-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الإيضاح في الرد على ملاحظات الدكتور محمد مراح

الإيضاح في الرد على ملاحظات الدكتور محمد مراح

الإيضاح في الرد على ملاحظات الدكتور محمد مراح

الدكتور محمد مراح من الجيل الذهبي من الباحثين الذين تميزهم سعة الاطلاع والقدرة على الإقناع، وقد شعرت برحابة صدر وأنا أقرأ ملاحظاته في صفحة الرأي بـ”الشروق اليومي” ليوم الثالث من ماي 2023 حول مقالاتي عن مالك بن نبي رحمه الله، لأنني أؤمن بأن الأفكار مجرد وجهات نظر قد تتفق وقد تختلف وخاصة حينما نكون حيال موضوعات فكرية حمالة أوجه، يراها كل باحث من زاويته ويحللها وفق مقارباته.
لقد اطلعت على هذه الملاحظات قبل نشرها في هذا المقال في شكل تعليقات على مقالي سالف الذكر المنشور في الخامس والعشرين من شهر جانفي من سنة 2021، والتي عزمت على الرد عليها وعلى تعليقات مماثلة في حينها، ولكن عامل الوقت حال دون ذلك وأشكر الدكتور محمد مراح على إعادة بعث هذه التعليقات بعد سنتين ونصف، ففي ذلك فائدة للكاتب والقارئ والناقد.
يتميز فكر مالك بن نبي رحمه الله بثلاث خصائص قلما تجتمع في فكر آخر، أولها أنه فكر هندسي تميزه هندسة معرفية دقيقة تقدم الفكرة في قالب فكري معقد يطغى فيه الإشكال على الأشكال المعرفية التي يرسمها بن نبي حيال الموضوعات التي يعالجها. وثانيها أنه فكر مزيج من الثقافة الدينية والثقافة الحضارية فهو فكر يستند إلى نصوص الدين التي يصيغها بن نبي في قالب فكري يجلي ما خفي عن المفسرين من مظاهر الإعجاز في النص الديني، وثالثها أنه فكر يحرص على استخلاص النتائج المادية من المقدمات النظرية.
هذه الخصائص الثلاث لفكر بن نبي تجعل الاشتغال به وظيفة لا يصلح لها إلا من أحاط بمضامين هذا الفكر وفقه مراميه التي لم يتركها بن نبي في المتناول، بل أحاطها بركام من الرموز التي تمثل مفاتيح الولوج إلى فكره المتحرر من الإنشائيات والكلاسيكيات والمتميز بتحديث الآليات واستشراف المآلات.
إن بعض الأخطاء لا يجليها إلا نقاش فكري جاد وهو المنهج الذي آمنت به وسلكته منذ بداية عهدي بالبحث العلمي، فلست ممن يعتد بفكره أو يدعي الكمال المعرفي الذي لا يتأتى لبشر مهما أوتي من ملكات وقدرات. إن النقاش الفكري الجاد ثقافة غائبة في راهننا الفكري الذي يعتد فيه كل حامل فكر بفكره ويحيطه بهالة من التقديس وكأنه تنزيل من التنزيل.

أولا: بخصوص الملاحظات التي أبداها بشأن مقالي
يعترض الدكتور محمد مراح على مسألة أخذ مالك بن نبي لفكرة الحضارة عن محمد إقبال من خلال إعادة صياغة الرؤية التوحيدية لهذا الأخير، وأرد على ذلك بأن هذه الفكرة جاءت في مقالي في سياق الحديث عن عملية التأثير والتأثر بين إقبال وبن نبي، وهي الحقيقة التي تشير إليها هذه العبارة الافتتاحية بموقع بن نبي: “وإذا كان محمد إقبال ومالك بن نبي من دعاة الإصلاح والتجديد في العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، ولهما مرجعية دينية وفكرية وتاريخية واحدة، فإن ما يجمع بين محاولتهما أكثر مما يفصل ويفرِّق بينهما، فقد عاشا في عصر واحد، وعاصر كل منهما الآخر، فبين ميلاد إقبال وميلاد بن نبي اثنين وثلاثين سنة، وبين وفاة إقبال ووفاة بن نبي خمس وثلاثين سنة، فشاهد كل منهما نفس الظروف والأحداث والتغيرات الفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم المتخلف -والعالم الإسلامي جزء منه بصفة خاصة- وفي العالم ككل بصفة عامة كما عاشا معا مظاهر ومخلفات الحضارة الأوروبية الحديثة والفكر الغربي، وقاسا محنة الاستعمار الأوربي للأقطار العربية والإسلامية ولشعوبها، فكان كل منهما شاهدا على العصر الحديث وعلى الحياة في العالم الإسلامي في هذا العصر”.
إن القول بأخذ بن نبي لفكرة الحضارة عن محمد إقبال لا يعني أنه أخذ عنه الكليات والجزئيات، بل يعني أنه أخذ عنه الأسس النظرية وخاصة فيما يتعلق بعناصر الاختلاف بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأوروبية وبالعلاقة بين الإسلام والعالم الحديث. لقد طوَّر بن نبي هذه الأسس، واستخلص منها نظرية حضارية متكاملة. ولا ينفي نقد بن نبي لمحمد إقبال تأثره بهذا الأخير وتحولهما إلى قطبين من أقطاب الفكر الإسلامي كما يشير إلى ذلك زكي الميلاد في مقال له بعنوان: “مالك بن نبي ناقدا لإقبال” نُشر بشبكة النبأ المعلوماتية، والذي أكتفي منه بهذه العبارة: “ومن الواضح أن أهمية هذه المقاربة تكمن في أهمية هذين الرجلين، وذلك من الناحيتين الفكرية والزمنية، فمن الناحية الفكرية فإن إقبال وابن نبي هما من ألمع رجالات الفكر الإسلامي المعاصر عطاء وتجددا، فإقبال قدّم أجود محاولة في نقد الثقافة الأوروبية من جهة، وفي تأكيد العلاقة بين الإسلام والعالم الحديث من جهة أخرى، وقدَّم ابن نبي أجود محاولة في تحليل فكرة الحضارة والبحث عن مشكلات الحضارة من جهة، وفي تأكيد علاقة المسلمين بشروط النهضة من جهة أخرى”.
حينما نتحدث عن التأثير والتأثر بين محمد إقبال ومالك بن نبي فإننا نقصد ما يكون من تقاطعات بين فكر الرجلين بغضّ النظر عن الفوارق الزمنية بينهما وأستغرب في هذا الصدد فول الدكتور محمد مراح: “كيف يأخذ إقبال المتوفى عام 1938 عن مالك المغمور حينئذ، ولم يُصدر كتابا بعدُ، كما أنه كان يكتب مقالات بالفرنسية في إطار محدود جدا لا يُتصور أنها بلغت إقبال الذي أطبقت شهرته الآفاق” .
وقف الدكتور مراح عند ما أوردته في مقالي عن كتاب “تجديد التفكير الديني في الإسلام” لإقبال وعلق عليه بقوله: “كتاب إقبال (تجديد الفكر الديني) في معظمه بسّط نظرية جديدة في علم الكلام والتوحيد دمج فيها الإلهيات بالتصوف، مستثمرا وناقدا للفكر الغربي المعاصر في قضايا ذات الصلة بالعلم، وفي جزء تصوّر جديد لمفاهيم عقائدية من خلال عبادة الصلاة.. وفي جزء آخر تناول مصادر الإسلام التشريعية والنصية والحضارية. وفي جزء رسم نظرية الثقافة الإسلامية في سياق نظريته، وختاما بسط مسألة الدولة والتشريع والمحاولات التجديدية في الإسلام دائما من خلال نظريته الجديدة الممزوجة بشقها الكبير الثانية (التصوف). لا نكاد نعثر إلا على كلمة (الزمن) الذي تناوله في السياق المذكور، في التراث الفلسفي الإسلامي، والمعاصر”.
ما الجدوى من التذكير بموضوعات كتاب “تجديد التفكير الديني في الإسلام” التي أعرضت عنها لأنها لا تشكل موضوعا ذا أهمية، فما يهمني هو بيان أن رؤية محمد إقبال التوحيدية التي لخصها في هذا الكتاب تتشكل من ثلاثة عناصر: العنصر الأول هو الإنسان الذي ينظر إليه إقبال من زاويتين: من زاوية كونه الصورة الإنسانية المتحوّلة من المادة الترابية، ومن زاوية أن هذه الصورة الإنسانية لا تكتمل إلا بربط الإنسان بغايته التوحيدية، أي أنها لا تكتمل إلا بتحقيق صورة الإنسان التوحيدي القيمي التي تسمو على صورة الإنسان المادي الترابي، والعنصر الثاني هو المنتوج المادي متمثلا في مختلف الابتكارات والاختراعات التي ينتجها العقل الإنساني، والعنصر الثالث هو الوقت الضروري لبناء العمران الإنساني”.
إن الخلاف بيني وبين الدكتور محمد مراح هو أن قراءته لكتاب “تجديد التفكير الديني في الإسلام” لمحمد إقبال كانت قراءة موضوعاتية تهتم بفصول ومباحث الكتاب، في حين كانت قراءتي للكتاب قراءة تحليلية تروم الوصول إلى الفكرة التي يسعى بن نبي إلى تثبيتها، وهي إيجاد الإنسان التوحيدي الذي يسعى من خلال إعمال العقل وتوظيف العقل إلى جعل النظرة التوحيدية إلى الكون عاملا من عوامل تطوير الحياة الإنسانية في جانبها المادي مستنيرة بالقيم التوحيدية التي هي جوهر الإسلام، ولا يمكن لهذين الأمرين أن يتحققا إلا في ضوء معادلة زمنية لا غنى عنها.
إن النظرية التوحيدية عند محمد إقبال ليست أمرا مقتصرا على صحة الاعتقاد بل هي نظرية لتحديد “تموضعات” الإنسان المسلم في الكون عن طريق استغلال العقل في التجديد والتطوير والابتكار، وهي الغاية التي لا تتحقق إلا بجعل الوقت صورة من صور هذه العبادات وخاصة عبادة الصلاة كما في قوله تعالى: “إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا”(النساء 103). يقول إقبال في كتابه: “تجديد التفكير الديني في الإسلام”: “والجمود على القديم ضارٌّ في الدين، كما هو ضارٌّ في أي ناحية من نواحي النشاط الإنساني، فهو يقضي على حرية الذات المبدعة، ويسدّ المنافذ الجديدة للإقدام الروحاني. وهذا هو السبب الرئيسي في عجز الطرق التي اتبعتها صوفية القرون الوسطى عن تخريج أفراد لهم قوة الابتكار على كشف الحق القديم”.
إن أهمية الزمن في فكر مالك بن نبي تستخلص من التوقيت المعلوم المرتبط بالعبادات الإسلامية المختلفة، فلا يجوز الصلاة في غير وقتها ولا يجوز صيام رمضان في شهر شوال ولا أداء الزكاة في غير موعدها ولا أداء ا لمناسك قبل حلول شهر ذي الحجة، فالعبادات في الإسلام مرتبطة ارتباطا وثيقا بالزمن، وعلى هذا المنوال تسير حياة الإنسان المسلم في سعيه لبناء الحضارة.
إن أهمية الزمن في فكر محمد إقبال لا تُؤخذ من تعدد مواضع ورود هذه الكلمة في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام” بل في الإشارات التي لا تخلو من تأكيد على أهمية الزمن في حياة الإنسان المسلم. وأحيل الدكتور محمد مراح على مقال بعنوان: “الإنسان والزمان في منظومة محمد إقبال التجديدية” للباحث التونسي أحميدة النيفر الذي نشره مركز نهوض للدراسات والبحوث، يقول فيه: “مـا ينبغـي التأكيـد عليـه أن اسـتفادة إقبـال مـن جهـد “برجسـون” التنظيري في خصوص مفهـوم الزمــان كان مؤسســا علــى تصــور قرآني، فجل الآيات القرآنيــة التي تتحدث عــن الزمــان وخاصــة منهـا الآية 62 مـن سـورة الفرقـان تؤكـد أنـه عنصـر ضـروري مـن عناصـر الحقيقة القصـوى، إنــه مــا كان أمرا ســاكنا يشــتمل علــى الحوادث الكونيــة الكاملــة التكويــن، بــل هــو لحظة حيــة ومبدعـة”. ويؤكد النيفر أهمية الزمان في فكر إقبال في آخر بحثه بقوله: “هــذه القــراءة الحديثة في غايتهــا وأداتها تظــل إسلامية في مرجعيتهــا القيميــة والتصوريــة و الرمزية، إنها تسـتعيد النبـوة مشـروعا لإنسان كامـل وهـي تراهـن على الإنسان كائنا خالدا يصنـع ذاتـه بالمعرفة والعشـق وتعيـد الاعتبار للزمـان الـذي لا يبقى عـودا أبديـا بـل حقيقـة يتحقـق بها التطـور المبدع في كل المستويات”.

أعيب على الدكتور محمد مراح وعلى كثير من الباحثين المسلمين تسرُّعهم في تأكيد الأساس القرآني لنظرية القابلية للاستعمار، فالقرآن وحيٌ إلهي لا يمكن مقابلته بأي كلام آخر، وكونه وحيا إلهيا يعني أنه الحقيقة المطلقة في حين أن النظرية تحكمها احتمالات التحقق أو عدم التحقق.

يقول الدكتور مراح: “إن مسألة المنتوج المادي لم تكن من اهتمام النظرية الإقبالية هنا، اللًهم إلا ما ورد من حديثه عن الدولة في أدائها العملي، بصدد نقد فكرة الدولة الدينية. لذا لم يكن من اهتمام النظرية معالجة دور منتج تكنولوجي أو ابتكاري”. هذا الكلام عامّ يحتاج إلى تفصيل حتى لا يستقر في أذهان الجاهلين بفكر محمد إقبال أنه فكر ديني محض يجافي التطور وينافي التحضر، فالمادة في الإسلام من حيث المعطى العامّ ليست شيئا مستهجنا أو أمرا مبتذلا وإنما يكون الاستهجان والابتذال من خلال الوسيلة التي ينظر فيها إلى المادة ومن خلال الطريقة التي تدار بها، وقد فصل إقبال هذا الموضوع في كتابه “تجديد التفكير الديني في الإسلام” وفرّق بين المادة المجردة وسيلة وغاية في الفكر الغربي وبين المادة الواعية وسيلة وغاية في الفكر الإسلامي.

ثانيا: بخصوص نظرية القابلية للاستعمار بين ابن خلدون وبن نبي
يقول الدكتور مراح: “أما القابلية للاستعمار فأساسها قرآني في قوله تعالى: “أو لمّا أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (آل عمران/165). وأحسب الدكتور بوالروايح يذكر كيف كان الشيخ الغزالي رحمه الله يؤصِّل بها لنظرية مالك، ورأيه هو نفسه في بعض كتبه” .
نظرية القابلية للاستعمار عند بن نبي هي شكل من أشكال نظرته إلى إنسان ما بعد الموحدين الذي ماتت فيه ملَكة الإبداع وإرادة المقاومة وأصبح مادة طيِّعة في يد خصومه، وهي النظرية التي استوحاها بن نبي من واقع الشعوب المستعمَرة المستضعَفة التي أعياها مقاومة الاستعمار فأجبرها ذلك على القبول بمبدأ التعايش معه، وهذا الحكم لا يُقبل على إطلاقه لأن هناك مكوناتٌ كثيرة في المجتمع الإسلامي آثرت مقاومة الاستعمار على الرضوخ له، ومن هذا الجانب يأتي نقد الدكتور غازي التوبة لنظرية القابلية للاستعمار في بحثه الموسوم: “القابلية للاستعمار عند مالك بن نبي: دراسة فاحصة” المنشور في موقع “منبر الأمة الإسلامية” إذ يقول: “إن قول بن نبي بانحطاط الأمّة منذ عهد الموحدين هو الذي أدّى إلى القول بـ”القابلية للاستعمار”، وقد اعتبر بن نبي استعمار بلادنا قدرا محتوما وضرورة تاريخية، وهذا كلامٌ غير صحيح بدليل أن فرنسا التي استعمرت الجزائر عام 1830م لم تستطع أن تستعمر مصر عندما غزاها نابليون عام 1798م، وليس معنى ذلك أن الجزائر كانت ذات قابلية للاستعمار في حين أن مصر لم تكن ذات قابلية للاستعمار، فإن النسيج الثقافي واحد في كلا البلدين، لكننا يمكن أن نفسّر “نجاحه” في الجزائر وفشله في مصر بعوامل خارجية سياسية واقتصادية ساعدت على نجاح الاستعمار في الجزائر ولم تساعده في مصر، من مثل انشغال الخلافة العثمانية بحرب البلقان حين احتلال فرنسا للجزائر، ومن مثل تردِّي الوضع الاقتصادي لدى الخلافة مما جعله ينعكس على الإنفاق العسكري بشكل خاص ومستوى العمل العسكري بشكل عامّ، مقابل تحسن الوضع الاقتصادي لدى أوروبا مما ساعدها على زيادة الإنفاق العسكري”.
ويرتكز غازي التوبة في نقد نظرية القابلية للاستعمار عند بن نبي على اعتراضات جورج صليبا على هذه النظرية. يقول غازي التوبة:”انتهى الدكتور صليبا إلى أنّ كل تلك الأحكام التي وصفت مرحلة ما بعد الموحّدين بالانحطاط بأنها لم تأت حصيلة دراسة موضوعية للوضع العلمي في تلك المرحلة، لذلك جاءت الأحكام غير علمية، وغير دقيقة، لذلك فهو يقترح على من يريد أن يُقوّم فترة من تاريخنا الحضاري أن يدرس الإنتاج العقلي والعلمي لتلك المرحلة لأحد العلوم، ثم عليه أن يصدر الحكم المناسب حسب النتائج التي يتوصّل إليها”.
أعيب على الدكتور محمد مراح وعلى كثير من الباحثين المسلمين تسرُّعهم في تأكيد الأساس القرآني لنظرية القابلية للاستعمار، فالقرآن وحيٌ إلهي لا يمكن مقابلته بأي كلام آخر، وكونه وحيا إلهيا يعني أنه الحقيقة المطلقة في حين أن النظرية تحكمها احتمالات التحقق أو عدم التحقق. وفي هذا الصدد أرى أن استدلال الدكتور مراح بقوله تعالى: “أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير”. آل عمران 163 هو استدلال في غير محله، ولو قبلنا ذلك جدلا فإننا لا نفضّل الاستدلال بهذه الآية في تأصيل نظرية القابلية للاستعمار، فهناك في القرآن الكريم آياتٌ أخرى أكثر تعبيرا وأقرب تفسيرا كقوله تعالى عن فرعون: “فاستخفّ قومه فأطاعوه”، (الزخرف 54 )، وقوله تعالى: “وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبيَّن لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال” (إبراهيم 45). وقوله تعالى على لسان إبليس: “وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم” (إبراهيم 14).
ويقول الدكتور مراح: “ومع هذا فلا وجاهة لحكم الأستاذ: فمقولة ابن خلدون من حيث دلالة الحدوث زمنا يكون بعد تحقُّق الغلبة، وبسط السيطرة. أما مالك فإنها عنده تمثل سلسلة مترابطة من الأسباب النفسية والثقافية والاجتماعية والتربوية والعلمية تكوَّنت عبر الزمن فأنشأت استعدادا نفسيا وفكريا وثقافيا للترحيب بالوافد القاهر ثم يستمر أثرُها المُدمر في الأمة أثناء الاستعمار وبعده (أمتنا خاصة العربية) نموذج بهيج لهذا”.
وأقول إن تأويل الدكتور محمد مراح لفكرة الغالب والمغلوب عند ابن خلدون هو تأويلٌ ظني؛ فالغلبة لا تتحقق فقط بالهيمنة وبسط السيطرة، بل قد تكون شكلا من أشكال الهزيمة النفسية التي يشعر بها المغلوب حيال الغالب فيخضع له ويخنع، فجماعة طالوت أحسَّت من نفسها الهزيمة قبل وقوع المعركة: “فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده”. (البقرة 249). والهزيمة النفسية للخصم سببٌ من أسباب الغلبة كما في قوله تعالى: “وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب”. الأنفال 183.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!