-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البيداغوجيا ورهانُ الاحتواء

عيسى جرّادي
  • 435
  • 0
البيداغوجيا ورهانُ الاحتواء

لا مدرسة بلا بيداغوجيا مصمَّمة على نحو هادف وسليم، تقود النظام التربوي إلى تحقيق غاياته الكبرى بوضوح وفعالية، بل يمكن القول إن البيداغوجيا هي المدرسة، فالتلميذ يُغذى بالمحتوى البيداغوجي وليس بشيء آخر، ومخرجات المدرسة في نهاية المطاف هي نتاج ما يتلقاه التلميذ أو الطالب، فعطاؤه اللاحق اجتماعيا ووظيفيا سيكون من جنس ما أخذ.
والحاصل أن أي فشل أو عجز يعتري المدرسة، يجب أن تُلتمس أسبابه ابتداءً في البيداغوجيا لا في غيرها، قد تبدو بعض الأسباب التنظيمية والهيكلية ذات تأثير أيضا، لكنه يظل تأثيرا محدودا ويمكن معالجته، أما عقدة البيداغوجيا فيصعب حلها، فحيث تنحو البيداغوجيا تنحو المدرسة أيضا.
من هذا المنظور يمكن تفسير محاولة التيار التغريبي، وباستماتة، احتواء البيداغوجيا. تجلى ذلك على مستوى أعمال اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، التي تمثل مخرجاتها –وإلى اليوم– الإطار التوجيهي للمدرسة الجزائرية، أو في المبادرات اللاحقة التي تناولت موضوع البيداغوجيا، من ناحية تطوير المناهج ووسائل الدعم تأسيسا بمقترحات اللجنة المذكورة، أو حتى ما بادرت به “اللجنة الوطنية للمناهج” التي أنشئت في 1998 قبل ذلك بقرار وزاري.
عبر هذه المسارات -التي قيل إنها إصلاحية- تجلت نية هذا التيار في إعادة صياغة بيداغوجيا المدرسة الجزائرية، بنيّة إعادة صياغة ذهنية الطفل الجزائري، أي ما سيتحلى به تلميذُ اليوم مواطن الغد.
تقديري أن إصلاح التعليم عنوان كبير وجذاب إلى حد بعيد، لكنه لا يفصح عن هويته إلا لمن خبِره عن قرب وأبصره من الداخل، إذ تبرز الخلفيات والأهداف الخفية، أما ما يرشُح على السطح إعلاميا أو سياسيا، فليس أكثر من وهج سرعان ما يخبو، ومشروع الإصلاح الذي بادرت به اللجنة المذكورة تضبطه غايتان كبيرتان، الأولى هي اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية من باب أن اللغة هي وعاء الفكر، وفي هذا محاولة إكساب هذه اللغة امتيازا فقدته، والأخرى هي تكييف برامج المواد الإنسانية من منظور الإنسان المراد بناؤه.

من هنا سنكتشف أن التركيز قد انصبّ على مواد الشخصية الوطنية التي يراد صياغة برامجها ووثائق الدعم الخاصة بها، أي الكتاب والوثائق المرافِقة، لتصبّ في الهدف غير المعلن أي تحقيق تربية يقال عنها “عالمية ومتفتحة وعصرية”، لكنها في الواقع تربية لها مدلولها الخاص من وجهة نظر التيار التغريبي.

عمليا، سقط المشروع الأول بردّه على مستوى مجلس الوزراء، وذلك كان نكسة لأصحابه، وإن حاولوا تجاوزه باعتماد ما سمّي “الرموز العالمية”، وبقي المشروع الآخر، وهو محور الصراع الحقيقي إلى اليوم.
إن معضلة البيداغوجيا عندما يتعلق الأمر بهوية المدرسة الجزائرية، لا تكمن في المعارف التقنية أو العلمية الصرفة، فهذا اللون من المعارف –وإلى حد بعيد– يمكن اعتباره محايدا، فعلوم الطبيعة والحياة والتكنولوجيا والمعلوماتية والرياضيات لا تتسم بأيِّ خلفية أيديولوجية أو مجتمعية إلا في أوضاع معينة، على غرار بعض النظريات العلمية التي تصادم العقيدة الدينية للمسلم (فكرة تطوُّر الأحياء مثلا)، الثابت أنّ المشكلة تكمن في المعارف الإنسانية، تلك التي تلمس بصفة مباشرة عناصر الشخصية الوطنية، وتشمل على وجه التحديد ثلاث مواد هي اللغة والدين والتاريخ، هنا يتزاوج الخطر والتحدي معا.
أذكر كيف كان الرهان قويا على مستوى اللجنة الوطنية لإصلاح المنظومة التربوية، لاحتواء اللجنة الفرعية الأولى المكلفة بـ”الإصلاح البيداغوجي”، إذ ورد في النص الناظم لأشغالها أن تتولى هذه اللجنة دراسة البرامج والطرق البيداغوجية والتعليمية وتدريس اللغات الأجنبية، والبحث البيداغوجي، والتعليم الفني، والتكفل بالنشء الصغير… ومن ثمّ، الالتفات إلى اللجان الفرعية الأخرى، بقدر ما تم وضع اليد على لجنة الإصلاح البيداغوجي.
ومن بادر بفكرة الإصلاح أصلا، كان يستهدف الإجهاز على أمرية 1976 بما تمثله من مرجعية وطنية أصيلة، مقابل إحلال قانون توجيهي بدلها، قانون يستلهم مخططه العام (غايات وأهدافا) من مرجعية بيداغوجية جديدة، يمكن القول عنها إنها مبتورة الصلة بما أشار إليه رئيس الجمهورية السابق عبد العزيز بوتفليقة في خطابه الذي ألقاه أمام أعضاء اللجنة نفسها، حين أكد على (إن إصلاح المدرسة رهانٌ جوهري بالنسبة إلى المجتمع الجزائري برمته، ذلك لأن الاختيارات التي ستتخذ يُنتظر منها التعبير عن التمسك بقيم تراثنا الثقافي والحضاري، والتعبير كذلك عن الطموح المشروع لشبابنا إلى بناء مستقبله، ضمن مجتمع ديمقراطي، وعصري، ومتفتح على العالم).
وإذْ واجهنا ملابسات سياسية في تسعينيات القرن الماضي بلغت حد التشكيك في طبيعة المجتمع الجزائري، وكأننا لم نكن مجتمعا قائما بذاته حتى نبحث عن هوية مجتمع جديد، فإن الساعين إلى مدرسة جديدة، أوجدوا لأنفسهم موطئ قدم، هو بمثابة منفذٍ يسع أهدافهم غير المعلنة، ففي نطاق الصلاحيات الممنوحة للُّجنة (المادة 5 من نص الرسالة المتضمنة تحديد مهمة اللجنة)، مُنح هؤلاء امتياز اقتراح (تدابير عاجلة لتطبيقها في ميادين ذات أولوية مباشرة مع الدخول المدرسي الذي يلي تاريخ تنصيبها)، فما هي هذه التدابير يا ترى؟
ليست أكثر من محاولة فرض نوع من الأمر الواقع، باستباق التقرير النهائي للُّجنة، والذي قد لا يكون بالضرورة مضمون النتائج كما يتوقعونها، خاصة ما تعلق باللغة الفرنسية التي أريد لها أن تستعيد موقعها السابق في المدرسة الابتدائية، ليتسنّى بسهولة بسطها في المراحل التعليمية التالية.
من هنا سنكتشف أن التركيز قد انصبّ على مواد الشخصية الوطنية التي يراد صياغة برامجها ووثائق الدعم الخاصة بها، أي الكتاب والوثائق المرافِقة، لتصبّ في الهدف غير المعلن أي تحقيق تربية يقال عنها “عالمية ومتفتحة وعصرية”، لكنها في الواقع تربية لها مدلولها الخاص من وجهة نظر التيار التغريبي.
في المقالات التالية، سأتناول الملابسات الخاصة بكل مادة، وكيف تم التلاعب بمضامين الإصلاح، بعيدا عن الضوابط التي كان من الضروري أن تحكم العملية برمّتها، وأعني بذلك تحديدا:
– إصلاح بيداغوجي من أجل التطوير والمواكبة، لا من أجل إعادة توجيه مسار المدرسة، لتصب في مجرى توجهات تغريبية.
– في نطاق قيم المدرسة الجزائرية لا على حسابها، فالتلازم قائم حتما بين ثقافة المجتمع وفلسفة التربية التي تقوم عليها هذه المدرسة.
– تحقيق إصلاح قائم على الإجماع، وليس بإرادة أقلية مستلبة ثقافيا، تنكر مقومات الهوية الوطنية.
– التدرج في الإصلاح وليس الاجتثاث، التأني وليس الاستعجال.
– من أجل المجتمع، أي باستيعاب تحديات المستقبل، وفي نطاق رؤية مجتمعية شاملة، وليس من أجل أهداف غامضة تحكم أهواء أقلية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!