الرأي

الإمكانات القاتلة.. والإمكانات الخلاّقة

محمد سليم قلالة
  • 2599
  • 13

يسبق امتلاك الرؤية امتلاك القدرات والإمكانات، ذلك أن الثانية لا تعني بالضرورة وجود الأولى في حين أن الأولى بإمكانها أن تصنع الثانية وإن لم توجد. أي أن الإمكانات قد تُهدر في غياب الرؤية في حين أن الرؤية لا يمكنها أن تزول حتى وإن غابت الإمكانات بل هي التي تصنعها، ذلك أنها تنطلق من إرادة في الفعل وفي الوصول إلى غاية محددة ومن طموح غير محدود للتمكن من ذلك، في حين أن الإمكانات قد تقتل الإرادة والطموح وتمنع الدولة من تحقيق التقدم الذي تريد.

يبدو لنا ذلك جليا من خلال القدرات الهائلة التي تملكها بلادنا ـ المساحة، الثروات،الطاقة، الشباب والوقت ـ ولكنها في ظل وجود رؤية متذبذبة أو غير واضحة أو غائبة أحيانا لأسباب عدة، كثيرا ما تُهدر هذه الإمكانيات. وتتركنا جميعا نتساءل لماذا نتحرك أقل من القدرات التي نملك؟ لماذا نُهدر الإمكانات التي نملك، ولماذا لا نصل إلى مستوى الاستخدام الأقصى لها؟ بل إن الفرد منّا أصبح يسأل نفسه لماذا كل هذه التحطيم للقدرات التي لديه أو التي تقع بين يديه أحيانا من غير أدنى جهد… الآلات والعربات والمواد المصنعة المختلفة التي يتم استيرادها غالبا ما تنتهي إلى التحطيم أو التخريب أو الاستهلاك الفوضوي غير المدروس لماذا؟ الوقت الثمين الذي نملك، الصحة العقلية والبدنية التي حبانا الله بها، لماذا تُسنزف في غير محلها؟ الطموح الذي يسكننا والأمل الفسيح الذي نرجوه، لماذا يقتل فينا باستمرار ومن غير أي مبرر؟

عندما نبحث في أصل المشكلة نجدها في المقام الأول تتعلق بالإرادة السياسية التي غالبا ما تتعامل مع مشروع البناء الوطني، بناء الإنسان والوطن، وفق أهداف محدودة آنية خالية من كل طموح أو نظرة للمستقبل. المدرسة وبرامج التعليم كآلية أولى لبناء الإنسان غير مضبوطة وفق مقاييس رؤية مستقبلية واضحة المعالم، وإن وُجدت كبرامج تؤدي الحد الأدنى المطلوب، وسائل التربية الثقافية والفنية من مسرح وسينما ونوادي ترفيه وتوجيه لا تتحرك إلا ضمن الحدود الدنيا، آليات دعم تشغيل الشباب ليس الهدف منها وضع هؤلاء ضمن سكة الاستثمار الحقيقي المُنتج الذي يجعل منهم قوة دفع حقيقية للاقتصاد الوطني خلال عقد أو عقدين من الزمن إنما الهدف منها هو تحقيق أهداف فرعية هي أقرب إلى السير في الظلام منها إلى الحركة والفعل ضمن رؤية واضحة ـ تلهية فئات واسعة من الشباب بمشاريع وهمية ـ امتصاص غضبهم ـ تمكين بعض الفئات الأخرى من تحقيق ربح سريع من خلال استيراد العربات والآليات، خلق دينامكية استهلاك وهمي لدى التجار… ولا يهم بعد ذلك إن تحققت التنمية أو لم تتحقق، إن تم وضع الأسس الصحيحة للاقتصاد الوطني أو لم يتم ذلك، إن تمت الاستفادة من طاقة الشباب وما توفره الطاقة (البترول والغاز) من أموال أم لم تتم.. إن تم استبدال مفهوم العمل المنتج والخلاق للثروة بمفهوم آخر للعمل الوهمي المكدس للمال من خلال الربح السريع واللامحدود.. المهم أن يتم تحقيق بعض الأهداف ـ مهما كانت ـ بالقدر الذي يسمح للخطاب السياسي تبرير ما تم هدره من إمكانيات وأموال ووقت وجهد إنساني خلاق

وما ينطبق على الشباب ينطبق على الفلاح والصناعي والمستثمر والتاجر جميعهم يشعرون ـ بما في ذلك الصادقون منهم والقادرون على العمل ـ بأن جهودهم تذهب سُدى وأنهم يتحركون ضمن مشروع لا يعرفون أبعاده الحقيقة ولا الغايات التي يرمي لتحقيقها، وغالبا ما يتساءلون: “وهل ما نقوم به يندرج ضمن مشروع تنموي وطني ينظر للمستقل قبل الحاضر ويسعى لتحقيق تنمية مستدامة في المجتمع؟ وهل يكفي أن ما نحقق من أهداف شخصية من ربح وثروة؟ وهل ذلك مُجدٍ لنا وللمجتمع؟

ولعل انعكاس هذا الواقع المرتبط بالإنتاج المادي وتوفير السلع والخدمات رغم سلبياته لا يرقى لتك السلبيات التي ستنتج عن الآثار التي ستخلفها السياسة التربوية الخالية من هذا البعد المستقبلي المندرج ضمن رؤية واضحة حيث السؤال الأساس لماذا نُكِّون ولِمن نُكَوِّن؟ لا يجد من يجيب عليه. فكل السياسة قائمة على السعي المستمر لتحقيق أهداف محدودة، والعمل ضمن الاستعجال تحت ضغط المشكلات اليومية: ضمان دخول مدرسي أو جامعي من غير اضطراب، توفير مقاعد بيداغوجية للتلاميذ والطلبة، تسيير الإضرابات والضغوط النقابية، إجراء الامتحانات في وقتها، تسيير سياسات التوظيف المضطربة.. إلخ.. جميعها تجعل المشرفين على القطاع غير قادرين على القيام بعملية تفكير تشاركي انطلاقا من القاعدة لإيجاد صيغ مناسبة تفتح آفاق المستقبل أمام القطاع، حتى وإن أرادوا القيام بذلك.

وهنا تبدو لنا خطورة السياسة القائمة على ردود الأفعال الناتجة عن ضغط المحيط المحلي ـ المادي والبشري ـ وفي بعض الأحيان حتى ضغوط المحيط الدولي، وفي ذات الوقت تبدو لنا الحاجة إلى بناء سياسة متكاملة قائمة على استباق الأفعال ـ أي الاستعداد لكل التبدلات المتوقعة ـ واستحداث الأفعال أي القيام بكل ما من شأنه أن يحقق لنا الغايات التي نسطرها نحن خارج نطاق سياسات الآخرين. أي سياسة قائمة على استشراف حقيقي للمستقبل.

  .

كيف يمكننا تحقيق ذلك؟

إن السبيل الأكثر فعالية في هذا المجال هو البدء بما ينبغي أن نبدأ منه للخروج من حالة التفكير انطلاقا من الإمكانات وتحت ضغط الحاجة والمحيط إلى حالة التفكير البعيد المدى القادر على المساهمة في صوغ رؤيتنا للمستقبل.

ويتعلق الأمر في هذا المستوى بتلك العناصر المتحكمة في الإطار العام لهندسة الرؤية أي:

ـ التحكم بداية في آليات التحليل الاستشرافي من خلال نخبة من العلماء والباحثين القادرين على استيعاب الأدوات والتقنيات والأساليب المنهجية المبتكرة منذ أكثر من نصف قرن والقادرة على مرافقة تفكيرنا منهجيا ليتمكن من الانطلاق في صياغة موضوعية لرؤيته على الأقل من ناحية الأدوات النظرية. أي إسناد هذه المهمة لكفاءات وطنية قادرة على القيام بذلك بعيدا عن الولاء للأشخاص أو حتى السياسات.

ـ في مرتبة ثانية ربط التحليل الاستشرافي بالإستراتيجية وجعله يتجاوز السؤال كيف ينبغي أن أكون ـ أي ما هو السيناريو الذي وضعته للقطاع أو الدولة ـ إلى كيف ينبغي أن أعمل لكي أكون؟ أي كيف أجسد هذا السيناريو في الواقع.

ـ وفي مرتبة ثالثة تطرح مسألة الإمكانات والقدرات؟ أي ماذا أملك الآن وما يمكنني توفيره غدا، وما يمكنه أن يتوفر في ظل ظروف مواتية أو لا يتوفر في ظروف غير مواتية..

وهنا نصل إلى بيت القصيد من مسألة الموقف من الإمكانات ويتجلى موقعها بوضوح من التفكير والعمل: إنها لا تسبق أبدا الرؤية، لا يمكنها أن تحكم الرؤية مسبقا، لا يمكنها أن تحد من طموحنا ومن إرادتنا ومن تطلعنا إلى المستقبل، ينبغي أن تحل في مرتبة ثالثة لكي تُصبح ذات فعالية خلاّقة، ولا تتحول إلى مجرد تكديس لقدرات وحتى لأموال غير نافعة أي قاتلة.

 

عندما تحل في هذا المستوى تعيد الدولة النظر في مفهومها ونظرتها للإمكانات البشرية والمادية التي تملك، وتصوغ برامجها وفق غايات وآفاق جديدة. تنعكس على المعلم والأستاذ والشاب والفلاح والعامل والإداري والتاجر ورجل الأعمال والإعلامي.. كل منهم سيعرف لماذا وكيف يفعل في الحاضر والمستقبل، وتلك من النتائج الأولى لامتلاك مشروع ورؤية..

مقالات ذات صلة