الرأي

الإمام هو محور المعركة الحضاريّة

أرشيف

لقد ألفنا احتجاج العمال الجزائريين من كل القطاعات على طول العام، لأنّ الموظف في بلادنا يعاني من ضنك العيش وضغوط الحياة الاجتماعية، لكن أن يضطر الإمام بسَمْته التربوي وصورته الذهنية في مخيال المواطنين للخروج إلى الشارع، للاحتجاج على ظروف قاهرة، فهذا مؤشرٌ على أنّ الأمور لا تسير على ما يرام.

طبعا هذا الكلام ليس من باب التمييز ولا دعوة للتفاضل بين العمال، لأنّ تأييد المطالب المشروعة غير قابل للتجزئة، كما أنّ التعاطف المهني يشمل الجميع، لكن المسألة في عمقها تتجاوز الانشغالات الاجتماعية والوظيفية إلى معضلة العناية المنقوصة للدولة بالشأن الديني في بلادنا منذ عقود.

يجب الإقرارُ أنّ قطاع الشؤون الدينية ظلّ دهرا من الزمن، وربّما لا يزال كذلك، مهملاً ومهمّشًا، وحالة الإمام اليوم مظهرٌ سيّء من تجليات الوضع العام.

لقد كان تفكير السلطة مع المجال الديني ينطلق دوما من منطق الاستعمال السياسي لا أكثر، دون التكفل اللازم بشروط ترقيته ضمن التأهيل الضروري لمواجهة الغزو الثقافي في بُعده العقدي والفقهي، بل إنها في مرحلة ما أجهزت على “المرجعية الدينية الوطنية”، وفق توصيف الخطاب الرسمي، بفتح المجال واسعا أمام التيار المدخلي لاعتلاء المنابر، في إطار إستراتيجية خاطئة لمحاربة مسمّى “الإسلام السياسي”، وهو ما يدفع الجزائريون اليوم كلفته الاجتماعية بفتن شعواء، يثيرها هؤلاء في كل مناسبة دينية وحتّى من دونها، في مخالفة صريحة لمرجعيتنا التاريخيّة.

إذا كان مفهوما عجزُ الدولة خلال الستينيات والسبعينيات عن تأطير القطاع لظروفٍ تاريخية ناجمة عن التجهيل الاستعماري، فهل من المعقول أن تفتقد الجزائر بعد 58 سنة من الاستقلال لأعلام دينيّة لها صيتها في العالم الإسلامي؟ حتّى أنّ الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة برّر عدم تعيينه مفتيًا للجمهوريّة طيلة 20 عاما من حكمه بعدم اقتناعه بوجود شخصية موسوعية ومرجعية بثقل المنصب، قياسا إلى نماذج دولية في أقطار أخرى!

هل يقلّ العقل الديني الجزائري ذكاءً أو أهليّة عن نظرائه في البلاد العربية؟ ولماذا خرّجت المدرسة الجزائرية عباقرة في الطب والعلوم الدقيقة، بينما عجزت عن تخريج مثلها من مشايخ العلوم الشرعية في مختلف التخصصات؟

اعتقادنا أنّ الإشكال الأساس يرتبط بالمنظومة السائدة، والتي تكرس الرداءة في الفضاء الديني على حساب التكوين العلمي المنهجي المتكامل والجدّي.

نذكر ونحن في الطور المدرسي أنّ الراسبين في شهادة نهاية التعليم الثانوي يتوجهون إلى المعاهد الدينية، عبر مسابقات لحفظ جزء من القرآن، ثم يتحولون إلى أئمة يعظون الناس ويفتون في شؤونهم اليومية من دون الحاجة إلى المرور على الجامعة.

من سوء حظّنا أنّ الجامعة الوحيدة التي أسستها الجزائر للعلوم الشرعيّة، وحلم رئيسها المرحوم الشاذلي بن جديد أن يجعلها أزهر المغرب العربي، قد انتكست سريعا بدخول البلاد نفق العشريّة السوداء، فقد هجرها كبارُ العلماء من أبناء الوطن وضيوفه، قبل أن يكتسحها الفكر المدخلي المُدمِّر في حالة من الفراغ الفكري والعلمي.

ولأنّ خيار الإقصاء الإيديولوجي كان مبرمجًا مع سبق الإصرار والترصّد، فقد أقدمت حكومة أحمد أويحيى سنة 2003 على التخلص من شعبة العلوم الإسلامية في التعليم الثانوي بحجَّة سوق العمل، ولو كان ذلك حقيقة لأغلقنا الجامعة الجزائرية بكل فروعها.

نتذكر في فترة من حياتنا الجامعية أنّ التوجيه نحو أقسام الجامعة الإسلامية بقسنطينة كان مفتوحا لكل حملة البكالوريا من ذوي المعدلات المتدنية، من تخصص الآداب إلى العلوم الطبيعية، مرورا بالكيمياء والكهرباء والتقنيات والأشغال العمومية والتسيير وكل الفروع الأخرى!

لقد كان مخططا ممنهجًا لتفريغ التكوين العلمي الديني من محتواه وتمييعه حتى يفقد أثره في الواقع المجتمعي لاحقا، وهذا ليس حكمًا ينطلق من ثقافة المؤامرة، بل هو ما تسنده القرائن والأدلة الملموسة بلا ريب.

خلاصة القول إنّ الإصلاح الذي ترفع الجزائر الجديدة رهانه اليوم يتجاوز التكفل بوضع مستخدمي القطاع، إلى الاهتمام الفعلي بالتكوين العميق، ولمَ لا استحداث “معهد عالي” للمواهب المميزة في العلوم الشرعيّة، لأنّ حاجتنا إليها لا تقلّ أهمية عن حاجتنا لمتفوقين في باقي مجالات الإبداع والاختراع، وإذا لم يدرك حكامنا ذلك، فإنهم لم يستوعبوا بعد أصل وميدان المعركة الحضاريّة.

مقالات ذات صلة