوة والاتصال.

وكان فيما كان يومئذ من بين العقبات الكؤود التي تعترض الطلبة الباحثين لإنجاز أبحاثهم منهجية البحث الميداني التجريبي، الذي يعتمد على محاولة ضبط وقياس واختبار الجمهور المدروس من العينات على اختلاف أنماطها (الطبقية، العشوائية، المختارة، المنتظمة…)، وعلى اختلاف نوعية الاستبيان المصمم لقياس تلك العينات، سواء أكانت استبيانات مفتوحة، أو مغلقة.. ومدى صدقية وفاعلية وجدوى الاستمارة أو الاستبيان في الوصول إلى تشخيص وضبط الظاهرة أو المشكلة المبحوثة من خلال العينات التي وُزِّعت عليها الاستماراتُ البحثية، قصد ضبطها والوصول إلى النتائج الدقيقة حولها.

وقد أخذت هذه المسألة حيِّزا أكبر من قدرها وحاجتها من البحث بيني وبين الطلبة، تمحورت حول مدى صدقية وجدية الاستبيانات الموزَّعة في ضبط الظاهرة أو المشكلة المبحوثة، كونها كانت –ومازالت- المنهجية الأكثر شيوعا في الدراسات الإنسانية والاجتماعية والإعلامية، ومنها انتقلت إلى حقل الدراسات الإسلامية بسبب انتساب بعض خرِّيجي معاهد علم الاجتماع والاقتصاد والإعلام والنفس.. إلى الجامعات الإسلامية، على أساس دعوى المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن الذي أسسه العالم الراحل الذي اغتالته الأيادي الصهيونية الأثيمة بواشنطن (إسماعيل راجي الفاروقي. ت 1986م) سنة 1981م والمناداة بإسلامية المعرفة من جهة، وإدخال مناهج البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية إلى حقل الدراسات الإسلامية على اعتبار أن تلك المناهج أصلها ومنشؤها عربي وإسلامي صرف من جهة ثانية، وأنها نشأت في أحضان علوم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وعلم أصول الفقه والنوازل وعلم الكلام والفلسفة الإسلامية..

وبدأت عملية البحث بالمعطيات القريبة والموجودة والبادية للعيان، ومفادها أن هذه المنهجيات البحثية على الرغم من كونها إسلامية المنشإ، إلاّ أن الملاحظ عليها أنها تدنست بدنس الوثنية المادية الطبيعية والواقعية والإلحادية، كون منطلقها فلسفة الباحثين الغربيين الماديين الذين لا يؤمنون إلاّ بما تقع عليه حواسُّهم، وأنهم أضافوها ووضعوها كعنصر من عناصر وأدوات البحث بالإضافة إلى (الملاحظة العلمية المقصودة) و(المقابلة: الحوار الشخصي أو عن بُعد) لرصد الظواهر المادية البادية للعيان، والتي لا تصلح البتة لقياس وضبط الظواهر التي منشؤها عالم الغيب والملكوت والإيمان والاعتقاد.

وتبيَّن لنا من التدقيق في البحث أن نبحث عن بدائل يمكننا من خلالها تأكيد نتائج البحث والوقوف على حقيقة الظاهرة أو المشكلة المعالَجة، كون العينات المبحوثة كانت غير صادقة في التعامل مع أسئلة الاستبيانات، وبالتالي تجيء النتائج خاطئة، ومن ثم تضيع الجهود والإمكانات والأزمنة الحضارية الكافية لإحداث عملية الإقلاع والانتقال النهضوي الذي تحتاجه الجزائر، بل هي في أمسّ الحاجة إليه ولاسيما إن جاء على أيدي الباحثين المخلصين.

اقترحنا بديلا آخر هو (الاعترافات والبوح والشكاوى والتأوهات..) كأداة بحث مناسبة تضمن لنا حدا كبيرا من الصدق والجدية، فضلا عن كونها كافية للكشف عن مكنونات وأعماق ودخائل صاحبها، ولكن من أين نأتي بها، الأمر الذي جعلني رفقة طلابي وطالباتي نهتدي إلى ما تنشره الصحف الجزائرية في أركانها المختلفة، فثمة ركن “اعترافات”، وثمة ركن “شكاوى”، وثمة ركن “انصحوني”، وثمة ركن “خواطر”.. بل ثمة ركن الإعلانات التي تحمل شيئا كبيرا من حقيقة الشكوى أو المضمون الإعلاني المعلن عنه، بل ذهبنا إلى ركن الجريمة والجرائم، وركن الردود والتعقيبات والتكذيبات..

وبالفعل حاولنا أن نعتمد على ما يُنشر في الجرائد الوطنية، فنجمع ونرصد هذه الأركان طيلة ثلاثة أشهر ثم نصنف تلك المضامين وفق البحث المطلوب، وبها نكون قد جمعنا مادة صادقة عن العينات التي نبحث عنها، واستطعنا أن نجمع مادة علمية ثرية كشفت لنا عن حقيقة المشاكل المطروحة، وصار الطلاب يتبادلون ويرتبون ويصنفون تلك القصاصات وفق حاجة كل بحث، وهكذا تجاوزنا معضلة الاستبيان ومدى صدقيته، ففي تجربة تعقُّب المدمنين أو مشاكل الحياة الزوجية أو نحوها وجدنا كمًّا معتبرا من الاعترافات في ركن “اعترافات” وركن “انصحوني”، وماذا أفعل مع زوجي الخائن أو زوجتي الخائنة أو ابني أو أخي أو زوجي المدمن..

ومع كل هذا النجاح فقد نشأت لدينا معضلة أخرى تكمن في حقيقة هذا المنهج التجريبي المادي ومدى صلوحيته لقياس مسائل الشريعة والعقيدة والآداب والأخلاق الإسلامية القائمة على الإخلاص والصدق والبُعد عن الرياء والمكاشفة. وبعد مدة من البحث والتدقيق استثنيا نجاحها في قياس ظواهر دينية مادية كدراسة ارتفاع أو انخفاض حالات الخيانة الزوجية والزنا والطلاق والخلع والعنوسة والإعراض عن الزواج وحساب الفقراء والمعوزين، ونحوها..

وسارت الأمور البحثية وفق هذه المسارات والأدوات البحثية والمنهجية المكمِّلة فضلا عن (الملاحظة، المقابلة) وتبين لنا أننا صرنا في منطقة الأمان المنهجية والبحثية في الوصول إلى دقة النتائج المتحصل عليها، إلى أن أطلت علينا وسائل ووسائط الموجة الإعلامية الإلكترونية الجديدة وخدمات محركاتها الجبارة ونوافذها المتنوعة كمواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، أنستغرام، يوتيوب..)، التي قدمت للباحثين خدمات جلا للصناعة البحثية، ففضلا عن الاستمارات والاستبيانات الإلكترونية التي ملأت للطلاب العشرات منها، فقد أتاحت مساحة التعليقات والردود وركن (أضف تعليقا) خيارات شتى للتعرف على حقيقة الجمهور ومستواه العلمي والمعرفي والمنهجي والثقافي والأدبي..

وضمنت أيضا التعرف على قيمه ومُثله وأخلاقه ودينه ومعتقده وشريعته.. وغيرها من الكشوف النفسية والوجدانية والعاطفية والخلجات الشعورية والتحرُّكات والنيّات الإنيّة الدفينة.. والاقتراب من حقيقة الجمهور ومواهبه وإمكاناته وقدراته، وسلوكه وعدوانيته وسلميته ونوعية خطه ونوعية أسلوبه وبيانه ولغته فصاحتها من ركاكتها وعجمها، وتوجهاته وثوابته ومنطلقاته وأهدافه وطموحاته وغاياته..

وبالتالي، فقد خدمت وسائط الإعلام الإلكتروني الجديد البحث العلمي (الإمبيريقي- التجريبي والميداني)، وأراحت الباحثين من التعرف على حقيقة المشكلة المراد معالجتها، فيكفي الآن أن تتناول قضية أو ظاهرة أو مشكلة في الإعلام الإلكتروني أو الورقي أيضا، حتى ترى وتشاهد وتقرأ  لعشرات بل لمئات وآلاف المعقبين والرادّين، ويبقى على الباحث هنا فقط دراسة تلك الردود بعيدا عن التأثر النفسي أو الألم العاطفي أو الانفعالي من وقاحةٍ وانحطاط وجرأة وجاهلية وفظاعة وشناعة.. تلك الردود والتعقيبات، ومنها سيجد ليس لمشكلته المبحوثة حلا، أو إجابات أكيدة وصادقة، بل سيوزِّع على الباحثين الآخرين صدقاتٍ وهباتٍ في شكل استبيانات جاهزة تعينهم على استكمال الجانب الميداني والتطبيقي الناقص في أبحاثهم.

ولعلني أقدم لكم أنموذجا حيا على ذلك؛ فقد كتب أحد أصدقائنا منذ عقد من الزمن في قضية مهمة جدا لها بُعدها الديني والتشريعي والسياسي والاقتصادي والمالي والتنموي والديمغرافي.. بحثا فقهيا واقتصاديا وماليا حول جواز أخذ قروض (الأونساج)، ولم يطلع صديقُنا كاتب البحث هذا على عدد القراء الذين قرأوا البحث المنشور ملخصه فقط في إحدى الصحف الوطنية الجزائرية الكبرى، التي كان توزيعها اليومي يصل إلى مليون نسخة ورقية، وعلى عدد الردود طيلة هذا العقد من الزمان (2011-2021م)، حتى أرشده زميل بحث ودراسة إلى ضرورة الانتباه إلى تلك التعقيبات والردود، فلما اطلع عليها استنتج الكثير من الخلاصات لعل أهمها:

1– المستوى الفكري والعلمي والثقافي والأدبي والمنهجي الذي كان عليه غالبية الرادين والمعقبين.

2– المستوى الأخلاقي والديني والتربوي والسلوكي الذي كان عليه غالبية الرادين.

3– المستوى اللغوي والبياني والأسلوبي والتعبيري والإنشائي الذي كان عليه غالبية المعقبين.

4– المستوى النفسي والوجداني والروحي والقيمي المخبوء عليه غالبية المعقبين.

5– المستوى الاجتماعي والتواصلي والتعاملي والعلائقي الذي عليه غالبية المعقبين.

6– وجود نسبة قليلة ممن يفهم ويدرك ويعي ويحلل ويبحث ويربط وينسق بين أطراف الموضوع المطروح وبين الواقع المعيش وبين المؤلف..

7– وجود نسبة قليلة ممن تتجه للبحث أو للمقال ولا تتعرض لصاحبه على اعتبار القاعدة الدينية الضابطة (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد).

8– التعرف على حقيقة الجمهور الذي نعيش ونحيا معه معرفة صادقة وجلية.

9– اكتشاف ثلة من العقلاء والمفكرين والعقلانيين والموضوعيين المؤمنين بفقه وأدبيات الاختلاف.

10- عدم الانخداع بالجمهور الفايسبوكي الكسول الخمول الذي ليس له سوى التعقيبات والردود، المهمِل لمهنته وتخصصه الذي خلقه الله من أجله في هذه الحياة.

والمكتشف والمتعرَّف عليه الكثير مما ترفَّع القلم عن ذكره ووصفه.. فهل يصلح الإعلام التفاعلي في شكله الحالي أن يكون بديلا علميا ومنهجيا وبحثيا عن الاستبيان التقليدي؟ وهل يصلح هذا المقال أن يكون وسيلة خير وإرشاد وتنبيه لجمهور المدمنين على الردود والتعقيبات؟ الأمر في اعتقادي مفتوح للنقاش مع أهل التخصص والنظر من الباحثين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • أبو تمام

    بتنا من خلال الإعلام التفاعلي نعرف اتجاهات الرأي العام المحلي عن مصدر هذه الحرائق.. ولو كانت الحقيقة مغايرة تماما.. المهم أننا دخلنا عصر صناعة رأي مغايرة..

  • المهدي غير المنتظر

    بارك الله تعالى في الإعلام التفاعلي الذي عرى أحداث الحرائق المهولة التي عرفتها الجزائر المسكينة البائسة..

  • الوطني الغيور

    راقبوا دور الإعلام التفاعلي كيف يقوم بدوره في الأحداث اليومية الأخيرة التراجيدية التي عصفت بالأمة الجزائرية المسكينة البائسة؟؟؟ في ظل صدمة اعيت السلطة القائمة عن التحكم في الأزمة.. وعرت المستور...

  • المتنبي

    لم يحدث هذا المقال التنظيري تجاوبا مقبولا مع القراء بالرغم من انهم هم من ثماره ونتائجه وضحاياه أيضا... وهذا دليل على تراجع مستوى القراءة العلمية والمنهجية العميقة لقضايانا الواجب التفاعل معها..

  • الناصح الأمين

    قد لا يحس بقيمة هذه المشكلة البحثية إلا من عانى من دراسات الدور والأثر والأهمية في مجال الابحاث الميدانية الجماهيرية.. فهل يصلح الإعلام التفاعلي أن يكون بديلا وحلا لمعضلة صدقية الحالات المستجوبة والمدروسة..؟؟