الاقتصاد الجزائري يبحث عن حلول وهمية
ارتفاع التضخم، ارتفاع الواردات، وبالمقابل انهيار الإنتاج الصناعي، وخلل في السوق، وعجز شامل في مواجهة القضايا الاقتصادية الساخنة… هذا ما يميز الاقتصاد الجزائر، الذي ارتكب خطأ أساسيا في تشخيص المرض.
كيف يمكن لبلد يستورد نصف مليون سيارة سنويا أن يبقى في وضع لا ينتج فيه سيارة واحدة، بل يعجز ولسنوات طويلة حتى في تنظيم مفاوضات من أجل بناء مصنع للسيارات؟
تحوّل نشر الأرقام حول الاقتصاد الجزائري إلى هاجس يثير قلق كل من يتابع الملف، حيث أنه يحمل دائما نتائج تخيّب الظن أكثر مما كان منتظرا. وساء تعلق الأمر نسبة النمو أو بالتضخم أو ارتفاع الأسعار أو تراجع النسيج الصناعي، فإن كل الأرقام تتسارع في نفس الاتجاه. ولم يبق للجزائر إلا من أرقام ترتفع إلا تلك المتعلقة بمخزونها من العملة الصعبة الناتجة عن بيع المحروقات وكذا الواردات التي انفجر حجمها ليصل إلى مستوى مخيف.
ويتواصل هذا الزحف رغم تحذير الأصدقاء وتعاليق المؤسسات الدوليات والتنديد المتكرر من المعارضين، ورغم اعتراف الحكومة نفسها بعدم جدوى سياستها في إعادة إنعاش الاقتصاد الوطني، خاصة منه الجانب المتعلق بالإنتاج. وتبقى الحكومة تتصرف وكأنها لا تسمع ولا ترى، ولا تعقل، رغم أن المعطيات متوفرة بين أيديها، وتؤكد أنها لم تتمكن لا من تنظيم السوق، ولا من وضع قواعد كفيلة لتنظيم النشاط الاقتصادي بصفة عامة، ولا حتى من تنظيم الحياة وتوفير الظروف لعيشة لائقة في المدن الجزائرية.
هذا ليس كلاما نابعا من عدو ولا حتى من معارض. إنه كلام أعضاء الحكومة نفسهم، وكلام الوزير بالدرجة الأولى. لقد قال السيد عبد المالك سلال إن أولويات الحكومة ستتمثل في تنظيف المدن وإعادة تنظيم قطاع الخدمة العمومية. ونفهم من ذلك ضمنيا أو صراحة أن المدن الجزائرية ليست نظيفة، وأن الخدمة العمومية لا تقدم الخدمات المنتظرة منها. واعترف السيد سلال بهذا الوضع وتكلم عنه صراحة في أول تصريح بعد تعيينه، ما يؤكد أن الموضوع بلغ درجة من الخطورة دفعت الحكومة نفسها إلى وضعه ضمن الأولويات.
أما في الميدان الاقتصادي، فإن إخفاق الحكومات المتتالية أمر لا يطعن فيه أحد. وقد أكد صندوق الدولي أن نسبة النمو في الجزائر ستقتصر على 2.4 بالمائة هذه السنة بعد أن تراجعت إلى 2.11 بالمائة سنة 2011 . ولا بد أن نتساءل كيف يمكن لبلد مثل الجزائر، توجد فيه إمكانيات هائلة للتمويل وطلب ضخم، كيف يمكن له أن يقتصر على نسبة نمو لا تتجاوز 2.4 بالمائة؟ كيف يمكن لبلد يستورد نصف مليون سيارة سنويا أن يبقى في وضع لا ينتج فيه سيارة واحدة؟ وكيف يعجز أن ينتج السيارات، بل يعجز حتى في تنظيم مفاوضات من أجل بناء مصنع للسيارات رغم تغيير الوزراء وانفجار السوق الجزائرية إلى حجم غير معهود؟
وبعد عشرية من الثرثرة والنقاش والكلام الفارغ، كنا نعتقد أن الوضع أصبح ناضجا لمحاربة نقائص الاقتصاد الجزائري، مثل التراجع المستمر للإنتاج الصناعي. لكن الحكومة الجديدة قررت تكوين لجنة جديدة من الخبراء لدراسة الوضع وتحديد استراتيجية جديدة. أين استراتيجية عبد الحميد تمار والوثائق التي أنتجها الخبراء والمختصون في عهده؟ أين الملفات التي دفعت الحكومة الكثير لمكاتب الدراسات من أجل تقديمها لـ”السلطات المعنية”؟ ومن الواضح أن تشكيل هذه اللجنة يعني أن الجزائر ستقضي مرحلة جديدة في الثرثرة والكلام الفارغ قبل الوصول إلى أي حل.
وإلى جانب هذا الإخفاق في الميدان الصناعي، نشير إلى أن آخر الأرقام الاقتصادية تشير إلى أن نسبة التضخم قد بلغت 7.7 بالمائة في أوت الماضي، وأنها في ارتفاع مستمر من شهر لآخر منذ بداية السنة. وقد بقيت الحكومة مكتوفة الأيدي أمام هذا الوضع الذي يحطم التوازنات الكبرى للاقتصاد.
هل كانت الحكومة على علم بهذه المعطيات المتعلقة بنسبة النمو وانهيار الإنتاج الصناعة وارتفاع الواردات حجما وقيمة وارتفاع نسبة التضخم؟ بالتأكيد. هل حاولت أن تواجهها؟ هذا محتمل. هل أخطأت الحكومة في طريق مواجهة هذه القضايا؟ بالتأكيد، لأن الوضع زاد تدهورا. لكن الحكومة لم تدرك حقيقة أساسية وبسيطة: إن الحكومة لا تملك الوسائل الضرورية لمواجهة هذه القضايا. وقبل أن تطمح إلى محاربة التضخم وضعف الاقتصاد وارتفاع الواردات، يجب على الجزائر أن تبني المؤسسات الضرورية لذلك، مما يعني أنه يجب على الجزائر أن تبني وزارات حقيقية، تحدد سياسة اقتصادية حقيقية، وتناقشها مع برلمان حقيقي، وتقوم بتطبيقها مع إدارة حقيقية، ومؤسسات اقتصادية حقيقية، لتخدم مواطنين حقيقيين. أما ما تقوم به حاليا، فهو لا يختلف عن جلد عميرة.