الرأي

الاحتفال بالمولد بين الإفراط والتفريط

أبو جرة سلطاني
  • 3092
  • 19

ليس كل جديد “بدعة”. فمن سنّ سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. وليس كل قديم “سُنّة”. فما أكثر بدع القدماء. وقد وعد الله هذه الأمّة بأن يبعث لها على رأس كل مائة عام من يجدّد لها دينها. فمن معاني السنّة استحداث وسيلة لتذكير الناس بالدّين. ومن معاني البدعة الزّيادة في الدّين بما ليس منه. والاحتفال بمولد المصطفى (ص) ليس زيادة في الفرائض ولا في النّوافل، وإنما هو مناسبة للتّذكير بيوم من أيام الله.
لا أحد يجادل اليوم في أنّ أسباب الغفلة ووسائل اللهو قد طغت على حياة النّاس، وأنّ الأمّة صارت في حاجة إلى كل وسيلة مباحة تذكّرها بتاريخها وأصالتها وهويتها وبالرّسالة التي تحملها إلى البشريّة. وكلما لاحت لها بارقة أمل تعيد نقاش قضاياها الجوهريّة إلى الواجهة وجب على علمائها ودعاتها اهتبالها سانحة لتذكير البشريّة بأمجاد الإسلام واستعراض طرف من مآثره التي كان مفتاحها من بعثه الله ليتمّم مكارم الأخلاق. ولا أحد يجادل في أنّ رأسمال هذه الأمّة هو كتاب ربها وسنّة مصطفاها (ص). وليس صدفة أن تكون شهادة التّوحيد نصفيْن: نصفًا لتوحيد الألوهيّة. ونصفًا للتّسليم برسالة الخاتم: “لا إله إلاّ الله. محمّد رسول الله”. وهو المعنى الذي كان حاضرا في صدور الرّعيل الأوّل، الذي لم يكن في حاجة إلى احتفال بمولد يذكّره بنبضات قلبه الحيّ بدين حمله للناس فتوحات تذكرها البشريّة مع كل آذان بأنّ الله واحد، وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أما اليوم فقد طال على الناس الأمد فقست قلوبهم واحتاجوا إلى تذكير بالبديهيات.
إنّ التّعلّل بأنّ الصّحابة والتّابعين لم يحتفلوا بالمولد، ولا بغزوة بدر وفتح مكة.. قفْزٌ على الحقائق وتنكّرٌ لطبيعة هذا الدّين، الذي كان في زمانهم حاضرا ـ في القلب والعقل ـ لا يحتاج إلى تذكير ولا إلى مناسبات يلتقي فيها المسلمون على “مشترك واسع” يتذاكرونه في ما بينهم. فقد كان هذا الدّين حيّا في قلوبهم، متحرّكا في يومياتهم، فاعلاً في سلوكاتهم، يحيونه لحظة بلحظة، ويتنفّسونه في مأكلهم ومشربهم وتجارتهم وصناعتهم وشؤونهم السياسيّة والمدنيّة. وهم على هذه الحال لا يحتاجون إلى التّذكير بما هو قريب من مشاعرهم. فلم يُحيوا أيام الله تعالى احتفالات وذكريات، لأنّها كانت حيّة فيهم. بل لم يكونوا في حاجة إلى دروس كثيرة في الدّين، ولا إلى خطب طويلة تذكّرهم بواجباتهم. وإلاّ، فأين هي خطب رسول الله (ص) الذي خطب في الناس ثماني سنوات (بمعدّل 52 خطبة جمعة في السّنة، وخطبتان للعيدين. أيْ إن خطبه قد بلغت 432 خطبه!!) فهل يستطيع عالم أن يدلّنا اليوم عليها ويبيّن لنا فحواها.

أين هي هذه الخطب؟ وأين هي خطب الصدّيق والفاروق وذي النّورين..؟

الجواب، أنّ الرّعيل الأوّل لم يكونوا في حاجة إلى خطب تذكّرهم بواجباتهم، فقد كانوا جنودا يكفيهم الإيعاز والإيجاز. فكانت خُطب أئمّتهم مواعظ قصيرة وتوجيهات مقتضبة أكثرها أحاديث نبويّة وتلاوة سور وآيات من كتاب الله تعالى، لأنّ الدّين والحياة كانا توأميْن متعاونيْن على إقامة الدّين بالدّنيا وسياسة الدّنيا بالدّين. فلما أتى على الناس حين من الدّهر، انشغلوا فيه بالسّفاسف وبالفتيا في جواز أكل الضبّ!! والصلاة بدم البرغوث!! فارق السّلطان القرآن وعاداه، وضاقت وسائل الدّعوة. فاحتاج علماء الأمّة المتفتّحون على حركة التاريخ إلى أن يجدّدوا الدّين وينوّعوا وسائل الدّعوة، فسنّوا سننا حسنة لا صلة لها بتكاليف الشّريعة حلاّ وحُرْمةً. ولا بالفرائض زيادةً ولا نقصانا. ولا بحدود الله تعطيلا وتعجيلا. ولا بعبادة المعبود الواحد (جلّ جلاله) تثنيّة ولا تثليثا. ولا مخالفة لما شرَع.. إنما دعوا إلى اتّخاذ أيام الله فرصا للتّذكير بالدّين. وأعظم أيام الله: المولد النّبوي الشّريف. يوم الهجرة. عاشوراء. فتح مكّة. أول محرّم.. فالاحتفال بها، وسيلة إلى شكر الله تعالى وحمده على أن أخرجنا بفضله من الظلمات إلى النّور، ولا صلة لذلك بالبدعة المعرّفة في الدّين بأنها اختراع طريق في الدّين لا أصل لها في الكتاب والسنّة. فلا أحد من علماء الإسلام يقبل الزّيادة في الدّين ولا الانتقاص منه.
ـ لا أحد قال: إنّ الاحتفال بالمولد النّبوي الشّريف عيد ثالث للمسلمين بعد عيديْ الفطر والأضحى. وإنما هو يوم من أيام الله تحتفي به شكرًا وحمدا.
ـ ولا أحد قال: إنّ الاحتفال به فريضة ولا نافلة ولا رغيبة. وإنما هي فرصة سنويّة لإحياء القلوب بحبّ المصطفى (ص) وتذكير العقول بسيرته العطرة.
فالأصل في الوسائل الإباحة ما لم يرد مانع، وأيام الله يُندب فيها الذّكر والشّر، والتذكير بها واجب شرعي لقوله تعالى: “وَذَكِّرْهُمْ بِأيَّامِ اللهِ” إبراهيم: 5. وربطها بالصّبر والشّكر. وأصل الاحتفال لا غبار عليه من جهة التّأسيس، وليس للمعترضين أيُّ حجّة شرعيّة دالّة على المنع، كما أنه ليس للقائلين بالجواز حجّة شرعيّة تؤكّد الوجوب. لكنّ من حقّ من حقّ الفريقيْن مناقشة ظواهر الاحتفال لتطهيره من الإفراط في الغوغائيّة والسّرف والبهرجة والمفرقعات.. والانتحاء به إلى مقاصده في الذّكر والشّكر والدّعاء والصّلاة على من أرسله الله رحمة للعالمين. فما أوسع الفرق بين أصل الاحتفاء المعبّر عن الفرحة بميلاد النّور. والطّرق المفرطة في الاحتفال بالمولد والتعبير عن الحبّ بشكل يخرج المولد عما أريد له أن يكون عليه، فيصير سبيلا للتّجارة والرّياء والمظاهر الماديّة التي لا روح فيها، وقد ينحو منحى احتفالات النّصارى بمولد المسيح (ع): خمور، وفجور، ورقص، وأشجار سروٍ وصنوبر وأرزّ.. هل بُعث عيسى (ع) بهذا؟ أم كان يجب على المحتفلين بميلاده أن يذكّروا بما أوصاهم هو به في الآيات: 30/33 من سورة مريم.
ليست البدْعة في أن تفرح الأمّة بميلاد رسولها، والتّذكير بمناقبه وسيرته وسُنّته، ولا في التعبير عن فرحتها بميلاده واعتزازها بالانتساب إليه. وإنما البدعة في أن تنحرف هذه الأفراح عن مقاصدها من الذّكر والشّكر والحمد والدّعاء والصّلاة على الرّحمة المهداة.. إلى زخارف وبهارج ومكاء وتصديّة. فمقصد الاحتفال هو إحياء ما عاش المُحْتفى به لأجله ومات في سبيله، وليس اتّخاذ المناسبة فرصة لتشويه سنّته وتحريف سيرته. فحقائق الإسلام ثابتة بالكتاب والسنّة وما سواهما فاجتهادات بشر متدرّجة في المراتب من الإجماع إلى الرّأي الرّاجح. وكل ما يقرّب العبد من ربّه فهو طاعة، وما يبعده عنه فهو معصيّة، والإفراط في التّقديس انحراف عن الجادّة والتّفريط في الغلق انحراف أيضا. والتوسّط بينهما هو المنهج القويم والصّراط المستقيم.

مقالات ذات صلة