الاحتلال اللّغوي
“الاحتلال(❊) العقلي” و”الاحتلال اللغوي” مصطلحان استعمل أولهما الأديب الأصيل مصطفى صادق الرافعي، واستعمل ثانيهما الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات، كما استعمل مصطلحا آخر هو “العبودية العقلية”، والمقصود من هذه المصطلحات وما يشبهها هو تلك الحال التي يكون عليها من انمحت شخصياتهم وذابت في شخصيات الأجانب، فأسلموا لهم عقولهم، ولووا ألسنتهم بلغاتهم، وقلدوا سلوكهم وتصرفاتهم..
لكل أمة – ولو لم تكن لها دولة – مجموعة من الثوابت لا تتغير بتغير الزمان، ولا تتبدل بتبدل الظروف، حتى إن قُدّر لتلك الأمة أن تتحول عن مكانها الأصلي الذي نشأت فيه حملت معها تلك المبادئ أنّى توجّهت ركائبها، وحطت رحالها…
وتعتبر اللغة في مقدمة تلك الثوابت التي سماها الإمام محمد البشير الإبراهيمي “المقومات”، وأكّد أن الأمة -أية أمة- “لا تكون أمة إلا بها”، لأنه من المستحيل على أبناء تلك الأمة أن يكونوا كيانا واحدا منسجما من دونها فهي – كما يقول الفيلسوف الألماني فيخته -: “رمز وجود الأمة، وبقدر أصالة اللغة، والمحافظة على اللغة الأصلية أو فقدانها تكون المجموعة البشرية أمة وشعبا أصيلا، أو مجرد أشتات فحسب (1)“، وقد عدّها “هي القوة الطبيعية الأولى للأمة (2)“، وأنها “وهي الأسمنت الذي يضمن تماسك الوحدة الوطنية (3)“.
وبعد دراسة عميقة لتاريخ المجتمعات البشرية يصل هذا الفيلسوف الألماني الأصيل إلى حقيقة نفسية – اجتماعية وهي “أن اللغة تؤثر في الشعب (فضلا عن الفرد (❊❊) المتكلم بها تأثيرا لا حدّ له، يمتدّ إلى تفكيره، وإرادته، وعواطفه، وتصوراته، وإلى أعماق أعماقه…(4)” إلى درجة “أن الشعب (فضلا عن الفرد (❊❊) المتأثر بلغة أجنبية يبتلع بدون شعور حتى الشتائم الموجهة إليه، ويتبنّاها، ويوجّهها إلى نفسه رغم أنها ضده (5)“.. ولهذا اعتبر فيخته إقبال بعض مواطنيه على اللغة الأجنبية (هي الفرنسية) والتهافت عليها مرضا “هو أصل جميع مصائبنا، وسبب الهوة التي تزداد اتساعا بين هذه الطبقة المترطّنة بلغة الأجانب.. والمقلدة لهم في الأخلاق وعامة الشعب المتمسك بأخلاق البلاد والمحافظة على لغته (6)“. وهذا ما ينطبق على كثير من المسئولين الجزائريين، وهو إلى كتابة هذه الكلمة.
إننا نقرأ ونشاهد ونسمع أن أبناء الدول المحترمة من أدناهم إلى أعلاهم يحرصون أشد الحرص، ويغارون أكبر الغيرة على لغاتهم، ويغلون في ذلك غلواّ شديدا، ويعتبرو المسّ بها مسّا بشرفهم، وإهانتها إهانة لكرامتهم، وإعزازها إعزازا لأنفسهم..
وما أنس مِ الأشياء لا أنس يوما من شهر سبتمبر من سنة 1966، حيث كنت في مطار أورلي بباريس صحبة الأخ الطيب سعدي – الطبيب الآن في مدينة تبسة – وكنا متوجهين إلى الكويت الشقيقة. ذهبنا إلى مكتب استعلامات في المطار لنسأل عن موعد الرحلة إلى الكويت.. وكان السائل هو الأخ سعدي الذي سأل الموظفة بلغة الإنجليز.. فإذا هي تنتفض كمن لدغتها حيّة، أو لسعتها عقرب وقال: يا سيد، على من يأتي إلى فرنسا أن يعرف لغتها..
شاهدت في التلفزة يوم السبت الماضي (9 – 3 – 2013) وزير الداخلية – دحو ولد قابلية – يشرف على تنصيب الولاة الجدد، موصيا إياهم بالاتصال بالجماهير، والتواصل المباشر مع المواطنين..
إن الخطيئة الكبرى هي أن وزير “السيادة” هذا كان يخاطب ولاة الجمهورية الجزائرية باللغة الفرنسية كأنهم ولاة فرنسيون..
هل سي دحو لا يعرف الحديث باللغة العربية؛ أم أن الولاة لا يفهمون اللغة العربية؟ وهذا غير صحيح لا بالنسبة لسي دحو ولا بالنسبة للولاة..
هل كان سي دحو يتكلم في قضية تقنية “تعجز” اللغة العربية، أو يعجز هو عن توضيحها باللغة العربية، أو يعجز الولاة عن استيعابها باللغة العربية؟ كلاّ، إنه كان يتحدث عن أمر عادي تعبر عنه عجائزنا الأميات بأفصح لسان وأوضح بيان..
لو كان في الحضور أجانب مثلهم كمثل الفتى العربي في شعب بوان – الذي تحدث عنه المتنبي – لقلنا إن سي دحو بالغ في إكرامهم إلى درجة انتهاك الدستور الذي ينص – لحد الان- على اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، أي أن وزير “سيادة” نزل عن لغة السيادة.
إن بعض مسئولينا “الكبار” يُبدِئون ويعيدون الحديث عن “قدسية” النشيد والعلم الوطنيين، ولسنا ضد ذلك، ولكن هل هما أكثر قداسة من اللغة الوطنية؟
إن النشيد والعلم الوطنيين قد نتفق نحن الجزائريين في أي وقت على تغييرهما، وللجزائريين أعلام بعدد الدولي التي أنشأوها منذ مسينيسا إلى الدولة الحالية، ولم يكن لنا نشيد وطني إلا منذ.. عهد قريب، ولكن ليس لنا لسان رسمي منذ أربعة عشر قرنا إلا اللسان العربي فأي الأمرين أحق بالتقديس إن كنتم تعقلون؟
إن حديث وزير الداخلية وغيره من المسئولين باللغة الفرنسية الموجه إلى المواطنين الجزائريين وباسمهم إلى غيرهم من الشعوب الأخرى لا يفسر إلا بأنه:
*) استنكاف عن الحديث باللغة العربية، بالرغم من أنها هي اللغة الوطنية والرسمية بنص الدستور الذي يقدسونه أكثر من القرآن الكريم. أو
*) شعور بالنقص أمام اللغة الفرنسية وأهلها.. أو
*) ازدراء للشعب الجزائري واحتقاره، إذ لا يهمهم أن يفهم ماذا يقولون.
وماذا لو اقتدى الولاة الذين نصبهم سي دحو، وراحوا هم أيضا يرطنون مع الجماهير الجزائرية باللغة الفرنسية التي لا يفهمونها، ولا يحبونها ولو فهموها؟ ولسنا مجبرين على حبها لحبكم لها، ولسنا مجبرين على تفضيلها لتفضيلكم لها على لغتنا، وإن كنتم ماتزالون محتلين ومستعمرين – عقلا ولسانا ونفسا – فإن الغالبية الساحقة من الجزائريين قد تحرروا، فمتى تتحرّرون؟
لقد وددت لو سافرت مع دحو ولد قابلية إلى أبي ظبي تلبية لدعوة من مسئوليها لأنظر بأي لسان سيتواصل معهم، ولا ريب في أنه تواصل معهم باللسان العربي، فلماذا – إذن – يحتقر مواطنيه ويحدثهم بلسان أجنبي في أمر داخلي؟
وأختم هذه الكلمة بما كتبه المفكر مالك ابن نبي منذ نيّف وأربعين سنة وهو: “إن المتمسكين بتقليد العدو في لغته وسلوكه وإدارته هم الذين يريدون صنع تاريخها – الجزائر – ابتداء من الصفر (7)“، كما أن “التعبير عن فكرنا باللغة الأخرى يكتسي أحيانا مظهر الجهل الكامل بالثقافة الوطنية، إذا لم يكن خيانة لها (8)“.
.
هوامش:
❊) يفرق الأستاذ ابن نبي بين الاحتلال والاستعمار، ويعتبر الاحتلال ألصق بالماديات، بينما الاستعمار ألصق بالماديات والنفسيات معا..
1) مولود قام نايت بلقاسم: إنّيّة وأصالة.. ص 56
2 – 3 – 4) المرجع نفسه. صص 61 و 68 و58
❊❊) ما بين قوسين زيادة من عندي.
5 – 6 ) مولود قاسم – المرجع نفسه. صص 58 و61
7 – 8) مالك ابن نبي مشكلة الأفكار في العالم الاسلام.. صص 141 و 145.