الرأي

الاضطهاد الديني ليس جزائريا

محمد بوالروايح
  • 1376
  • 10
أرشيف

 حينما تتخلى عن عقلك وتقرأ تقرير منظمة “هيومن رايتس واتش” عن اضطهاد المسيحيين في الجزائر يخيل إليك أن النظام في الجزائر شبيه بنظام “ميانمار” ومن على شاكلته من الأنظمة الشمولية العنصرية التي اتخذت الدين وسيلة للإجحاف واضطهاد الآخر المخالف، أو يخيل إليك أن المسيحيين في الجزائر يعانون تضييقا دينيا يحول بينهم وبين التعبير الحر والتعبد الحر، أو يخيل إليك أن الجزائر تقود حربا دينية ضد المسيحيين أشبه ما تكون بالحرب الدينية التي أعلنها “قسطنطين” ضد الأريوسيين الموحدين، أو يخيل إليك أن المسيحيين في الجزائر يعيشون خائفين مستخفين يخافون أن يتخطفهم الناس، أو يخيل إليك أن تعصب الجزائر ضد المسيحيين قد دفعهم إلى الاختفاء القسري فرارا بجلدهم وعقيدتهم مخافة أن يكتشف أمرهم فيطالهم النكال ويصفدون في الأغلال.

هذه باختصار هي الصورة السوداوية التي تنقلها منظمة “هيومن رايتس واتش” عن وضع المسيحيين في الجزائر وخاصة المسيحيين البروتستانت الذين يتعرضون –حسبها – لاضطهاد ديني منظم تمارسه السلطة الجزائرية رأسا أو تندب له من يمارسه نيابة عنها، صورة سوداوية تبين الوجه الحقيقي لهذه المنظمة التي لا تقرأ في تقاريرها إلا السواد والاتهام بالفساد وتقنين الاستعباد.

إن تقرير منظمة “هيومن رايتس واتش ” عن وضع المسيحيين في الجزائر قد جاء هذه المرة كما في كل مرة عاريا عن الصحة، محشوا بالاتهامات، خاليا من الإثباتات، ادعى واضعوه الموضوعاتية فخرجوا عن الموضوع، وادعوا الموضوعية فارتكسوا في التعصب المقيت الذي يتنافى مع الشعار الذي يرفعونه والحياد الذي يدعونه كمنظمة حقوقية همها الدفاع عن حقوق الإنسان بحيادية كاملة ومن غير خلفية مسبقة.

إن ما جاء في تقرير منظمة “هيومن رايتس واتش” ينكر ويتنكر لجهود الجزائر في مجال احترام حقوق الأقليات الدينية ولا أدل على ذلك من العدد المعتبر من الجمعيات المسيحية المعتمدة التي أعلنت احترامها لأحكام الدستور والقوانين والتنظيمات سارية المفعول. إن سياسة الجزائر في التعامل مع المؤسسات الدينية المسيحية وغير المسيحية قد تجلى بصورة واضحة في الأمر الرئاسي رقم 06-03 لسنة 2006 الذي يحدد شروط وقواعد ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين، ومما جاء فيه على سبيل المثال لا الحصر لا سيما في الفصل الأول المتضمن الأحكام العامة في المادة الثانية منه أن الدولة الجزائرية التي تدين بالإسلام تضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية في إطار احترام أحكام الدستور وأحكام هذا الأمر والقوانين والتنظيمات سارية المفعول واحترام النظام العام والآداب العامة وحقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.

 ليس هناك حرية مطلقة فالحرية المطلقة مفسدة مطلقة ويبدو أن منظمة “هيومن رايتس واتش” تريد أن تتجاهل هذه القاعدة التي لا تمثل استثناء جزائريا بل هي قاعدة عامة في التعامل مع المتدينين وغير المتدينين، وأتحدى هذه المنظمة أن تكشف عن حالة منع واحدة لجمعيات دينية مسيحية أو غيرها من حرية ممارسة الشعائر الدينية، أما أن تتحول حالات العصيان الديني ومخالفة أحكام الدستور وتحدي إرادة السلطة والخروج عن الآداب العامة عينة للاتكاء عليها والادعاء بما تسميه منظمة “هيومن رايتس واتش” اضطهادا دينيا للمسيحيين في الجزائر فهذا بيقين شكل من أشكال تبرير العصيان تحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان.

ومن الأحكام العامة الوارد في الأمر الرئاسي سالف الذكر والمتعلقة بالإطار القانوني والتنظيمي لحرية ممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين ما جاء في المادة الثانية من أن الدولة الجزائرية تضمن التسامح والاحترام بين مختلف الديانات، وما جاء أيضا في المادة الثالثة من أن الجمعيات الدينية لغير المسلمين تستفيد من حماية الدولة، وما جاء في المادة الرابعة من أنه يحظر استعمال الانتماء الديني كأساس للتعبير ضد أي شخص أو جماعة.

إن موقف الجزائر من الجمعيات الدينية -بما فيها الجمعيات الدينية المسيحية- لا يؤخذ من تقارير منظمة “هيومن رايتس واتش” ولا مما ينشره المتحاملون على الجزائر، المنفذون لأجندات من يستعملهم، وإنما يؤخذ من أقوال المسيحيين المنصفين الذين يعيشون بين ظهرانينا منذ مدة ويمارسون شعائرهم الدينية بكل حرية ونلتقي وإياهم على مائدة حوار واحدة في مختلف الفعاليات والندوات العلمية والثقافية، إن من أقوال المسيحيين المنصفين عن المعاملة اللائقة التي يحظى بها المسيحيون في الجزائر ما يفند مزاعم منظمة “هيومن رايتس واتش ” وأخواتها من المنظمات الحكومية وغير الحكومية التي تنشر تقارير مغلوطة عن وضعية حقوق الإنسان وحقوق الأقليات الدينية في الجزائر.

لقد جمعتنا ندوات مشتركة مع بعض المسيحيين من ذوي الفكر الديني المتفتح والمتسامح ولم نلمس فيهم ولم يلمسوا فينا في مجال التعامل الديني والفكري والإنساني إلا ما يثلج الصدر وما يؤكد أن الاضطهاد الديني ليس جزائريا، ومما قاله رئيس أساقفة الجزائر الأسبق “هنري تيسي” في هذا المجال على هامش ملتقى روحانيات تلمسان الذي عقد منذ سنوات: “أعيش منذ ست وستين سنة بالجزائر بسلام ولم أتعرض لأي أذى، وتربطني علاقات أخوة وصداقة مع الجزائريين وجميع المسلمين “. ولمنظمة “هيومن رايتس واتش” أن تسأل المسيحيين المنصفين ممن يعيشون في الجزائر منذ مدة ليخبروها عن الوضع الحقيقي للمسيحيين في الجزائر خلافا لما ينشره إعلامها المغرض الذي لا يروم كشف الحقيقة بقدر ما يروم إثارة الشبهات ونشر الأراجيف والتخاريف التي لا يصدقها إلا من عطلوا عقولهم وباعوا ضمائرهم.

من الحقائق التي تسندها الوثائق في مجال احترام الجزائريين لحقوق غير المسلمين الموقف الإنساني الذي وقفه الأمير عبد القادر تجاه النصارى العالقين والمحاصرين في أثناء حرب دمشق الشهيرة بين الدروز والمسيحيين عام 1860م، ولا تزال أخلاق النصرة وأخلاق التسامح التي تحلى بها الأمير عبد القادر سارية متوارثة في المجتمع الجزائري جيلا بعد جيل، ولمنظمة “هيومن رايتس واتش” إذا أرادت فعلا معرفة الحقيقة أن تعود إلى يوميات الإنسان المسيحي في الجزائر لتعرف حجم الاحترام الذي يجده من كل شرائح المجتمع -إلا من شد منهم والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه-، وأتحدى هذه المنظمة ومن معها ومن وراءها ومن يمدها بالأفكار النشاز أو يحركها من وراء الستار أن تذكر حالة معاملة عنصرية جزائرية لرعية مسيحية أو غيرها، وأتحداها قبل ذلك أن تذكر حالة معاملة عنصرية للرموز الدينية المسيحية وغيرها حتى في زمن الثورة رغم أن الجزائر كانت في حالة حرب وهي الحالة التي اتخذتها بعض الثورات مبررا للاعتداء على الآخر بدعوى حماية الثورة، فوثائق الثورة الجزائرية وبيان أول نوفمبر تشدد كلها على عدم التعرض لرجال الدين والمدنيين الفرنسيين بسوء وهو ما أكسبها تعاطفا واحتراما دوليا، فمتى تفهم منظمة “هيومن رايتس واتش” فحوى هذه الرسائل الجزائرية وتتخلى عن ضلالها القديم وتنصت لنداء العقل وتؤمن بأن الاضطهاد الديني ليس جزائريا؟.

مقالات ذات صلة